قاسم: سنبقى مدينين لجهاد الشيخ عبدالأمير الجمري
احتشدت جماهير غفيرة مساء أمس في الساحة المقابلة لمقبرة بني جمرة في الحفل التأبيني السنوي الأول لرحيل الشيخ عبدالأمير الجمري الذي تستمر فعالياته حتى مساء اليوم. وفي بداية الحفل، عرض رئيس تحرير صحيفة «الوسط» منصور الجمري نماذج من حياة الشيخ الجمري الذي اكتسب من خلالها حب الجماهير قائلا:« إن اليوم الذي توفي فيه الوالد لم يكن يوماً عادياً، وكان من أبرد أيام السنة وكانت الحشود تفد بشكل لم تشهده أية جنازة في تاريخ البحرين. وكانت الترتيبات تجرى بسرعة بمشاركة مجموعة من العلماء والأعلام، واضطررنا إلى نقل الجنازة سراً إلى منطقة في وسط منطقة البديع بعد أن سرت الأخبار بوجود أعداد هائلة تسعى للمشاركة في المسيرة، وكانت المسيرة كبيرة جداً بحيث لم يكن المشاركون في الصف الأول من الجنازة يسمعون من بآخرها».
وعاد رئيس تحرير «الوسط» بذكريات الحضور إلى اللحظات الأخيرة من توديع الشيخ الجمري، مشيراً إلى أن» إدخال الجنازة إلى القبر كان من أكبر التحديات، وساعد البرد القارس في تفريق الجموع، ولولا هذا البرد لما فارقت الجماهير القبر حتى أصبوحة اليوم التالي، وكان الشباب يعملون جاهدين لحماية القبر من الاندثار، كل تلك مشاهد لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، والسؤال الذي ظل يطرق مخيلتي هو: ما الذي كان يربط هذه الجماهير بالشيخ الجمري؟...».
وقال الجمري:« للإجابة عن هذا السؤال لابد أن نطوف بمحطات حياة الشيخ الجمري، ففي العام 1973 عندما عاد الوالد لترشيح نفسه للمجلس الوطني للدائرة الرابعة عشرة التي تضم قرى عدة كانت الدوائر موزعة بصورة عادلة أكثر من الوضع الحالي، ورشح نفسه وذهب في عدة زيارات وذهبت معه بمعية الشيخ عيسى قاسم إلى نادي البديع وهناك التقى بالأهالي وشرح لهم الأهداف التي يسعى لها من ترشحه، وأتذكر أنه أشار عندما زاره وفد من البديع أن مشاكلهم هي مشاكل القرى الأخرى».
وأوضح الجمري أن مجلس الشيخ عبدالأمير في بني جمرة كان مركزا للكتلة الدينية، وكان يذهب إلى المجلس الوطني في كل يوم وملئه النشاط، وفي أحد الأيام دخل مجلسه وهو حزين، وكان جوابه حين سألنا « لقد أغلقوه» وكان ذلك في العام 1975 عندما رفض الشيخ الجمري ومجموعة من النواب قانوناً لحبس الناس لمدة 3 سنوات بمجرد الشك فيهم.
وقال:«لقد كان الجمري يتحرك في المجتمع، ويسعى إلى توحيد كلمة علماء الدين وخطباء المنبر الحسيني (...) الجمري شخصية اعتصرت بألم الناس، وكان يردد عندما ساوموه في عدة مرات: «كل أبناء الشعب أبنائي» ولم يوقف أي شيء رغم أن مراقبته استمرت لمدة 20 عاما!... لقد كان وقوفه إلى جانب الفئات المحرومة، وأبناء الشعب، كل ذلك أسهم في تأصيل الحب بينه وبين الجماهير التي شيعته في أضخم مسيرة عرفها تاريخ البحرين».
وألقىالشاعر جعفر الجمري قصيدة بهذه المناسبة تناول فيها مفاصل من شخصية الشيخ عبدالأمير الجمري.
من جهته ألقى الأمين العام لجمعية العمل الإسلامي الشيخ محمد علي المحفوظ كلمة قال فيها: «أننا ننتمي إلى دين يحمل أتباعه المسئولية، ولأننا ننتمي إلى دين يدعو أتباعه إلى الحق ورفض الظلم، ولأننا ننتمي إلى دين يدعو إلى الخلق... ولأن الشيخ الجمري تربى في هذه المدرسة، بل وكان من رواد منابر ثورة الإمام الحسين (ع) التي علمت الناس كيف يحملون الحق ويتحملون المسئولية وكيف يحملون الأخلاق، ولأننا ننتمي إلى هذا الدين العظيم، فمن الاستثناء ألا يخرج من يحمل هذه الأخلاق».
وأضاف «لأن العلماء ورثة الأنبياء، فمن الطبيعي أن مسيرة ذات الشوكة لابد أن يمر بها العظماء ومن يحملون على عاتقهم التطلعات والطموحات ومن يتحملون إغاثة الملهوف وإعانة المظلوم، ومن الطبيعي أن يتحمل الجمري هذا الطريق، طريق ذات الشوكة والصعوبات. لقد تحمل الجمري ما تحمله من صعوبات، بين سجن وإقامة جبرية ومرض، ورحل تاركاً هذه الأجيال من دون وضوح المصير، ولذا كان الفراق صعبا على الجمري وصعباً على محبيه».
وتعرض المحفوظ في كلمته إلى محطات رئيسية في حياة الجمري، ففي المحطة الأولى كان سماحة الشيخ الجمري صاحب مشروع كبير وهو تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتنظيم الواقع السياسي، ولخص مشروعه في شعار البرلمان وتحدث عن ضرورة مجلس نيابي ينظم العلاقة السياسية في أي مجتمع. وقد تحمل ما تحمل من أجل أن ينجح المشروع، وتعاون مع الناس وتعاون مع الأطياف المختلفة وكان واضحا أمام نفسه وأمام الناس.
وقال: «في المحطة الثانية، استطاع أن يجمع الناس من حول مشروعه ليدفع البلد باتجاه حراك سياسي واجتماعي جديد، وبقي صامدا حتى بعد غربة السجن والإقامة الجبرية واجتمع حوله الناس لأنهم يرون فيه الأمل... وفي المحطة الثالثة أن الشيخ الجمري بقي وفيا لمشروعه حتى بعد أن جيء بالبرلمان».
وتحدث رئيس المجلس الإسلامي العلمائي الشيخ عيسى قاسم عن شخصية الشيخ الجمري قائلا: «بُعدان لشخصية أبي جميل رحمه الله، بعدها الديني وبعدها السياسي، ليس لأن شخصيته اقتصرت على هذين البعدين؛ التقت شخصيته ببعد خط الله من خلال وحي الفطرة والبصيرة، فكان هذا الخط هو الخيار الاستراتجي في حياة هذه الشخصية على الإطلاق. وأن تبرز أبعاد أخرى لهذه الشخصية إنما هي امتداد من هذا البعد، وما زاد في تأصيله وعيه وبصيرته النافذة في هذا المجال».
وأضاف: «لا أظن ولا يظن عاقل بأن شخصية تمتلك الثبات على الطريق وأن تكون رسالية بحق وأن تستعلي على الدنيا، مغرياتها وتحدياتها. لست أظن أن شخصية يمكن أن تمتلك ذلك كشخصية صنعها الدين. وليس المهم في الكلام، وإنما بالمضي في طريق يأمر الله به وهو أمر فوق كل الحسابات الدنيوية ».
ولفت قاسم إلى أن الشيخ الجمري بقي ثابتا على الخط الإلهي، ومن هذا البعد كان نهجه السياسي... وكان للشيخ الجمري مع بقية العلماء مساع لتحريك القضية وكان للظروف حكمها، وكان للكبار تقديراتهم، وهناك حديث عن الانتفاضة وحديث عن مواجهة الفساد، ليس بمعناه الاصطلاحي السائد ولكن بمعناه اللغوي العريض الشامل، أصل مواجهة الفساد في الأرض، المنكر والظلم وتهميش الإنسان لإنسان وأكل القوي للضعيفة، الميل عن خط الكون، العدل والتكامل، كل هذا الانحراف مواجهته فرض في الإسلام لا يتخلى عنه.
وأضاف: «أما الانتفاضة فأسلوب، والأساليب متعددة، والحكومات هي من تتحكم في هذه الأساليب، وبدأت المطالبة من خلال المسجد وبعد أن يأس الناس دفعهم الوضع إلى الانتفاضة وأخذت شوطها، وجاء يوم الميثاق واختار الناس أن يعطوا كلمتهم للميثاق على أمل الإصلاح». وقال قاسم: « إذا جئنا لتجربة المجلس النيابي التي وضعت الحكومة على المحك وأمام الامتحان العملي الجدي، وهو فرصة أمام الحكومة لتعزز في نفوس الناس الإيمان بقيمة الحوار وبقيمة الكلمة».
ونوه قاسم إلى أن « الشيخ الجمري أكبر من قضية وطن، لا يمكن أن نقوقعه في قضية وطن فضلا عن أن نقوقعه في قضية برلمان. سنبقى مدينين له لجهاده وصلابته، وتقديمه لمثل كبير في الصمود على خط الله، وقد علمنا تاريخ الإسلام بأن الرجالات من صنع الإسلام هم الأكثر تضحية».
وفي ختام الحفل عرض الجزء الأول من الفيلم الوثائقي (ملحمة الصمود) عن حياة الراحل الكبير الشيخ عبدالأمير الجمري على أن يستكمل الجزء الثاني مساء اليوم ضمن فعاليات إحياء الذكرى السنوية الأولى للرحيل.
منقول من الوسط
Friday, January 11, 2008
منقول
كلمة سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري في قرية السنابس-مأتم بن خميس- ليلة
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمدٍ
وآله الطاهرين،وأصحابه المنتجبين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الأحبَّة : عظَّم الله أجورنا وأجوركم بالحسين(ع) وأهل بيته وأنصاره.
وإنا لله وإنا إليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، وبعد:
فقد قال الإمام الحسين(ع):{ الناس عبيد هذه الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم
يحوطونه ما درَّت معايشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون}.
أحبَّتي نحن مع نصٍ وثائقي من نصوص الثورة الحسينية، نفهم من خلاله كيف
نصنع الموقف عند التحديات، وعند ما تكون الرسالة قد اُعُتدي على قدسها، ومن
هو الذي يصنع الموقف. أجل: من يصنع الموقف؟ من يصنع التاريخ؟ سؤال نطرحه
هنا وهنا نقرأُ هذا النص الوثائقي: هل يصنع الموقف الكسالى والمتقاعسون؟ أم
يصنع الموقف الجبناء والمُتلوِّنون بألف لون ولون؟!. لا نجهل جميعاً أنَّه
في وقت الرخاء والعافية نسمع الأصوات تتعالى، ويكثر الصراخ والضجيج، وترتفع
الشعارات والرّايات... كما لا نجهل أنَّه في حالات الشدَّة وساعات الضيق
نسمع التعقُّلات، والتّبريرات للصمت والسكوت، وتتلوَّن المواقف، ويكثر
المشكِّكون والمتلوِّنون، أين إذن نحن نرجو ونأمل الموقف الصحيح الإيجابي
الفاعل؟ هل نرجو أن نرى أهل الأصوات المتعالية حال العافية المتعيقلة حال
الضيق هل نرجو منهم أيَّ موقف شجاع؟! نعم يعطونك موقفاً، ولكن أيُّ موقف
هو؟ أما أن يكون موقفاً انهزامياً أو موقفاً زئبقياً!! وكلا النوعين من
المواقف مرفوض، سواءً المواقف الإنهزامية أو الزئبقية... والمشكلة الكبرى
ليست مع المواقف الإنهزامية، فأصحابها واضحون، وأنت تعرفهم وتدرك وضعهم
وحجمهم ونوعيَّتهم، ولكن المشكلة- أيها الأحبَّة- مع المواقف الزئبقية،
فهؤلاء ليسوا صرحاء،يكلِّمونك بصراحة، ويتعاملون معك بصراحة، وإنَّما
يتلوَّنون بألف ولون.
أحبَّتي: نحن حينما نتحدَّث عن الموقف- الذي هو الإنسان، هو كلّ شيء منه،
فالحياة موقف- لا نتحدَّث عن الحماس والإنفعال والفوضى والصراخ، كلاّ
وإنَّما نتحدَّث عن الموقف الواعي الذي ينبع عن وعي ودراسة، بعيداً عن
السذاجة والتّسرُّع والإنفعال، الموقف الذي هو نتيجة وعي، وهذا الوعي نتاج
خبرة وممارسة، فمثل هذا الموقف أقل خطأً، نعم الموقف التقوائي، وأعني
بالتقوى التي تُحرِّك في الإنسان روحَ المبادرة للعمل خوف غضب الله إذا
تقاعسَ وقصَّر في القيام بالواجب... الموقف الهادف، فموقفٌ بلا هدف هو موقف
ساذَج عشوائي فوضوي. الموقف النابع من بصيرة وإرادة، فالموقف الناجح يحتاج
فيما يحتاج إليه، إلى عنصرين رئيسيين: البصيرة والإرادة.
أجل- الموقف أيُّ موقف يحتاج لدراسة وتشخيص ثم لإرادة قويَّة قبل الفعل.
أحبَّتي: الحسين(ع): حينما تحرَّكَ لم يكن تحرُّكُه انفعالياً أو حماسياً،
بل تحرّك بعد دراسة وتشخيص وبإرادة بمنتهى الصلابة، فعل ذلك قبل أن يتحرَّك
أجل تحرَّكَ بعيداً عن الحماس والإنفعال. استمع إليه كيف يقدِّم تحليله
للموضوع، يقول(ع):{ يزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا
يُبايعُ مثله} وبعد أن تفوَّهَ بهذا الكلام، وأعطى هذا التصريح لم يدخل
المسجد ويعتكف ويترك يزيد يعبث بالإسلام كما فعل غيره من اللاّ عمليين، من
السلبيين، من الإنهزاميين، ولم يهرَب إلى اليمن أو يلحق بالجبال كما اقترح
عليه من اقترح....بل قالها صريحةً مدوّيةً، وفعَّلها، وطبَّقها، وتحمَّل كل
نتائجها، قال {ومثلي لا يُبايعُ مثله}. أحبَّتي: لم يكن الحسين(ع) في موقفه
انهزامياً ولا زئبقياً، ولم يكن ساذجاً جاهلاً بعاقبة ونتائج موقفه، بل كان
مستعدَّاً لمواجهة وتحمُّل كل النتائج حيث قال:{ إنَّ الدنيا قد تغيَّرت
وتنكَّرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء وخسيس عيشٍ
كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعملُ به، وإلى الباطل لا يُتناهى
عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقّاً، وإنِّي لا أرى الموت إلا سعادةً،
والحياة مع الظالمين إلا بَرْماً}. أجل- حينما تُهدَّد المقدَّسات، ويكون
الموقف مطلوباً فلا مجال لتبرير التخلُّف، ولا مجال للتسويف والمراوغة.
فالموقف المطلوب اليوم هو غيره غداً، والموقف المطلوب من العالِم والمثقَّف
هو غيره من الشخص العادي. وهنا المحك،وهنا التحدّي، وهنا يسقط رجال ويصعد
آخرون، وهنا تتكشَّف الأقنعة وتسقط البراقع والعناوين. وقد يكون- أيها
الأحبَّة- موقف شاب مخلص أفضل عند الله من موقف عالِمٍ أو مثقَّف مهما بلغ
في علمه أو ثقافته. صحيح نحن جميعاً نؤمن بأنَّ {مداد العلماء أفضل من دماء
الشهداء}. لكن لماذا؟ لأنَّهم يُشخِّصون الموقف ويُحدِّدون الأسلوب، وليس
لأيِّ سبب آخر. ما أريد أن أقوله هو: إنَّ الإسلام اليوم يحتاج لصنَّاع
المواقف السياسية والإجتماعية.
أيها الأبناء والبنات: فكما كنتم في المرحلة السابقة حاضرين في الساحة،
واضحين في المواقف فكذلك اليوم، نحن جميعاً مطالبون بالمواقف، ولكن مواقف
سياسية فيها أساليب سياسية، بعيداً عن الإنفعال والإرتجال، وأنتم أهلٌ
لذلك، كما برهنتم في الأيام السابقة. ولا يفوتني في الختام أن أطلب منكم أن
تقفوا وقفة إجلال وإكبار لشهدائنا الأبرار، لقراءة الفاتحة في هذا المكان
الذي وقفنا فيه جميعاً للصلاة على روح الفقيد الشهيد هاني عباس خميس، فإلى
روحه وأرواح جميع الشهداء والعلماء والمؤمنين والمؤمنات الفاتحة تسبقها
الصلوات على محمد وآل محمد.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. :(
__________________
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمدٍ
وآله الطاهرين،وأصحابه المنتجبين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الأحبَّة : عظَّم الله أجورنا وأجوركم بالحسين(ع) وأهل بيته وأنصاره.
وإنا لله وإنا إليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، وبعد:
فقد قال الإمام الحسين(ع):{ الناس عبيد هذه الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم
يحوطونه ما درَّت معايشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون}.
أحبَّتي نحن مع نصٍ وثائقي من نصوص الثورة الحسينية، نفهم من خلاله كيف
نصنع الموقف عند التحديات، وعند ما تكون الرسالة قد اُعُتدي على قدسها، ومن
هو الذي يصنع الموقف. أجل: من يصنع الموقف؟ من يصنع التاريخ؟ سؤال نطرحه
هنا وهنا نقرأُ هذا النص الوثائقي: هل يصنع الموقف الكسالى والمتقاعسون؟ أم
يصنع الموقف الجبناء والمُتلوِّنون بألف لون ولون؟!. لا نجهل جميعاً أنَّه
في وقت الرخاء والعافية نسمع الأصوات تتعالى، ويكثر الصراخ والضجيج، وترتفع
الشعارات والرّايات... كما لا نجهل أنَّه في حالات الشدَّة وساعات الضيق
نسمع التعقُّلات، والتّبريرات للصمت والسكوت، وتتلوَّن المواقف، ويكثر
المشكِّكون والمتلوِّنون، أين إذن نحن نرجو ونأمل الموقف الصحيح الإيجابي
الفاعل؟ هل نرجو أن نرى أهل الأصوات المتعالية حال العافية المتعيقلة حال
الضيق هل نرجو منهم أيَّ موقف شجاع؟! نعم يعطونك موقفاً، ولكن أيُّ موقف
هو؟ أما أن يكون موقفاً انهزامياً أو موقفاً زئبقياً!! وكلا النوعين من
المواقف مرفوض، سواءً المواقف الإنهزامية أو الزئبقية... والمشكلة الكبرى
ليست مع المواقف الإنهزامية، فأصحابها واضحون، وأنت تعرفهم وتدرك وضعهم
وحجمهم ونوعيَّتهم، ولكن المشكلة- أيها الأحبَّة- مع المواقف الزئبقية،
فهؤلاء ليسوا صرحاء،يكلِّمونك بصراحة، ويتعاملون معك بصراحة، وإنَّما
يتلوَّنون بألف ولون.
أحبَّتي: نحن حينما نتحدَّث عن الموقف- الذي هو الإنسان، هو كلّ شيء منه،
فالحياة موقف- لا نتحدَّث عن الحماس والإنفعال والفوضى والصراخ، كلاّ
وإنَّما نتحدَّث عن الموقف الواعي الذي ينبع عن وعي ودراسة، بعيداً عن
السذاجة والتّسرُّع والإنفعال، الموقف الذي هو نتيجة وعي، وهذا الوعي نتاج
خبرة وممارسة، فمثل هذا الموقف أقل خطأً، نعم الموقف التقوائي، وأعني
بالتقوى التي تُحرِّك في الإنسان روحَ المبادرة للعمل خوف غضب الله إذا
تقاعسَ وقصَّر في القيام بالواجب... الموقف الهادف، فموقفٌ بلا هدف هو موقف
ساذَج عشوائي فوضوي. الموقف النابع من بصيرة وإرادة، فالموقف الناجح يحتاج
فيما يحتاج إليه، إلى عنصرين رئيسيين: البصيرة والإرادة.
أجل- الموقف أيُّ موقف يحتاج لدراسة وتشخيص ثم لإرادة قويَّة قبل الفعل.
أحبَّتي: الحسين(ع): حينما تحرَّكَ لم يكن تحرُّكُه انفعالياً أو حماسياً،
بل تحرّك بعد دراسة وتشخيص وبإرادة بمنتهى الصلابة، فعل ذلك قبل أن يتحرَّك
أجل تحرَّكَ بعيداً عن الحماس والإنفعال. استمع إليه كيف يقدِّم تحليله
للموضوع، يقول(ع):{ يزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا
يُبايعُ مثله} وبعد أن تفوَّهَ بهذا الكلام، وأعطى هذا التصريح لم يدخل
المسجد ويعتكف ويترك يزيد يعبث بالإسلام كما فعل غيره من اللاّ عمليين، من
السلبيين، من الإنهزاميين، ولم يهرَب إلى اليمن أو يلحق بالجبال كما اقترح
عليه من اقترح....بل قالها صريحةً مدوّيةً، وفعَّلها، وطبَّقها، وتحمَّل كل
نتائجها، قال {ومثلي لا يُبايعُ مثله}. أحبَّتي: لم يكن الحسين(ع) في موقفه
انهزامياً ولا زئبقياً، ولم يكن ساذجاً جاهلاً بعاقبة ونتائج موقفه، بل كان
مستعدَّاً لمواجهة وتحمُّل كل النتائج حيث قال:{ إنَّ الدنيا قد تغيَّرت
وتنكَّرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء وخسيس عيشٍ
كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعملُ به، وإلى الباطل لا يُتناهى
عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقّاً، وإنِّي لا أرى الموت إلا سعادةً،
والحياة مع الظالمين إلا بَرْماً}. أجل- حينما تُهدَّد المقدَّسات، ويكون
الموقف مطلوباً فلا مجال لتبرير التخلُّف، ولا مجال للتسويف والمراوغة.
فالموقف المطلوب اليوم هو غيره غداً، والموقف المطلوب من العالِم والمثقَّف
هو غيره من الشخص العادي. وهنا المحك،وهنا التحدّي، وهنا يسقط رجال ويصعد
آخرون، وهنا تتكشَّف الأقنعة وتسقط البراقع والعناوين. وقد يكون- أيها
الأحبَّة- موقف شاب مخلص أفضل عند الله من موقف عالِمٍ أو مثقَّف مهما بلغ
في علمه أو ثقافته. صحيح نحن جميعاً نؤمن بأنَّ {مداد العلماء أفضل من دماء
الشهداء}. لكن لماذا؟ لأنَّهم يُشخِّصون الموقف ويُحدِّدون الأسلوب، وليس
لأيِّ سبب آخر. ما أريد أن أقوله هو: إنَّ الإسلام اليوم يحتاج لصنَّاع
المواقف السياسية والإجتماعية.
أيها الأبناء والبنات: فكما كنتم في المرحلة السابقة حاضرين في الساحة،
واضحين في المواقف فكذلك اليوم، نحن جميعاً مطالبون بالمواقف، ولكن مواقف
سياسية فيها أساليب سياسية، بعيداً عن الإنفعال والإرتجال، وأنتم أهلٌ
لذلك، كما برهنتم في الأيام السابقة. ولا يفوتني في الختام أن أطلب منكم أن
تقفوا وقفة إجلال وإكبار لشهدائنا الأبرار، لقراءة الفاتحة في هذا المكان
الذي وقفنا فيه جميعاً للصلاة على روح الفقيد الشهيد هاني عباس خميس، فإلى
روحه وأرواح جميع الشهداء والعلماء والمؤمنين والمؤمنات الفاتحة تسبقها
الصلوات على محمد وآل محمد.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. :(
__________________
منقول
كلمة سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري في الإحتفال المشترك لمآتم المحرَّق
--------------------------------------------------------------------------------
كلمة سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري في الإحتفال المشترك لمآتم المحرَّق في
مأتم القراشية ليلة الأربعاء 5-3-2002م /20ذي الحجَّة 1422هـ بمناسبة عيد
الغدير الأغر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله المنتجبين والتابعين
بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الأحبَّة: نحن نعيش هذه الأيام مناسبة الغدير، وفي رحاب الغدير،
ورسالة صاحب الغدير، أمير المؤمنين علي(ع). فلنأخذ فكرة عامة عن سلوك صاحب
الغدير، والأُطروحة التي تُجسِّدها سيرته الطاهرة؟ فمن هو صاحب الغدير وما
هي الأطروحة التي تجسدها سيرته؟ هو(ع)منبع الإيمان والحق، منبع العلم
والعمل، منبع الخير والعدل بكل ما لهذه الكلمات من معانٍ وشمولية، أجل هو
منبعٌ استلهم منه محبّوا العدالة أسمى المعاني الإنسانية، وتربَّى على
منهجه المسلمون الصادقون الصامدون، فكان لهم وجودهم الفاعل، ودورهم
المؤثِّر والمغيِّر. وهو الذي طرح المفاهيم الإنسانية العظيمة، والقيم
الرفيعة، هذه القيم التي تجسَّدت في كل مجال من مجالات حياته(ع)وبشكل خاص
في تجربته في الحكم، هذه القيم التي انصهر بها الآخرون، وأدركوا قيمتها
وعظمتها، فهاهو يقول في عهده العظيم لعامله على مصر مالك الأشتر:{ الناس
صنفان، أخٌ لكَ في الدين، أو نظير لك في الخلق}. هذا النهج الذي كان أساساً
بُنيت عليه وثيقة حقوق الإنسان ، هذه الحقوق التي تقول بكرامة الإنسان،
وسواسية الإنسان، وعدم إيذاء الإنسان.
وهو الذي كانت همومه، والأمر الذي يشغل باله، ويسهر ليله، ويقلقه ويؤرِّقه
هموم الأمَّة، أجل هموم الأمَّة هي همَّه الأول. وحدة الأمَّة يراها الإمام
فوق حقِّه في الخلافة، فرغم بيعة الغدير، ورغم النصوص التي وردت في حقِّه
عن النبي(ص) في أكثر من موقف، أجل رغم أنَّ حقّه ثابت لا غبار عليه ولا
شكَّ فيه، إلا أنَّه ومن أجل وحدة الأمَّة سكت عن حقِّه، لأنه صار بين
خيارين لا ثالث لهما، إما أن يُصرّ على موقفه ويواجه هو ومن معه من الأنصار
وتهلك الأمَّة، وتتمزَّق وحدتها، وتنتهي التجربة الإسلامية الأولى، وإما أن
يسكت ويصبر، ويقف بجانب الخلفاء مسانداً ومُسدِّداً، ومحافظاً على صيانة
التجربة، وعلى وحدة الأمَّة.
بعبارة أخرى: كان بين خيارين: الحفاظ على مصلحته الشخصية، أو الحفاظ على
مصلحة الأمةَّ، ولا شكَّ أنَّه لا يقدِّم على مصلحة الأمَّة أي مصلحة.
ولذلك قال:{ لأُسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين}. وفي هذا درسٌ عظيم لنا،
فليضع كلٌّ من السُّني والشيعي يده في يد الآخر، من أجل مصلحة الأمَّة،
وليتوحَّدوا، بعيداً عن الإنفعالات والحساسيات، من أجل مصلحة الإسلام،
ومصلحة الوطن، ولنسمع جميعاً ما يقول صاحب الغدير وما أعظم ما يقول:{
شُقُّوا أمواج الفتن بسفن النجاة}. إنَّه يدعونا إلى تحطيم الحواجز، وإزالة
العقد النفسية، والتعاون والتآزر، ولنلاحظ أوضاعنا المؤسفة، والدعايات
والعناصر التي تريد تفريقنا، وجدّية أعداء الإسلام في إيجاد التفرقة، وطرح
الشكوك، وإثارة الظنون السيئة في بعضنا البعض. وحين تسلَّمَ(ع) الخلافة
باشر خطواته الإصلاحية على الصعيدين الشعبي والحكومي، فهاهو لم يكتف
بموظفيه في معرفة أوضاع الأمَّة والإحاطة بها، بل نزل إلى الشارع هو بنفسه،
فتحسَّسَ المشاكل والآلام، رافضاً سكن القصور، واللذائذ، والطيِّبات،
مؤثراً أن يأكل الجشب من الطعام، ويلبس الخشن من الثياب مؤاساة للطبقات
الضعيفة والفقيرة من شعبه، قائلاً بملء فيه:{ أَوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون
غرثى وأكباد حرَّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبـــكَ داءً أن تبيــتَ ببطنةٍ وحـولَـكَ أكـبـاد تـحـنُّ إلى
القَدِّ
أجل إنَّه يريد مؤاساة أقل فرد من أفراد المجتمع الذي يحكمه. وها هو يقدِّم
أكبر صورةٍ وأعظم رمزٍ للأمانة والمحافظة على المال العام. إنَّه ينهر أخاه
عقيلاً، ويَحمي له حديدةً يدنيها منه ليحسّ بحرارتها حينما طلب منه تفضيلاً
في العطاء. وها هو يحاسب على احتراق وذوبان الشَّمعة داخل بيت المال، حيث
يطفؤها إذا انتهى عمله لبيت المال وللأمَّة. وغياب هذا السلوك، وعدم تطبيق
هذه الأمانة وهذه المحافظة على أموال الأمَّة هو الآفة الكبرى التي تُعطِّل
نموَّ أي مجتمع. أجل إنَّ المصيبة الكبرى التي تُذهب كرامة الأمَّة هي
الفساد المالي والإداري، والتَّسلُّط على المال العام، وعدم العدالة في
التوزيع، والإستحواذ على خيرات البلاد دونما عدالة بين الناس في القسمة
والتوزيع والتعامل.
وتلك مدرعته المرقَّعة مضرب المثل، هذه المدرعة التي جُمِعت خيوطها من كدِّ
علي وجهوده وعرق جبينه، بعيداً عن أموال الأمَّة ومقدَّراتها، هذه المدرعة
التي كان لها شأن تعتز به الإنسانية، هذه المدرعة التي مثَّلت أرقى صور
الزهد، والعدالة، والتواضع، ونكران الذات، هذه المدرعة التي تخلَّدَ ذكرها،
وعطاؤها بينما بليت ثياب الأمراء وبليَ ذكرها ولم يبق لها إلا ذكر السوء
لأنَّها كانت من أقوات المساكين، هذه المدرعة التي ضمَّت نفساً عاشت لله،
للإنسان، للأمَّة، هذه المدرعة التي قال عنها(ع):{والله لقد رقَّعتُ مدرعتي
حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل ألا تنبذُها عنك!! فقلتُ: اعزب
عنِّي فعند الصباح يحمُد القوم السُّرى.هذه المدرعة التي أعلنت أنه ليس همّ
علي الملابس الزاهية، كما أنَّه ليس همُّه المآكل النفيسة واللذيذة، ولا
الحكم والسلطان، ولا المال، بل همُّه الأكبر الإسلام، والأمَّة ووحدتها،
وسلامتها، ورفعتها، وقوَّتها، ومصلحتها، وحلِّ مشاكلها، هذه هي هموم علي،
وليس الشخصية، والذات، والمصالح الخاصَّة. لأيِّ فرد أن ينال من علي كشخص،
يستطيع أن يعتدي عليه كشخص، يستطيع أن يدَّعي درعه ولا يخاف ردَّة فعل
مثله،بل سيجده ينصاع لحكم القاضي الذي نصَّبه هو بنفسه والذي يحكم بالدرع
لخصمه..... لكن لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يمس الإسلام أو يمس مصلحة
الأمَّة وشأنها ووحدتها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والى أرواح شهدائنا الأبرار وجميع أموات الأمة الإسلامية رحم الله من قرأ
الفاتحة تسبقها الصلوات على محمد وال محمد
--------------------------------------------------------------------------------
كلمة سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري في الإحتفال المشترك لمآتم المحرَّق في
مأتم القراشية ليلة الأربعاء 5-3-2002م /20ذي الحجَّة 1422هـ بمناسبة عيد
الغدير الأغر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله المنتجبين والتابعين
بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الأحبَّة: نحن نعيش هذه الأيام مناسبة الغدير، وفي رحاب الغدير،
ورسالة صاحب الغدير، أمير المؤمنين علي(ع). فلنأخذ فكرة عامة عن سلوك صاحب
الغدير، والأُطروحة التي تُجسِّدها سيرته الطاهرة؟ فمن هو صاحب الغدير وما
هي الأطروحة التي تجسدها سيرته؟ هو(ع)منبع الإيمان والحق، منبع العلم
والعمل، منبع الخير والعدل بكل ما لهذه الكلمات من معانٍ وشمولية، أجل هو
منبعٌ استلهم منه محبّوا العدالة أسمى المعاني الإنسانية، وتربَّى على
منهجه المسلمون الصادقون الصامدون، فكان لهم وجودهم الفاعل، ودورهم
المؤثِّر والمغيِّر. وهو الذي طرح المفاهيم الإنسانية العظيمة، والقيم
الرفيعة، هذه القيم التي تجسَّدت في كل مجال من مجالات حياته(ع)وبشكل خاص
في تجربته في الحكم، هذه القيم التي انصهر بها الآخرون، وأدركوا قيمتها
وعظمتها، فهاهو يقول في عهده العظيم لعامله على مصر مالك الأشتر:{ الناس
صنفان، أخٌ لكَ في الدين، أو نظير لك في الخلق}. هذا النهج الذي كان أساساً
بُنيت عليه وثيقة حقوق الإنسان ، هذه الحقوق التي تقول بكرامة الإنسان،
وسواسية الإنسان، وعدم إيذاء الإنسان.
وهو الذي كانت همومه، والأمر الذي يشغل باله، ويسهر ليله، ويقلقه ويؤرِّقه
هموم الأمَّة، أجل هموم الأمَّة هي همَّه الأول. وحدة الأمَّة يراها الإمام
فوق حقِّه في الخلافة، فرغم بيعة الغدير، ورغم النصوص التي وردت في حقِّه
عن النبي(ص) في أكثر من موقف، أجل رغم أنَّ حقّه ثابت لا غبار عليه ولا
شكَّ فيه، إلا أنَّه ومن أجل وحدة الأمَّة سكت عن حقِّه، لأنه صار بين
خيارين لا ثالث لهما، إما أن يُصرّ على موقفه ويواجه هو ومن معه من الأنصار
وتهلك الأمَّة، وتتمزَّق وحدتها، وتنتهي التجربة الإسلامية الأولى، وإما أن
يسكت ويصبر، ويقف بجانب الخلفاء مسانداً ومُسدِّداً، ومحافظاً على صيانة
التجربة، وعلى وحدة الأمَّة.
بعبارة أخرى: كان بين خيارين: الحفاظ على مصلحته الشخصية، أو الحفاظ على
مصلحة الأمةَّ، ولا شكَّ أنَّه لا يقدِّم على مصلحة الأمَّة أي مصلحة.
ولذلك قال:{ لأُسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين}. وفي هذا درسٌ عظيم لنا،
فليضع كلٌّ من السُّني والشيعي يده في يد الآخر، من أجل مصلحة الأمَّة،
وليتوحَّدوا، بعيداً عن الإنفعالات والحساسيات، من أجل مصلحة الإسلام،
ومصلحة الوطن، ولنسمع جميعاً ما يقول صاحب الغدير وما أعظم ما يقول:{
شُقُّوا أمواج الفتن بسفن النجاة}. إنَّه يدعونا إلى تحطيم الحواجز، وإزالة
العقد النفسية، والتعاون والتآزر، ولنلاحظ أوضاعنا المؤسفة، والدعايات
والعناصر التي تريد تفريقنا، وجدّية أعداء الإسلام في إيجاد التفرقة، وطرح
الشكوك، وإثارة الظنون السيئة في بعضنا البعض. وحين تسلَّمَ(ع) الخلافة
باشر خطواته الإصلاحية على الصعيدين الشعبي والحكومي، فهاهو لم يكتف
بموظفيه في معرفة أوضاع الأمَّة والإحاطة بها، بل نزل إلى الشارع هو بنفسه،
فتحسَّسَ المشاكل والآلام، رافضاً سكن القصور، واللذائذ، والطيِّبات،
مؤثراً أن يأكل الجشب من الطعام، ويلبس الخشن من الثياب مؤاساة للطبقات
الضعيفة والفقيرة من شعبه، قائلاً بملء فيه:{ أَوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون
غرثى وأكباد حرَّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبـــكَ داءً أن تبيــتَ ببطنةٍ وحـولَـكَ أكـبـاد تـحـنُّ إلى
القَدِّ
أجل إنَّه يريد مؤاساة أقل فرد من أفراد المجتمع الذي يحكمه. وها هو يقدِّم
أكبر صورةٍ وأعظم رمزٍ للأمانة والمحافظة على المال العام. إنَّه ينهر أخاه
عقيلاً، ويَحمي له حديدةً يدنيها منه ليحسّ بحرارتها حينما طلب منه تفضيلاً
في العطاء. وها هو يحاسب على احتراق وذوبان الشَّمعة داخل بيت المال، حيث
يطفؤها إذا انتهى عمله لبيت المال وللأمَّة. وغياب هذا السلوك، وعدم تطبيق
هذه الأمانة وهذه المحافظة على أموال الأمَّة هو الآفة الكبرى التي تُعطِّل
نموَّ أي مجتمع. أجل إنَّ المصيبة الكبرى التي تُذهب كرامة الأمَّة هي
الفساد المالي والإداري، والتَّسلُّط على المال العام، وعدم العدالة في
التوزيع، والإستحواذ على خيرات البلاد دونما عدالة بين الناس في القسمة
والتوزيع والتعامل.
وتلك مدرعته المرقَّعة مضرب المثل، هذه المدرعة التي جُمِعت خيوطها من كدِّ
علي وجهوده وعرق جبينه، بعيداً عن أموال الأمَّة ومقدَّراتها، هذه المدرعة
التي كان لها شأن تعتز به الإنسانية، هذه المدرعة التي مثَّلت أرقى صور
الزهد، والعدالة، والتواضع، ونكران الذات، هذه المدرعة التي تخلَّدَ ذكرها،
وعطاؤها بينما بليت ثياب الأمراء وبليَ ذكرها ولم يبق لها إلا ذكر السوء
لأنَّها كانت من أقوات المساكين، هذه المدرعة التي ضمَّت نفساً عاشت لله،
للإنسان، للأمَّة، هذه المدرعة التي قال عنها(ع):{والله لقد رقَّعتُ مدرعتي
حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل ألا تنبذُها عنك!! فقلتُ: اعزب
عنِّي فعند الصباح يحمُد القوم السُّرى.هذه المدرعة التي أعلنت أنه ليس همّ
علي الملابس الزاهية، كما أنَّه ليس همُّه المآكل النفيسة واللذيذة، ولا
الحكم والسلطان، ولا المال، بل همُّه الأكبر الإسلام، والأمَّة ووحدتها،
وسلامتها، ورفعتها، وقوَّتها، ومصلحتها، وحلِّ مشاكلها، هذه هي هموم علي،
وليس الشخصية، والذات، والمصالح الخاصَّة. لأيِّ فرد أن ينال من علي كشخص،
يستطيع أن يعتدي عليه كشخص، يستطيع أن يدَّعي درعه ولا يخاف ردَّة فعل
مثله،بل سيجده ينصاع لحكم القاضي الذي نصَّبه هو بنفسه والذي يحكم بالدرع
لخصمه..... لكن لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يمس الإسلام أو يمس مصلحة
الأمَّة وشأنها ووحدتها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والى أرواح شهدائنا الأبرار وجميع أموات الأمة الإسلامية رحم الله من قرأ
الفاتحة تسبقها الصلوات على محمد وال محمد
منقول
التشييع الأكبر في تاريخ البحرين...
أمواج بشرية في وداع الشيخ الجمري
في أجواء حزينة ومشاعر ملتهبة غلبت سخونتها على الأجواء شديدة البرودة أمس ودع عشرات الآلاف من البحرينيين، مساء أمس (الاثنين) سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري في موكب تشييع مهيب وصف بـ » الأكبر في تاريخ البحرين«.
وكان الشيخ الجمري قد انتقل إلى جوار ربه فجر أمس (الاثنين) 18 ديسمبر/كانون الاول 2006 في مجمع السلمانية الطبي بعد صراع طويل مع المرض دام أكثر من أربع سنوات.
وسار موكب التشييع الحاشد من دوار قرية القدم حتى المثوى الأخير لسماحة الشيخ الراحل، في مسقط رأسه بقرية بني جمرة، وكان الموكب يزداد حشدا كلما مر بقرية من القرى الواقعة على جانبي الطريق- شارع البديع- إذ خرجت من تلك القرى عدد من المواكب لتلتحم بالموكب الكبير كلما مر عليها، إلى أن بلغ التشييع ذروته بالقرب من مقبرة بني جمرة حيث أم سماحة السيدجواد الوداعي المصلين في صلاة الجنازة على روح الفقيد.
وسبق أهالي المنامة باقي المناطق في تسيير مسيرة كبيرة يتقدمها نعش رمزي، إذ خرج ذلك الموكب قبل الساعة الثالثة ظهرا ليستقر أمام دوار القدم منتظرا التشييع الكبير.
وبدأت الحشود في التوافد إلى قرية بني جمرة بكثافة منذ الساعات الأولى من صباح أمس، كما أن غالبية مساجد وحسينيات القرى والمدن فتحت أبوابها لتلاوة القرآن عبر مكبرات الصوت منذ تلقي نبأ وفاة الشيخ الجليل، ما خلق أجواء حزينة خيمت على مختلف مناطق البحرين.
وشاركت في موكب التشييع شخصيات وطنية ورسمية، أعربت عن أسفها وحزنها الشديد لرحيل الشيخ الكبير الجمري، واصفة الحدث بـ »الفاجعة«.
وإضافة إلى ردود الفعل المحلية، حاز الحدث اهتمام وكالات الأنباء ووسائل الاعلام العربية والاجنبية .
أمواج بشرية في وداع الشيخ الجمري
في أجواء حزينة ومشاعر ملتهبة غلبت سخونتها على الأجواء شديدة البرودة أمس ودع عشرات الآلاف من البحرينيين، مساء أمس (الاثنين) سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري في موكب تشييع مهيب وصف بـ » الأكبر في تاريخ البحرين«.
وكان الشيخ الجمري قد انتقل إلى جوار ربه فجر أمس (الاثنين) 18 ديسمبر/كانون الاول 2006 في مجمع السلمانية الطبي بعد صراع طويل مع المرض دام أكثر من أربع سنوات.
وسار موكب التشييع الحاشد من دوار قرية القدم حتى المثوى الأخير لسماحة الشيخ الراحل، في مسقط رأسه بقرية بني جمرة، وكان الموكب يزداد حشدا كلما مر بقرية من القرى الواقعة على جانبي الطريق- شارع البديع- إذ خرجت من تلك القرى عدد من المواكب لتلتحم بالموكب الكبير كلما مر عليها، إلى أن بلغ التشييع ذروته بالقرب من مقبرة بني جمرة حيث أم سماحة السيدجواد الوداعي المصلين في صلاة الجنازة على روح الفقيد.
وسبق أهالي المنامة باقي المناطق في تسيير مسيرة كبيرة يتقدمها نعش رمزي، إذ خرج ذلك الموكب قبل الساعة الثالثة ظهرا ليستقر أمام دوار القدم منتظرا التشييع الكبير.
وبدأت الحشود في التوافد إلى قرية بني جمرة بكثافة منذ الساعات الأولى من صباح أمس، كما أن غالبية مساجد وحسينيات القرى والمدن فتحت أبوابها لتلاوة القرآن عبر مكبرات الصوت منذ تلقي نبأ وفاة الشيخ الجليل، ما خلق أجواء حزينة خيمت على مختلف مناطق البحرين.
وشاركت في موكب التشييع شخصيات وطنية ورسمية، أعربت عن أسفها وحزنها الشديد لرحيل الشيخ الكبير الجمري، واصفة الحدث بـ »الفاجعة«.
وإضافة إلى ردود الفعل المحلية، حاز الحدث اهتمام وكالات الأنباء ووسائل الاعلام العربية والاجنبية .
منقول
سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري
[ توفي صباح أمس الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري. ويعتبر الفقيد الراحل أحد أهم الشخصيات الوطنية في تاريخ البحرين المعاصر سواء على مستوى الرواد على العلوم الدينية أو النضال الوطني إبان فترة التسعينات وما قبلها.
- ولد الشيخ العلامة العام 1937 في قرية بني جمرة.
- والده منصور »وسمي أيضا ناصر« بن محمد بن عبدالرسول الجمري، وكان مدرس قرآن وصاحب مصنع نسيج يدوي.
- جده عبدالرسول، تاجر في سوق المنامة، إذ كان يتاجر في الأقمشة. وعبدالرسول هو أيضاً جد الملا عطية بن علي بن عبدالرسول الجمري الذي جدد المنبر الحسيني في البحرين.
- درس في مدرسة البديع الابتدائية للبنين ثم درس على يد الملا جاسم بن نجم الجمري، وعمل خطيباً حسينياً مع الملا عبدالله البلادي قبل أن يستقل بخطابته في السابعة عشرة من عمره.
- عمل في سوق المنامة لدى عدد من التجار لإعالة نفسه، وكان في الوقت ذاته يدرس على يد الشيخ عبدالله بن محمد صالح، ولاحقاً الشيخ باقر العصفور والسيدعلوي الغريفي.
- انتقل بعد ذلك إلى النجف الأشرف في العام 1962 ودرس المقدمات والسطوح والبحث الخارج »قبل أن يعود إلى البحرين في العام 1973«.
- اتصل به أهالي المنطقة الشمالية ودعوه إلى ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية في العام 1973م، كما أبرق له الشيخ عيسى أحمد قاسم بضرورة العودة، وطلب منه الملا عطية الجمري الذي كان يزور العراق آنذاك العودة للترشح، فعاد وفاز بالمقعد الثاني مع الشيخ عيسى أحمد قاسم ممثلين عن المنطقة الشمالية.
- كان عضواً بارزاً في الكتلة الإسلامية بالمجلس الوطني ما بين 1973 و1975، ومن الذين عارضوا قانون أمن الدولة بشدة.
- 1977 - 1988: عين قاضياً في المحكمة الجعفرية الكبرى، وتمت إزاحته من المحكمة لأسباب سياسية في العام 1988.
- اعتقل في سبتمبر/ أيلول 1988 وأفرج عنه في اليوم نفسه بعد احتجاجات مباشرة. اعتقل ابنه محمدجميل وزوج ابنته عبدالجليل وحكم عليهما بعشر سنوات وسبع سنوات سجناً على التوالي.
- نوفمبر/ تشرين الثاني 1992: شارك في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية.
- أكتوبر/ تشرين الأول 1994: شارك في إعداد/ والدعوة إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها المرفوعة في العريضة النخبوية العام 1992.
- 1 أبريل/ نيسان 1995: تمت محاصرة بني جمرة وقتل اثنان من أبنائها وجرح خمسون آخرون، ووضع الشيخ الجمري تحت الحصار لمدة أسبوعين ثم نقل إلى المعتقل.
- 25 سبتمبر 1995: الافراج من السجن بعد اتفاق مع السلطات الأمنية على إعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
- 21 يناير/ كانون الثاني 1996: أعيد اعتقال الشيخ ليشتد اضطراب الوضع الأمني والسياسي في البلاد. وضع في الحجز الانفرادي لأكثر من تسعة أشهر ثم نقل إلى سجن مراقب في كل كلمة يقولها وكل شيء يفعله ومنعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه فيما يتم تسجيل كل كلمة تقال، وتم من خلال ذلك حجب الشيخ عن كل شيء حتى الافراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة.
- 21 فبراير/ شباط 1999: بدأت محاكمة الشيخ أمام محكمة أمن الدولة بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة.
- 7 يوليو/ تموز 1999: أصدرت محكمة أمن الدولة حكماً بالسجن عشر سنوات ودفع غرامة مقدارها 15 مليون دينار على الشيخ لينفلت الوضع الأمني مباشرة بعد ذلك.
- 8 يوليو 1999: ظهر الشيخ الجمري في التلفزيون قبيل الافراج عنه بعفو ليوضع تحت الاقامة الجبرية مرة أخرى.
- مايو/ أيار 2000: الإصابة بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري.
- 23 يناير 2001: رفع الإقامة الجبرية.
- يونيو/حزيران 2002: أجريت له عملية في الظهر بألمانيا ليصاب بجلطة في موقع العملية وجلطتين في الدماغ.
- يناير 2003: نقل للعلاج في »مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية« بالرياض. عاد بعدها للبحرين في رعاية عائلته، ومر بانتكاسة صحية حديثاً، وفارق الحياة يوم أمس.
[ توفي صباح أمس الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري. ويعتبر الفقيد الراحل أحد أهم الشخصيات الوطنية في تاريخ البحرين المعاصر سواء على مستوى الرواد على العلوم الدينية أو النضال الوطني إبان فترة التسعينات وما قبلها.
- ولد الشيخ العلامة العام 1937 في قرية بني جمرة.
- والده منصور »وسمي أيضا ناصر« بن محمد بن عبدالرسول الجمري، وكان مدرس قرآن وصاحب مصنع نسيج يدوي.
- جده عبدالرسول، تاجر في سوق المنامة، إذ كان يتاجر في الأقمشة. وعبدالرسول هو أيضاً جد الملا عطية بن علي بن عبدالرسول الجمري الذي جدد المنبر الحسيني في البحرين.
- درس في مدرسة البديع الابتدائية للبنين ثم درس على يد الملا جاسم بن نجم الجمري، وعمل خطيباً حسينياً مع الملا عبدالله البلادي قبل أن يستقل بخطابته في السابعة عشرة من عمره.
- عمل في سوق المنامة لدى عدد من التجار لإعالة نفسه، وكان في الوقت ذاته يدرس على يد الشيخ عبدالله بن محمد صالح، ولاحقاً الشيخ باقر العصفور والسيدعلوي الغريفي.
- انتقل بعد ذلك إلى النجف الأشرف في العام 1962 ودرس المقدمات والسطوح والبحث الخارج »قبل أن يعود إلى البحرين في العام 1973«.
- اتصل به أهالي المنطقة الشمالية ودعوه إلى ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية في العام 1973م، كما أبرق له الشيخ عيسى أحمد قاسم بضرورة العودة، وطلب منه الملا عطية الجمري الذي كان يزور العراق آنذاك العودة للترشح، فعاد وفاز بالمقعد الثاني مع الشيخ عيسى أحمد قاسم ممثلين عن المنطقة الشمالية.
- كان عضواً بارزاً في الكتلة الإسلامية بالمجلس الوطني ما بين 1973 و1975، ومن الذين عارضوا قانون أمن الدولة بشدة.
- 1977 - 1988: عين قاضياً في المحكمة الجعفرية الكبرى، وتمت إزاحته من المحكمة لأسباب سياسية في العام 1988.
- اعتقل في سبتمبر/ أيلول 1988 وأفرج عنه في اليوم نفسه بعد احتجاجات مباشرة. اعتقل ابنه محمدجميل وزوج ابنته عبدالجليل وحكم عليهما بعشر سنوات وسبع سنوات سجناً على التوالي.
- نوفمبر/ تشرين الثاني 1992: شارك في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية.
- أكتوبر/ تشرين الأول 1994: شارك في إعداد/ والدعوة إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها المرفوعة في العريضة النخبوية العام 1992.
- 1 أبريل/ نيسان 1995: تمت محاصرة بني جمرة وقتل اثنان من أبنائها وجرح خمسون آخرون، ووضع الشيخ الجمري تحت الحصار لمدة أسبوعين ثم نقل إلى المعتقل.
- 25 سبتمبر 1995: الافراج من السجن بعد اتفاق مع السلطات الأمنية على إعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
- 21 يناير/ كانون الثاني 1996: أعيد اعتقال الشيخ ليشتد اضطراب الوضع الأمني والسياسي في البلاد. وضع في الحجز الانفرادي لأكثر من تسعة أشهر ثم نقل إلى سجن مراقب في كل كلمة يقولها وكل شيء يفعله ومنعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه فيما يتم تسجيل كل كلمة تقال، وتم من خلال ذلك حجب الشيخ عن كل شيء حتى الافراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة.
- 21 فبراير/ شباط 1999: بدأت محاكمة الشيخ أمام محكمة أمن الدولة بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة.
- 7 يوليو/ تموز 1999: أصدرت محكمة أمن الدولة حكماً بالسجن عشر سنوات ودفع غرامة مقدارها 15 مليون دينار على الشيخ لينفلت الوضع الأمني مباشرة بعد ذلك.
- 8 يوليو 1999: ظهر الشيخ الجمري في التلفزيون قبيل الافراج عنه بعفو ليوضع تحت الاقامة الجبرية مرة أخرى.
- مايو/ أيار 2000: الإصابة بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري.
- 23 يناير 2001: رفع الإقامة الجبرية.
- يونيو/حزيران 2002: أجريت له عملية في الظهر بألمانيا ليصاب بجلطة في موقع العملية وجلطتين في الدماغ.
- يناير 2003: نقل للعلاج في »مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية« بالرياض. عاد بعدها للبحرين في رعاية عائلته، ومر بانتكاسة صحية حديثاً، وفارق الحياة يوم أمس.
منقول
الشيخ عبدالأمير الجمري يروي حكاياته الأولى
أعده للنشر - عادل مرزوق
[ للراحل الكبير كلمات خطها بيديه عن طفولته وبداية نشأته، أحببنا عرضها كما كتبها الراحل الكبير مع بعض التصرف لضرورات النشر الصحافي.
وإذ ننشر للراحل الكبير هذه التفاصيل عن حياته كنا نتمنى لو تمكن فقيدنا من كتابة باقي مراحل حياته، والتي تعتبر صفحة ناصعة من صفحات البحرين.
يقول الراحل الكبير:» والدي هو منصور بن الحاج محمد بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان الجمري البحراني، وتعرف أسرتنا بآل الشيخ سليمان، وبآل محمد. وبلحاظ انشطار الأسرة إلى شطرين من ولدي إبراهيم بن مكي المذكور وهما حسين المذكور وأخوه. عرف شطر منها بآل عبدالرسول، والشطر الآخر بآل إبراهيم.
وهذا التسلسل النّسبي تلقّيته وتلقّاه غيري من أبناء الأسرة من العم الخطيب الجليل المغفور له ملا عطية بن علي الجمري باعتباره أبرز شيوخ الأسرة، وهو بدوره تلقّى هذا التسلسل النّسبي من كبار الأسرة الذين أدركهم. ولدينا شجرة الأسرة كتبت بقلمه رحمه الله تعالى، وقد قدّمتُ لها بمقدمة تتحدث عن موقف الإسلام من النسب وفوائد معرفته، وأضفتُ إليها من لم يُدوّنه من أفراد الأسرة أما لغفلة منه، أو لأنّه توفي قبل ولادتهم، وقد قام بطبعها طبعاً أنيقاً معتبراً ابن العم الحاج محمد بن ملا جعفر بن محمد بن محسن بن عبدالرسول حفظه الله تعالى.
مولدي ونشأتي
ولدتُ في القرية المعروفة بـ »بني جمرة«، وهي قرية آبائي وأجدادي، وفي الأصل هذا الاسم »بني جمرة« يعني قبيلة تنحدر من قبيلة (مضر) في قول، ومن قبيلة (نمير) في قول آخر، وكلا القولين يذكرهما صاحب كتاب: (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب)، ثم صار يطلق الاسم على المحلّة التي تسكنها هذه القبيلة. وكانت الولادة - بحسب إفادة الوالدة طيبة بنت حسن سلمان قبل الفجر بساعة تقريباً في ليلة الجمعة 28 ذي الحجة سنة 1356 للهجرة النبوية، 1937م، وقد نظمتُ هذا التاريخ في أبيات من الشعر بعد أن صرتُ أنظم الشعر تحت عنون(مولدي)، وهي كالآتي:
كان قبل العاشر صاح بيومين
كذا كان قولُ أُمّي مفيدا
قبل الفجر لليلة كانت الجمعة
- مرحى - بساعة تحديدا
عامَ ستّ في بيئة عاشت الدين
للعترة الولاءَ الشَّديدا
بعد ألف كذا ثلاث مئين
في الحساب الهجريّ خذه أكيدا
غمر الأسرة السُّرورُ وعاشت
لقدومي- يا صاح- يوماً سعيدا
هنَّئوا بي أبي وفاهو بقول
معلن للتاريخ: (خذه وليدا)
نشأتُ وتربَّيتُ في كنف والدي المقدّس التقي العارف منصور الحاج محمد الجمري، وقد بذل قصارى جهده في تربيتي، وأدخلني إلى مدرسة البديع الإبتدائية للبنين، وكان كثيراً ما يصحبني معه إلى المجالس التي يذهب إليها، وإلى السوق أحياناً، حينما يذهب لقضاء شئونه وشراء حاجياته. صار قدس سره يعلّمني القرآن بعد إكمال السادسة من عمري، حتى نهاية الجزء التاسع، وفهمتُ باقي الأجزاء بلا معلِّم وفي هذه السن علّمني الوضوء والصلاة. درست في مدارس البحرين ولم أًكمل مراحل الدراسة، وتعلّقت نفسي منذ صغري ومنذ دخولي الابتدائية بالمنبر الحسيني، فكنت - في سن مبكرة - أقرء مقدماً للخطيب ملا جاسم محمد حسن نجم الجمري صاحب ديوان: »شعار الحزين« وهو في رثاء الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام باللسان الشعبي.
فكـرة عـامـة عن الوالـد
كان رحمه الله قوي الإيمان، وعلى جانب كبير من الورع والتقوى، كثير العبادة، لا يترك صلاة الليل وسائر المستّحبات، وكان يأمرني بالإتيان بالنوافل بعد تسليمي . وكان كريماً، يجود بما في يده، ألذّ شيء عنده، وأفضل شيء يؤتاه أن يأتيه ضيف، أو يجد غريباً يضيّفه، وذلك رغم فقره وقلّة ذات يده، ورغم صعوبة الوقت. وكان كثير القضاء لحوائج الناس، لا يحسب لراحته حساباً في هذا السبيل، فكان يقوم بوظائف دينية من الجواب على المسائل الشرعية، إذ كان مثقفاً في دينه، كثير المجالسة للعلماء والتفقّه عليهم فيأتيه أهل المسائل من أبناء القرية ويجيبهم عليها. كما كان نحوياً أديباً، قرأ كتاب: »شرح خالد على متن الآجرومية« على المرحوم سماحة العلامة الشيخ محسن الشيخ عبدالله العرب الجمري كما حدثني بذلك أخي الأكبر الحاج علي بن منصور الجمري، وكان له ذوق شعري وكثير الاستشهاد بالشعر العربي. ومن قيامه الصلاة على الموتى- في القرية وبعض القرى المجاورة - وتلقينهم، والكتابة على الأكفان، وكتابة إسناد البيع والشراء والهبات والوصايا.
وكان رحمه الله قوي البنية جلداً يتحمل الميثاق، أذكر أنه في شهر رمضان لا يقوم من العمل- وهو النسيج وهي المهنة العامة للقرية في وقته - إلا للصلاة فهو يواصل عمله من الصباح حتى المساء.
وكان في قراءته للمنتخب للشيخ فخر الدين الطريحي، أو الفوادح للشيخ حسين بن الشيخ محمد آل عصفور، وهما ما اعتيد قراءته في مجالس التعزية الحسينية قبل صعود الخطيب المنبر، وأكثر من ذلك قراءته لمقتل الإمام الحسين في كتاب: »أبي مخنف لوط ابن يحيى الأزدي، ولايزال الجمريّون الذين عايشوه وعاصروه أو أدركوه يتحدثون عن قراءته لمقتل الامام الحسين عليه السلام وما يحدثه من التأثير العظيم في المستمعين حينما يقرأه. وكان وصولاً للرحم، يصل من قطعه، ويحسن إلى من أساء إليه.وكان كثير الحب لي من بين أولاده وهم أشقائي علي ومحمد وزهراء ونعيمة. وكان يدعو لهم ولي بالتوفيق كثيراً. وأذكر- وأنا صغير- أني انتبهت عليه ليلة وهو يصلي نوافل الليل، وقد اشتغل بالدعاء بعد إحدى النوافل، ورأيت أصبعه السبابة تشير إليّ وهو في حال الدعاء. وكان قدس سره يملأ نفسي معنوية بكلماته التي كان يخاطب بها والدتي، ومنها قوله: إن ابنك هذا له مستقبل كبير. وعندما أكتب شيئاً بسيطاً ويراه يقول لها: تعالي انظري ماذا كتب ابنك. وكنت وأختي نعيمة التي أكبرها بسنتين تقريباً ننام في الحجرة نفسها التي تخص الوالد والوالدة وكنت أنتبه بعض الليالي على بكائه وهو يصلي صلاة الليل ويتهجّد. وقد تفاءل لي بالخير وفرح كثيراً حينما رآني قد نظمت قطعة شعرية شعبية في الإمام الحسن ابن علي (ع) وكنت في سن مبكرة.
كانت وفاته رحمه الله في ليلة السبت الساعة السابعة 27 ربيع الأول1367هـ على أثر حمّى وضيق في التنفس، وكان الوقت شتاءًً وبارداً جداً، فأصيب نتيجة ممارسته لعمل النسيج في محل العمل المكشوف والكائن في مكان مرتفع، وقد ألزمه المرض الفراش خمسة أيام، ولم يعالج إلا بمعالجات بسيطة يساعد على ذلك عدم مراجعة المستشفى آنذاك إذ كانت ليست بالسّهولة المطلوبة، وتوفي إلى إثر مرضه، وما انفك في مرضه وحتى في حال احتضاره يقرأ مصيبة الحسين (ع)، ويطلب قبل احتضاره أن تُقرأ له مصائب أهل البيت (ع)، وكان تشييعه تشييعاً ملحوظاً، وقد أحدثت وفاته أثراً غير قليل على القرية والمنطقة.
وبعد أن قلت الشعر الفصيح نظمت الأبيات الثلاثة التالية مؤرخاً عام وفاته بالحساب الأبجدي:
في عام موت والدي ما أعظم المصابا
إليه ضُمَّ واحداً وسائل الأحبابا
في لوعة مؤرخاً: (أبدرُنا قد غابا)
ماذا بعد وفاة الوالد؟
بعد وفاته كان يقوم بشئون البيت وتكاليف العائلة أخي الأكبر »علي« وكانت العائلة تتألف مني ومن والدتي وأخي محمد وأختي نعيمة، أما أُختي زهراء فكانت متزوجة من ابن عمها الحاج إبراهيم بن الحاج سلمان بن عبدالرسول الجمري. وكنت قد استفدت منبرياً استفادة كثيرة من ابن العم الخطيب الكبير ملا عطية الجمري وابنه الخطيب الجليل ملا يوسف الجمري، وكنت في مثل هذا الوقت أتصنّع - الصانع هو الذي يبدأ القراءة الحسينية قبل الخطيب الكبير- عند الخطيب الملا جاسم محمد حسن الجمري، وهو من خطباء قريتنا، ومن المؤمنين الأتقياء، وله شعر باللسانين: الفصيح والدارج، وقد استفدت منه استفادات منبرية، واستفدت من إيمانه وسلوكه وأدعيته وصلاته وتقواه.
بعد وفاة والدي بفترة من الوقت جاء الملا عبدالله بن محمد البلادي المكنى بـ »أبوطاهر« وطلب من أهلي أن أكون معه قائداً له لأنّه بصير، ومطالعاً في الكتب، ومتصنّعاً معه، فوافقوا، وبقيت معه سنةً كنت فيها موضع عنايته وعناية عارفيه، وكنت موفقاً في قراءتي معه، وكان يعتمد في تنّقله من بلد لآخر وإلى مجالسه على المشي، ونادراً ما كان ينتظر أو يستأجر سيارة، وكان يدفع لي شهرياً هدية قدرها خمسة وعشرون روبية، ويسلمّها إلى أخي الأكبر »علي« يستعين بها على الصرف على العائلة، وبعد سنة أو أكثر بقليل انفصلت عنه، وصرت اقرأ مستقلاً شهر رمضان وعاشوراء، والوفيات، والعادات. وقد وجدت تجاوباً من الناس شجّعني على الاستمرار.
من معايشاتي في الفترة الأولى من التكليف الشرعي
في الفترة الأولى من بلوغي سنَّ التكليف أدركت وعايشت - من دون قدرة على التّحديد للأمور وفقهها وإدراك تفاصيلها - الفتنة بين الشيعة والسنة التي أشعلها وغذّاها الاستعمار البريطاني الممثل في مستشار حكومة البحرين »بلكريف«، الذي كان مهيمناً ومسيطراً على جميع شئون البلد، وكانت الفتن متناكفة، وهي في الحقيقة امتداد لفتن عاشها من قبلنا من الآباء والأجداد، وهي الوسيلة المفضلة للاستعمار من أجل تغلغله وبسط نفوذه أكثر، وجعل حكومة البحرين مضطّرة للإجابة له فيما يريد. وهنا كانت حوادث وتعدّيات من جانب السنة على الشيعة الذين هم اخوة في هذا الوطن، وقد بدأت هذه اللعنة والفتنة من حادث العزاء، إذ حصل تحرّش في بعض مواكب العزاء وارجّح انه موكب مأتم بن سلوم، إذ حدث شجار بين الطرفين، وعلى هذا الأساس امتّدت الأيدي إلى المعزين، وكان الأمر قد أُعدّ له مسبقاً بجمع أخشاب وكميات من القناني الفارغة في الحديقة المعروفة بالباخشة والمقاربة لمدرسة الزهراء للبنات، وسلطت الشرطة بالأخشاب الطويلة والهراوات على المعزين العزّل وحدثت إصابات وقد بذل المعزون العزّل جهدهم في الدفاع عن أنفسهم فحصل جرحى بل وبعض القتلى من الطرف المقابل، بل وسمع إطلاق بعض الرصاص من بعض العناصر الحاضرة... وأفرز هذا ان تتشكل هيئة من الشيعة من كبارهم وأهل النفوذ فيهم للدفاع عن الشيعة والاحتجاج أمام المعتمد السياسي البريطاني في البحرين...
وامتدت الأحداث الأليمة وكان منها هجوم عدد كبير من أبناء المحرق بتحريض من المتلسطين وتحت إشرافهم على أهل عراد، وكانت المواجهة من المهاجمين عنيفة، وكانت فتنة سترة بين العمال السنة والشيعة في موقع العمل المسمّى: ادرام ايلثت، وحدث بين الطرفين ما لا تحمد عقباه، واعتقل عدد من الناس اتهموا بإحداث الفتنة من شخصيات السنة والشيعة، وكانت النتيجة سيئة إذ حكمت المحكمة على العناصر الشيعية بالسجن ثلاث سنين وستة أشهر، بينما حكمت على العناصر السنيّة التي حوكمت تغطيةً كل فرد بثلاثة أشهر ونصف - إذا لم تخني الذاكرة في هذا الأمر من الحكمين وأُقلّل، وهذا ما سبب إضراباً من جانب الشيعة، وكانت الأسواق: اللحم، والخضرة، والسمك، وكل المواد الغذائية الضرورية اليومية بيد الشيعة، إضافة إلى وجودهم المكثّف في الحاجات الأخرى، فإذا أضرب الشيعة شُلّت البلد، وتعطلت الأمور...
وهكذا توالت الأحداث وعمت الفوضى بتدبير الإنجليز، ولم يكن للحكومة المحلية موقف حكيم يعالج الأمور عِلاجاً صحيحاً آنذاك، بل كانت تزيدها تعقيداً“ وكان المعتمدون من شخصيات الشيعة يتظلمون ويفزعون إلى المعتمد السياسي طالبين منه إنصاف الشيعة ورفع الظلامة عنهم، بكفّ الحكومة المحلية عنهم، وهنا طلب المعتمد السياسي من الشخصيات الشيعية برهانا على أنهم يمثلون الطائفة الشيعية، فبعث هؤلاء سيارات الباص إلى القرى طالبين من الناس الحضور المكثف في مسجد مؤمن بالمنامة، وفي يوم الخميس صارت السيارات تنقل المواطنين الشيعة من قراهم إلى الموقع المذكور واجتمع ما يقارب الأربعين ألف نسمة من الشباب والشيوخ والصبيان، وكانوا في انتظار أوامر الشخصيات التي كانت بدورها مشغولة بمقابلة المعتمد السياسي، فحدث أن السلطة اعتقلت شخصية تجارية معروفة من الدراز وهو في طريقه إلى مسجد مؤمن وهو الحاج عبدالمجيد الحاج حسين الشهابي الذي اعتقل من سيارة الباص إلى القلعة، وعندما وصل الخبر إلى الجمهور في المسجد تحرك عدد كبير من دون أمر القادة يحملون العلم الأبيض وهو علم الحركة إشارة إلى سلميتها ومضوا إلى القلعة من أجل تخليص الرجل المعتقل، فأنذرهم من هناك من عسكريين ومسئولين بالتفرق، ثم فتحوا عليهم الماء الحار، فلم يتفرقوا فأطلقوا النيران عليهم من رشاشات وضعت فوق برج القلعة ووجهوا الرّصاص بكثافة هائلة إليهم وإلى المجتمعين في المسجد، وكثر الجرحى واستشهد أربعة من الواصلين إلى القلعة وكلهم من الشباب أحدهم من المنامة والثاني من المالكية والثالث من سترة والرابع من مقابه، وفر الناس يطلبون الملجأ من الرصاص الذي ظل فترة طويلة يُصبُّ عليهم بلا رحمة ويلاحقهم، واذكر أن الخطيب محمد علي الناصري رحمه الله نظم قصيدة بمناسبة حادث القلعة قرأها وسمعتها منه في غير محفل، والفقرة الأولى من مطلعها:
يوم الخميس ولست منه بناسي
كما أن العم الخطيب ملا عطية بن علي الجمري ألقى قصيدة رائعة في أربعينية الشهداء في مسجد مؤمن إضافة إلى كلمات وقصائد الآخرين، ومطلع قصيدة الملا عطية قدس سره:
عِبرةُ الحرّ صَرعةُ الشهداء كُتبت نُصبَ عينيه بالدماء
وأذكر أن ثوب أحد الشهداء وقد ضرّجت بالدماء قد وضعت علماً على باب المسجد، وكان حفل الأربعين حفلاً جماهيرياً عظيماً.
نظم الشعر العمودي
نظمي للشعر الفصيح بدأ وأنا في سنٌ مبكرة، وكل شعري عمودي فراهيدي ما عدى قصيدة واحدة نظمتها في سجني الثاني وهي وطنية، ومن القسم الحر وقد صودرت مع القصائد الأخرى من قبل المخابرات. وقد نظمت أول قصيدة لي وأنا ابن الثامنة عشرة تقريباً. وقد شجعني على الاستمرار في نظم الفصيح المرحوم حاج جاسم بن محمد المحل من المنامة الذي استفدت منه الكثير في هذا الباب، وكان يوجهني أحياناً بتوجيهات منبرية وكان يهذب لي بعض القصائد في بداية نظمي، فله علي فضلٌ كثيرٌ، فجزاه الله خير الجزاء وتغمده برحمته واسكنه فسيح جناته. وأول قصيدة نظمتها كانت في الإحساء - الهفوف - في مدح صديق لي اسمه يوسف أحمد الغزال، وقد هذبها لي المرحوم الخطيب الفاضل الشاعر الشيخ كاظم بن مطر إذ أني سافرت إلى الإحساء في أوائل عهدي الخطابي مستقلاً كما سيأتي هذا، ومطلع القصيدة:
مررت بمن في حسنها أنا معجب ....حكى قدها غصنا به الريح تلعب
وقد ذكرت منها عدداً من الأبيات التي تصلح للنشر في ديواني: »عصارة قلب« الجزء الأول.
ممارستي لأعمال أخرى إلى جانب الخطابة فترةً من الزمن
كنت بعد انفصالي عن الملا عبدالله البلادي المذكور مستمراً في قراءتي الحسينية، إلا أن بعض الشباب وغيرهم غفر الله لهم أخذوا يزهدونني في الاستمرار في القراءة، ويقولون إن القراءة ستموت وتنتهي ولا ينبغي أن تربط مستقبلك بها، فتأثرت بهذه اللغة وهذا التفكير الضيق، واتجهت إلى العمل إضافةً إلى عملي في القراءة وعدم رفع يدي عنها، فعملت شهراً واحداً أجيراً عند الحاج عبدالله الخواجة من المنامة وكان عملي يتمثل في استلام الأجور يومياً من باعة السمك إذ كان الرجل المذكور قد أستأجر سوق السمك من الحكومة.
ثم استقلت من هذا العمل إحساساً مني باستثقال الباعة لمن يتقاضى منهم الأجور. وبعده عملت أجيراً شهراً واحداً عند التاجر السيد هاشم التناك من المنامة في دكان يديره شخص اسمه الحاج إبراهيم بن حسن من المنامة لعلّه شريك للسيد المذكور في الدكان أو يعمل له. وبعد شهر أو أكثر بقليل وجهني السيد المذكور إلى التاجر المرحوم الملا عبدالحسين حميدان - رحمه الله - ولعله مؤقتاً بإعتبار أن الحاج إبراهيم سيسافر إلى خارج البحرين فترة ما.
وعملت عند الملا عبدالحسين المذكور أجيراً لمدة سنة تقريباً، وكان العمل الذي أقوم به هو أني أجلس معه ومعاونته في المكتب فحينما يبيعوا بضاعةً - وكان يبيع بالجملة المواد الغذائية أربعة عشر مخزناً وأُمكن الحمالين من حمل البضاعة والإحصاء عليهم وقد أكرمني الرجل المذكور وقدم لي بعض الإرشادات، ووجهني إلى أن أدرس اللغة الإنجليزية وقواعد اللغة العربية في المدرسة الأهلية للأستاذ عبدالرسول التاجر، وهو الذي يدفع أجرة التدريس وقد واصلت ذلك فترةً يسيرةً لا تتجاوز الشهرين، وكان يحسب لي شهرياً 180 روبية فقط، وكان يجعلها عنده، وأخيراً دفع شيكاً بالمبلغ كله.
وكانت إقامتي طيلة المدة عندهم في المنامة لا آتي إلى بيتنا في بني جمرة إلا ليلة الجمعة فقط.
واستأجرت دكاناً قرب عمارة القصاب أبيع فيها معلبات وبعض المواد البيتية فلم أوفق - والحمد لله - وتركته بعد أقل من سنة، واستأجرت مكاناً آخر عملت فيه »صندقةً«، وهو أسفل درج من أدراج سوق الخضرة القديمة وصرت أبيع ملابس. وبقيت عدة شهور فيه. كل هذا وأنا ما زلت أقرأ تعزيةً في شهري محرم وصفر ورمضان وبعض المناسبات.
ثم تركت العمل نهائياً واعتمدت على قراءة التعزية وحدها واتجهت إليها برغبة وجد ، لاسيما وأنني فشلت في غيرها، واتضح لي خطأ أولئك الأشخاص المزهَّدين فيها. وقد لاقيت توفيقاً في القراءة، هذا وقد سافرت إلى الإحساء - الهفوف وأنا مازلت أعمل في الصّندقة وأبيع بعض الكماليات كما ذكرت آنفا، وبقيت شهراً كاملاً اقرأ ليلاً وصباحاً وكان نزولي على فراش الملا عبدالله البحراني وأخيه الحاج حجي البحراني، ورأيت منهما العناية والكرم والرعاية جزاهما الله خيراً، وكان هذا قبل زواجي. وعدت إلى البحرين، وتزوجّت، وبعد زواجي أنهيت عملي في السوق، واعتمدت على قراءة التّعزية كلّياً كما ذكرت آنفاً.
بعد زاوجي سافرت إلى الإحساء بطلب من الاخوة هناك مرّتين، وقرأت بالإضافة إلى العاصمة الهفوف في عدد من القرى، واستؤجرت في أولى اأسفاري لقراءة محرم في قرية التويثير، وكنت طيلة الفترة في التويثير على فراش العالم التقي الجليل أبي حافظ سيد عبدالله الأحمد، الذي وجدت منه الرعاية الكاملة والعطف والعناية، ورأيت فيه الشخص الكريم والمرّبي الفاضل، وأهل التويثير أناس طيبّون كرماء، وذوو أخلاق عالية ولا تملّ من مجالستهم، وقد نظمت قصيدة في مدحهم ومدح عالمهم الجليل السيد عبدالله الأحمد المذكور آنفا وألقيتها أمام جمهور منهم، والقصيدة من أوائل نظمي، اذكر منها البيتين التاليين:
سرت بي مطايا الجبِّ يدفعها القَدّر
فالفت مناها بالتويثير من هجر
أناخت بامجاد سموا بمكارم
وفي ظلهم ألفى سخا يعرُب مفر
سافرت بعدها إلى قطر عن طريق الخطابة الحسينية ولاقيت في بداية سفري مشقة. وقد نزلت على فراش المرحوم الحاج علي الماجد، وهو من تجار الشقيقة قطر، وهو ذو خلق حميد، ومجلسه مفتوح للقاصدين، واستؤجرتُ للقراءة في شهر رمضان، إذ كان سفري إلى قطر في جمادى الأولى، وكان لي في قطر معارف وبعض الأصدقاء، وكان لي سفر آخر إلى قطر بعد حلّ المجلس الوطني، إذ طُلبت للقراءة في العشرة الأولى من المحرم، فقرأت ثلاثة مجالس، وكان التوفيق حسناً.
سبب اشتهاري وتوفيقي خطابياً
وهناك أسباب هيئها الله تعالى لأن اشتهر وأُوفق منبرياً على رغم أني قرأت مستقلاً في سن مبكرة وهي:
1) كوني اعتمدت - بعد الاعتماد على الله - على نفسي، وذلك أني صرت اشعر بضياع نظراً ليتمي إذ توفي والدي وأنا ابن عشر سنين.
2) ما طبعني الله عليه وغرزه في نفسي من الطموح رغم ضعفي وقلة حيلتي وعدم توفر الوسائل المساعدة على تحقيق طموحاتي الكبار.
3) ما وفقت له من الاستفادات المنبرية من الخطيبين الجليلين عمّي ملا عطية بن علي الجمري وابنه ملا يوسف، بحيث كنت التقط شواهد ونكات وأحيانا مواضيع بكاملها، وأمارس التدوين لما استفدته منهما منبرياً.
4) ما وفقت له من اقتناء الكتب الحديثة والاستفادة الملحوظة من الأقلام الناضجة، بحيث كان ما اقرؤه يلفت النظر ويعجب المستمعين لاسيما المتعلمين، فقد استفدت من كتب آية الله الشيخ محمد أمين زين رحمه الله،ككتاب الاسلام، وكتاب: من اشعة القرآن، وكتب الأسنادـ ابو الأعلى المودودي، ككتاب: المال وتداول الثروة في الإسلام. وكتب الإسناد لعباس العقاد، ككتاب: عبقرية محمد (ص).
5) صحبتي للملا عبدالله بن محمد - أبو طاهر - البلادي قائداً ومطالعاً له الكتب وقارئ مقدمة، وهو شخص معروف وكثير القراءة آنذاك، صحبته مدة سنة على الأقل، فسبّب هذا أن أًُعرف على مستوى الكثير من الناس.
6) قراءتي في مأتم مدن في المنامة كل يوم عدى عاشوراء لثلاث سنوات، قرأت عندهم طوال هذه المدة عدى عشرة عاشوراء، فبعدها قدمت استقالتي لأهل المأتم وهاجرت إلى النجف الأشرف للدراسة العلميّة.
أعده للنشر - عادل مرزوق
[ للراحل الكبير كلمات خطها بيديه عن طفولته وبداية نشأته، أحببنا عرضها كما كتبها الراحل الكبير مع بعض التصرف لضرورات النشر الصحافي.
وإذ ننشر للراحل الكبير هذه التفاصيل عن حياته كنا نتمنى لو تمكن فقيدنا من كتابة باقي مراحل حياته، والتي تعتبر صفحة ناصعة من صفحات البحرين.
يقول الراحل الكبير:» والدي هو منصور بن الحاج محمد بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان الجمري البحراني، وتعرف أسرتنا بآل الشيخ سليمان، وبآل محمد. وبلحاظ انشطار الأسرة إلى شطرين من ولدي إبراهيم بن مكي المذكور وهما حسين المذكور وأخوه. عرف شطر منها بآل عبدالرسول، والشطر الآخر بآل إبراهيم.
وهذا التسلسل النّسبي تلقّيته وتلقّاه غيري من أبناء الأسرة من العم الخطيب الجليل المغفور له ملا عطية بن علي الجمري باعتباره أبرز شيوخ الأسرة، وهو بدوره تلقّى هذا التسلسل النّسبي من كبار الأسرة الذين أدركهم. ولدينا شجرة الأسرة كتبت بقلمه رحمه الله تعالى، وقد قدّمتُ لها بمقدمة تتحدث عن موقف الإسلام من النسب وفوائد معرفته، وأضفتُ إليها من لم يُدوّنه من أفراد الأسرة أما لغفلة منه، أو لأنّه توفي قبل ولادتهم، وقد قام بطبعها طبعاً أنيقاً معتبراً ابن العم الحاج محمد بن ملا جعفر بن محمد بن محسن بن عبدالرسول حفظه الله تعالى.
مولدي ونشأتي
ولدتُ في القرية المعروفة بـ »بني جمرة«، وهي قرية آبائي وأجدادي، وفي الأصل هذا الاسم »بني جمرة« يعني قبيلة تنحدر من قبيلة (مضر) في قول، ومن قبيلة (نمير) في قول آخر، وكلا القولين يذكرهما صاحب كتاب: (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب)، ثم صار يطلق الاسم على المحلّة التي تسكنها هذه القبيلة. وكانت الولادة - بحسب إفادة الوالدة طيبة بنت حسن سلمان قبل الفجر بساعة تقريباً في ليلة الجمعة 28 ذي الحجة سنة 1356 للهجرة النبوية، 1937م، وقد نظمتُ هذا التاريخ في أبيات من الشعر بعد أن صرتُ أنظم الشعر تحت عنون(مولدي)، وهي كالآتي:
كان قبل العاشر صاح بيومين
كذا كان قولُ أُمّي مفيدا
قبل الفجر لليلة كانت الجمعة
- مرحى - بساعة تحديدا
عامَ ستّ في بيئة عاشت الدين
للعترة الولاءَ الشَّديدا
بعد ألف كذا ثلاث مئين
في الحساب الهجريّ خذه أكيدا
غمر الأسرة السُّرورُ وعاشت
لقدومي- يا صاح- يوماً سعيدا
هنَّئوا بي أبي وفاهو بقول
معلن للتاريخ: (خذه وليدا)
نشأتُ وتربَّيتُ في كنف والدي المقدّس التقي العارف منصور الحاج محمد الجمري، وقد بذل قصارى جهده في تربيتي، وأدخلني إلى مدرسة البديع الإبتدائية للبنين، وكان كثيراً ما يصحبني معه إلى المجالس التي يذهب إليها، وإلى السوق أحياناً، حينما يذهب لقضاء شئونه وشراء حاجياته. صار قدس سره يعلّمني القرآن بعد إكمال السادسة من عمري، حتى نهاية الجزء التاسع، وفهمتُ باقي الأجزاء بلا معلِّم وفي هذه السن علّمني الوضوء والصلاة. درست في مدارس البحرين ولم أًكمل مراحل الدراسة، وتعلّقت نفسي منذ صغري ومنذ دخولي الابتدائية بالمنبر الحسيني، فكنت - في سن مبكرة - أقرء مقدماً للخطيب ملا جاسم محمد حسن نجم الجمري صاحب ديوان: »شعار الحزين« وهو في رثاء الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام باللسان الشعبي.
فكـرة عـامـة عن الوالـد
كان رحمه الله قوي الإيمان، وعلى جانب كبير من الورع والتقوى، كثير العبادة، لا يترك صلاة الليل وسائر المستّحبات، وكان يأمرني بالإتيان بالنوافل بعد تسليمي . وكان كريماً، يجود بما في يده، ألذّ شيء عنده، وأفضل شيء يؤتاه أن يأتيه ضيف، أو يجد غريباً يضيّفه، وذلك رغم فقره وقلّة ذات يده، ورغم صعوبة الوقت. وكان كثير القضاء لحوائج الناس، لا يحسب لراحته حساباً في هذا السبيل، فكان يقوم بوظائف دينية من الجواب على المسائل الشرعية، إذ كان مثقفاً في دينه، كثير المجالسة للعلماء والتفقّه عليهم فيأتيه أهل المسائل من أبناء القرية ويجيبهم عليها. كما كان نحوياً أديباً، قرأ كتاب: »شرح خالد على متن الآجرومية« على المرحوم سماحة العلامة الشيخ محسن الشيخ عبدالله العرب الجمري كما حدثني بذلك أخي الأكبر الحاج علي بن منصور الجمري، وكان له ذوق شعري وكثير الاستشهاد بالشعر العربي. ومن قيامه الصلاة على الموتى- في القرية وبعض القرى المجاورة - وتلقينهم، والكتابة على الأكفان، وكتابة إسناد البيع والشراء والهبات والوصايا.
وكان رحمه الله قوي البنية جلداً يتحمل الميثاق، أذكر أنه في شهر رمضان لا يقوم من العمل- وهو النسيج وهي المهنة العامة للقرية في وقته - إلا للصلاة فهو يواصل عمله من الصباح حتى المساء.
وكان في قراءته للمنتخب للشيخ فخر الدين الطريحي، أو الفوادح للشيخ حسين بن الشيخ محمد آل عصفور، وهما ما اعتيد قراءته في مجالس التعزية الحسينية قبل صعود الخطيب المنبر، وأكثر من ذلك قراءته لمقتل الإمام الحسين في كتاب: »أبي مخنف لوط ابن يحيى الأزدي، ولايزال الجمريّون الذين عايشوه وعاصروه أو أدركوه يتحدثون عن قراءته لمقتل الامام الحسين عليه السلام وما يحدثه من التأثير العظيم في المستمعين حينما يقرأه. وكان وصولاً للرحم، يصل من قطعه، ويحسن إلى من أساء إليه.وكان كثير الحب لي من بين أولاده وهم أشقائي علي ومحمد وزهراء ونعيمة. وكان يدعو لهم ولي بالتوفيق كثيراً. وأذكر- وأنا صغير- أني انتبهت عليه ليلة وهو يصلي نوافل الليل، وقد اشتغل بالدعاء بعد إحدى النوافل، ورأيت أصبعه السبابة تشير إليّ وهو في حال الدعاء. وكان قدس سره يملأ نفسي معنوية بكلماته التي كان يخاطب بها والدتي، ومنها قوله: إن ابنك هذا له مستقبل كبير. وعندما أكتب شيئاً بسيطاً ويراه يقول لها: تعالي انظري ماذا كتب ابنك. وكنت وأختي نعيمة التي أكبرها بسنتين تقريباً ننام في الحجرة نفسها التي تخص الوالد والوالدة وكنت أنتبه بعض الليالي على بكائه وهو يصلي صلاة الليل ويتهجّد. وقد تفاءل لي بالخير وفرح كثيراً حينما رآني قد نظمت قطعة شعرية شعبية في الإمام الحسن ابن علي (ع) وكنت في سن مبكرة.
كانت وفاته رحمه الله في ليلة السبت الساعة السابعة 27 ربيع الأول1367هـ على أثر حمّى وضيق في التنفس، وكان الوقت شتاءًً وبارداً جداً، فأصيب نتيجة ممارسته لعمل النسيج في محل العمل المكشوف والكائن في مكان مرتفع، وقد ألزمه المرض الفراش خمسة أيام، ولم يعالج إلا بمعالجات بسيطة يساعد على ذلك عدم مراجعة المستشفى آنذاك إذ كانت ليست بالسّهولة المطلوبة، وتوفي إلى إثر مرضه، وما انفك في مرضه وحتى في حال احتضاره يقرأ مصيبة الحسين (ع)، ويطلب قبل احتضاره أن تُقرأ له مصائب أهل البيت (ع)، وكان تشييعه تشييعاً ملحوظاً، وقد أحدثت وفاته أثراً غير قليل على القرية والمنطقة.
وبعد أن قلت الشعر الفصيح نظمت الأبيات الثلاثة التالية مؤرخاً عام وفاته بالحساب الأبجدي:
في عام موت والدي ما أعظم المصابا
إليه ضُمَّ واحداً وسائل الأحبابا
في لوعة مؤرخاً: (أبدرُنا قد غابا)
ماذا بعد وفاة الوالد؟
بعد وفاته كان يقوم بشئون البيت وتكاليف العائلة أخي الأكبر »علي« وكانت العائلة تتألف مني ومن والدتي وأخي محمد وأختي نعيمة، أما أُختي زهراء فكانت متزوجة من ابن عمها الحاج إبراهيم بن الحاج سلمان بن عبدالرسول الجمري. وكنت قد استفدت منبرياً استفادة كثيرة من ابن العم الخطيب الكبير ملا عطية الجمري وابنه الخطيب الجليل ملا يوسف الجمري، وكنت في مثل هذا الوقت أتصنّع - الصانع هو الذي يبدأ القراءة الحسينية قبل الخطيب الكبير- عند الخطيب الملا جاسم محمد حسن الجمري، وهو من خطباء قريتنا، ومن المؤمنين الأتقياء، وله شعر باللسانين: الفصيح والدارج، وقد استفدت منه استفادات منبرية، واستفدت من إيمانه وسلوكه وأدعيته وصلاته وتقواه.
بعد وفاة والدي بفترة من الوقت جاء الملا عبدالله بن محمد البلادي المكنى بـ »أبوطاهر« وطلب من أهلي أن أكون معه قائداً له لأنّه بصير، ومطالعاً في الكتب، ومتصنّعاً معه، فوافقوا، وبقيت معه سنةً كنت فيها موضع عنايته وعناية عارفيه، وكنت موفقاً في قراءتي معه، وكان يعتمد في تنّقله من بلد لآخر وإلى مجالسه على المشي، ونادراً ما كان ينتظر أو يستأجر سيارة، وكان يدفع لي شهرياً هدية قدرها خمسة وعشرون روبية، ويسلمّها إلى أخي الأكبر »علي« يستعين بها على الصرف على العائلة، وبعد سنة أو أكثر بقليل انفصلت عنه، وصرت اقرأ مستقلاً شهر رمضان وعاشوراء، والوفيات، والعادات. وقد وجدت تجاوباً من الناس شجّعني على الاستمرار.
من معايشاتي في الفترة الأولى من التكليف الشرعي
في الفترة الأولى من بلوغي سنَّ التكليف أدركت وعايشت - من دون قدرة على التّحديد للأمور وفقهها وإدراك تفاصيلها - الفتنة بين الشيعة والسنة التي أشعلها وغذّاها الاستعمار البريطاني الممثل في مستشار حكومة البحرين »بلكريف«، الذي كان مهيمناً ومسيطراً على جميع شئون البلد، وكانت الفتن متناكفة، وهي في الحقيقة امتداد لفتن عاشها من قبلنا من الآباء والأجداد، وهي الوسيلة المفضلة للاستعمار من أجل تغلغله وبسط نفوذه أكثر، وجعل حكومة البحرين مضطّرة للإجابة له فيما يريد. وهنا كانت حوادث وتعدّيات من جانب السنة على الشيعة الذين هم اخوة في هذا الوطن، وقد بدأت هذه اللعنة والفتنة من حادث العزاء، إذ حصل تحرّش في بعض مواكب العزاء وارجّح انه موكب مأتم بن سلوم، إذ حدث شجار بين الطرفين، وعلى هذا الأساس امتّدت الأيدي إلى المعزين، وكان الأمر قد أُعدّ له مسبقاً بجمع أخشاب وكميات من القناني الفارغة في الحديقة المعروفة بالباخشة والمقاربة لمدرسة الزهراء للبنات، وسلطت الشرطة بالأخشاب الطويلة والهراوات على المعزين العزّل وحدثت إصابات وقد بذل المعزون العزّل جهدهم في الدفاع عن أنفسهم فحصل جرحى بل وبعض القتلى من الطرف المقابل، بل وسمع إطلاق بعض الرصاص من بعض العناصر الحاضرة... وأفرز هذا ان تتشكل هيئة من الشيعة من كبارهم وأهل النفوذ فيهم للدفاع عن الشيعة والاحتجاج أمام المعتمد السياسي البريطاني في البحرين...
وامتدت الأحداث الأليمة وكان منها هجوم عدد كبير من أبناء المحرق بتحريض من المتلسطين وتحت إشرافهم على أهل عراد، وكانت المواجهة من المهاجمين عنيفة، وكانت فتنة سترة بين العمال السنة والشيعة في موقع العمل المسمّى: ادرام ايلثت، وحدث بين الطرفين ما لا تحمد عقباه، واعتقل عدد من الناس اتهموا بإحداث الفتنة من شخصيات السنة والشيعة، وكانت النتيجة سيئة إذ حكمت المحكمة على العناصر الشيعية بالسجن ثلاث سنين وستة أشهر، بينما حكمت على العناصر السنيّة التي حوكمت تغطيةً كل فرد بثلاثة أشهر ونصف - إذا لم تخني الذاكرة في هذا الأمر من الحكمين وأُقلّل، وهذا ما سبب إضراباً من جانب الشيعة، وكانت الأسواق: اللحم، والخضرة، والسمك، وكل المواد الغذائية الضرورية اليومية بيد الشيعة، إضافة إلى وجودهم المكثّف في الحاجات الأخرى، فإذا أضرب الشيعة شُلّت البلد، وتعطلت الأمور...
وهكذا توالت الأحداث وعمت الفوضى بتدبير الإنجليز، ولم يكن للحكومة المحلية موقف حكيم يعالج الأمور عِلاجاً صحيحاً آنذاك، بل كانت تزيدها تعقيداً“ وكان المعتمدون من شخصيات الشيعة يتظلمون ويفزعون إلى المعتمد السياسي طالبين منه إنصاف الشيعة ورفع الظلامة عنهم، بكفّ الحكومة المحلية عنهم، وهنا طلب المعتمد السياسي من الشخصيات الشيعية برهانا على أنهم يمثلون الطائفة الشيعية، فبعث هؤلاء سيارات الباص إلى القرى طالبين من الناس الحضور المكثف في مسجد مؤمن بالمنامة، وفي يوم الخميس صارت السيارات تنقل المواطنين الشيعة من قراهم إلى الموقع المذكور واجتمع ما يقارب الأربعين ألف نسمة من الشباب والشيوخ والصبيان، وكانوا في انتظار أوامر الشخصيات التي كانت بدورها مشغولة بمقابلة المعتمد السياسي، فحدث أن السلطة اعتقلت شخصية تجارية معروفة من الدراز وهو في طريقه إلى مسجد مؤمن وهو الحاج عبدالمجيد الحاج حسين الشهابي الذي اعتقل من سيارة الباص إلى القلعة، وعندما وصل الخبر إلى الجمهور في المسجد تحرك عدد كبير من دون أمر القادة يحملون العلم الأبيض وهو علم الحركة إشارة إلى سلميتها ومضوا إلى القلعة من أجل تخليص الرجل المعتقل، فأنذرهم من هناك من عسكريين ومسئولين بالتفرق، ثم فتحوا عليهم الماء الحار، فلم يتفرقوا فأطلقوا النيران عليهم من رشاشات وضعت فوق برج القلعة ووجهوا الرّصاص بكثافة هائلة إليهم وإلى المجتمعين في المسجد، وكثر الجرحى واستشهد أربعة من الواصلين إلى القلعة وكلهم من الشباب أحدهم من المنامة والثاني من المالكية والثالث من سترة والرابع من مقابه، وفر الناس يطلبون الملجأ من الرصاص الذي ظل فترة طويلة يُصبُّ عليهم بلا رحمة ويلاحقهم، واذكر أن الخطيب محمد علي الناصري رحمه الله نظم قصيدة بمناسبة حادث القلعة قرأها وسمعتها منه في غير محفل، والفقرة الأولى من مطلعها:
يوم الخميس ولست منه بناسي
كما أن العم الخطيب ملا عطية بن علي الجمري ألقى قصيدة رائعة في أربعينية الشهداء في مسجد مؤمن إضافة إلى كلمات وقصائد الآخرين، ومطلع قصيدة الملا عطية قدس سره:
عِبرةُ الحرّ صَرعةُ الشهداء كُتبت نُصبَ عينيه بالدماء
وأذكر أن ثوب أحد الشهداء وقد ضرّجت بالدماء قد وضعت علماً على باب المسجد، وكان حفل الأربعين حفلاً جماهيرياً عظيماً.
نظم الشعر العمودي
نظمي للشعر الفصيح بدأ وأنا في سنٌ مبكرة، وكل شعري عمودي فراهيدي ما عدى قصيدة واحدة نظمتها في سجني الثاني وهي وطنية، ومن القسم الحر وقد صودرت مع القصائد الأخرى من قبل المخابرات. وقد نظمت أول قصيدة لي وأنا ابن الثامنة عشرة تقريباً. وقد شجعني على الاستمرار في نظم الفصيح المرحوم حاج جاسم بن محمد المحل من المنامة الذي استفدت منه الكثير في هذا الباب، وكان يوجهني أحياناً بتوجيهات منبرية وكان يهذب لي بعض القصائد في بداية نظمي، فله علي فضلٌ كثيرٌ، فجزاه الله خير الجزاء وتغمده برحمته واسكنه فسيح جناته. وأول قصيدة نظمتها كانت في الإحساء - الهفوف - في مدح صديق لي اسمه يوسف أحمد الغزال، وقد هذبها لي المرحوم الخطيب الفاضل الشاعر الشيخ كاظم بن مطر إذ أني سافرت إلى الإحساء في أوائل عهدي الخطابي مستقلاً كما سيأتي هذا، ومطلع القصيدة:
مررت بمن في حسنها أنا معجب ....حكى قدها غصنا به الريح تلعب
وقد ذكرت منها عدداً من الأبيات التي تصلح للنشر في ديواني: »عصارة قلب« الجزء الأول.
ممارستي لأعمال أخرى إلى جانب الخطابة فترةً من الزمن
كنت بعد انفصالي عن الملا عبدالله البلادي المذكور مستمراً في قراءتي الحسينية، إلا أن بعض الشباب وغيرهم غفر الله لهم أخذوا يزهدونني في الاستمرار في القراءة، ويقولون إن القراءة ستموت وتنتهي ولا ينبغي أن تربط مستقبلك بها، فتأثرت بهذه اللغة وهذا التفكير الضيق، واتجهت إلى العمل إضافةً إلى عملي في القراءة وعدم رفع يدي عنها، فعملت شهراً واحداً أجيراً عند الحاج عبدالله الخواجة من المنامة وكان عملي يتمثل في استلام الأجور يومياً من باعة السمك إذ كان الرجل المذكور قد أستأجر سوق السمك من الحكومة.
ثم استقلت من هذا العمل إحساساً مني باستثقال الباعة لمن يتقاضى منهم الأجور. وبعده عملت أجيراً شهراً واحداً عند التاجر السيد هاشم التناك من المنامة في دكان يديره شخص اسمه الحاج إبراهيم بن حسن من المنامة لعلّه شريك للسيد المذكور في الدكان أو يعمل له. وبعد شهر أو أكثر بقليل وجهني السيد المذكور إلى التاجر المرحوم الملا عبدالحسين حميدان - رحمه الله - ولعله مؤقتاً بإعتبار أن الحاج إبراهيم سيسافر إلى خارج البحرين فترة ما.
وعملت عند الملا عبدالحسين المذكور أجيراً لمدة سنة تقريباً، وكان العمل الذي أقوم به هو أني أجلس معه ومعاونته في المكتب فحينما يبيعوا بضاعةً - وكان يبيع بالجملة المواد الغذائية أربعة عشر مخزناً وأُمكن الحمالين من حمل البضاعة والإحصاء عليهم وقد أكرمني الرجل المذكور وقدم لي بعض الإرشادات، ووجهني إلى أن أدرس اللغة الإنجليزية وقواعد اللغة العربية في المدرسة الأهلية للأستاذ عبدالرسول التاجر، وهو الذي يدفع أجرة التدريس وقد واصلت ذلك فترةً يسيرةً لا تتجاوز الشهرين، وكان يحسب لي شهرياً 180 روبية فقط، وكان يجعلها عنده، وأخيراً دفع شيكاً بالمبلغ كله.
وكانت إقامتي طيلة المدة عندهم في المنامة لا آتي إلى بيتنا في بني جمرة إلا ليلة الجمعة فقط.
واستأجرت دكاناً قرب عمارة القصاب أبيع فيها معلبات وبعض المواد البيتية فلم أوفق - والحمد لله - وتركته بعد أقل من سنة، واستأجرت مكاناً آخر عملت فيه »صندقةً«، وهو أسفل درج من أدراج سوق الخضرة القديمة وصرت أبيع ملابس. وبقيت عدة شهور فيه. كل هذا وأنا ما زلت أقرأ تعزيةً في شهري محرم وصفر ورمضان وبعض المناسبات.
ثم تركت العمل نهائياً واعتمدت على قراءة التعزية وحدها واتجهت إليها برغبة وجد ، لاسيما وأنني فشلت في غيرها، واتضح لي خطأ أولئك الأشخاص المزهَّدين فيها. وقد لاقيت توفيقاً في القراءة، هذا وقد سافرت إلى الإحساء - الهفوف وأنا مازلت أعمل في الصّندقة وأبيع بعض الكماليات كما ذكرت آنفا، وبقيت شهراً كاملاً اقرأ ليلاً وصباحاً وكان نزولي على فراش الملا عبدالله البحراني وأخيه الحاج حجي البحراني، ورأيت منهما العناية والكرم والرعاية جزاهما الله خيراً، وكان هذا قبل زواجي. وعدت إلى البحرين، وتزوجّت، وبعد زواجي أنهيت عملي في السوق، واعتمدت على قراءة التّعزية كلّياً كما ذكرت آنفاً.
بعد زاوجي سافرت إلى الإحساء بطلب من الاخوة هناك مرّتين، وقرأت بالإضافة إلى العاصمة الهفوف في عدد من القرى، واستؤجرت في أولى اأسفاري لقراءة محرم في قرية التويثير، وكنت طيلة الفترة في التويثير على فراش العالم التقي الجليل أبي حافظ سيد عبدالله الأحمد، الذي وجدت منه الرعاية الكاملة والعطف والعناية، ورأيت فيه الشخص الكريم والمرّبي الفاضل، وأهل التويثير أناس طيبّون كرماء، وذوو أخلاق عالية ولا تملّ من مجالستهم، وقد نظمت قصيدة في مدحهم ومدح عالمهم الجليل السيد عبدالله الأحمد المذكور آنفا وألقيتها أمام جمهور منهم، والقصيدة من أوائل نظمي، اذكر منها البيتين التاليين:
سرت بي مطايا الجبِّ يدفعها القَدّر
فالفت مناها بالتويثير من هجر
أناخت بامجاد سموا بمكارم
وفي ظلهم ألفى سخا يعرُب مفر
سافرت بعدها إلى قطر عن طريق الخطابة الحسينية ولاقيت في بداية سفري مشقة. وقد نزلت على فراش المرحوم الحاج علي الماجد، وهو من تجار الشقيقة قطر، وهو ذو خلق حميد، ومجلسه مفتوح للقاصدين، واستؤجرتُ للقراءة في شهر رمضان، إذ كان سفري إلى قطر في جمادى الأولى، وكان لي في قطر معارف وبعض الأصدقاء، وكان لي سفر آخر إلى قطر بعد حلّ المجلس الوطني، إذ طُلبت للقراءة في العشرة الأولى من المحرم، فقرأت ثلاثة مجالس، وكان التوفيق حسناً.
سبب اشتهاري وتوفيقي خطابياً
وهناك أسباب هيئها الله تعالى لأن اشتهر وأُوفق منبرياً على رغم أني قرأت مستقلاً في سن مبكرة وهي:
1) كوني اعتمدت - بعد الاعتماد على الله - على نفسي، وذلك أني صرت اشعر بضياع نظراً ليتمي إذ توفي والدي وأنا ابن عشر سنين.
2) ما طبعني الله عليه وغرزه في نفسي من الطموح رغم ضعفي وقلة حيلتي وعدم توفر الوسائل المساعدة على تحقيق طموحاتي الكبار.
3) ما وفقت له من الاستفادات المنبرية من الخطيبين الجليلين عمّي ملا عطية بن علي الجمري وابنه ملا يوسف، بحيث كنت التقط شواهد ونكات وأحيانا مواضيع بكاملها، وأمارس التدوين لما استفدته منهما منبرياً.
4) ما وفقت له من اقتناء الكتب الحديثة والاستفادة الملحوظة من الأقلام الناضجة، بحيث كان ما اقرؤه يلفت النظر ويعجب المستمعين لاسيما المتعلمين، فقد استفدت من كتب آية الله الشيخ محمد أمين زين رحمه الله،ككتاب الاسلام، وكتاب: من اشعة القرآن، وكتب الأسنادـ ابو الأعلى المودودي، ككتاب: المال وتداول الثروة في الإسلام. وكتب الإسناد لعباس العقاد، ككتاب: عبقرية محمد (ص).
5) صحبتي للملا عبدالله بن محمد - أبو طاهر - البلادي قائداً ومطالعاً له الكتب وقارئ مقدمة، وهو شخص معروف وكثير القراءة آنذاك، صحبته مدة سنة على الأقل، فسبّب هذا أن أًُعرف على مستوى الكثير من الناس.
6) قراءتي في مأتم مدن في المنامة كل يوم عدى عاشوراء لثلاث سنوات، قرأت عندهم طوال هذه المدة عدى عشرة عاشوراء، فبعدها قدمت استقالتي لأهل المأتم وهاجرت إلى النجف الأشرف للدراسة العلميّة.
منقول
الفقيد يودع أستاذه السيد علوي الغريفي في الرؤيا
النعيم - صادق الحلواجي
ودع سماحة الشيخ الراحل عبدالأمير الجمري (قدس سرّه) أستاذه السيدعلوي الغريفي مساء أمس الأول في طيف رآه في المنام على حد قوله.
وقال الغريفي في سرده للطيف إن الشيخ الجمري زاره في الرؤيا من أجل أن يذهبا إلى مكان ما لم يُعلمه به، إلا أن الشيخ الجمري خرج مبتسماً في الوقت نفسه دون أن يخبر أستاذه الغريفي بالمكان الذي سيقصدانه.
وأضاف أحد أقرباء السيد الغريفي إن السيد لم يكن على علم في صباح اليوم التالي بنبأ وفاة الشيخ الجمري إلا أنه قام برواية ما رآه في عالم الرؤيا لزوجته التي لم تخبره بذلك أيضاً، إلا أنها أخبرت ابنه. وبعد حضور ابنه سأله عما إذا زار أحد الشيخ الفقيد أم لا، وروى له قصة الرؤيا، فتفاجأ السيد الغريفي بالنبأ الحزين بعدما أخبره ابنه أن الشيخ الجمري الذي سأل له الدعاء والمغفرة قد اختاره الله.
النعيم - صادق الحلواجي
ودع سماحة الشيخ الراحل عبدالأمير الجمري (قدس سرّه) أستاذه السيدعلوي الغريفي مساء أمس الأول في طيف رآه في المنام على حد قوله.
وقال الغريفي في سرده للطيف إن الشيخ الجمري زاره في الرؤيا من أجل أن يذهبا إلى مكان ما لم يُعلمه به، إلا أن الشيخ الجمري خرج مبتسماً في الوقت نفسه دون أن يخبر أستاذه الغريفي بالمكان الذي سيقصدانه.
وأضاف أحد أقرباء السيد الغريفي إن السيد لم يكن على علم في صباح اليوم التالي بنبأ وفاة الشيخ الجمري إلا أنه قام برواية ما رآه في عالم الرؤيا لزوجته التي لم تخبره بذلك أيضاً، إلا أنها أخبرت ابنه. وبعد حضور ابنه سأله عما إذا زار أحد الشيخ الفقيد أم لا، وروى له قصة الرؤيا، فتفاجأ السيد الغريفي بالنبأ الحزين بعدما أخبره ابنه أن الشيخ الجمري الذي سأل له الدعاء والمغفرة قد اختاره الله.
منقول
منذ »السبت الأسود« ومروراً بـ »الانفرادي« حتى »الجلطة القلبية«
6 أعوام عاشها الشيخ الجمري بين المعتقلات والحصار والإقامة الجبرية
الوسط - هاني الفردان
[ هو المحارب الذي ضحى بكل ما لديه من أجل أن تبقى الأمة ومن أجل أن تستريح، هو الرجل الذي ستشتاق إليه الناس كـ »اشتياق يعقوب إلى يوسف«، كما قالها لهم بدموع الأب الحنون لشعب عاش معه أصعب وأحلك الأيام، عندما قال له في أول لقاء له بعد الإقامة الجبرية »أيها الأحبة، يشهد الله أني أشتاق إليكم اشتياق يعقوب إلى يوسف«.
عاش الجمري ستة أعوام متواصلة إما معتقلاً أو محاصراً أو تحت الإقامة الجبرية، وذلك في الفترة من العام 1995 أو ما عرف بـ »يوم السبت الأسود« وحتى العام 2001 بعد إصابته بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري لترفع الإقامة الجبرية عنه، ثلاث سنوات ونصف منها كانت في السجن الانفرادي.
بين القضاء والسجن والحصار
لا يمكن اختصار المسافات الزمنية لذكر تضحيات وعذابات أبي جميل إلا أننا سنتناول الجانب الأصعب وهو العمل السياسي ومرارات الاعتقال والسجون والإقامة الجبرية والحصار، فهو الذي عاش العمل السياسي منذ أن عين قاضياً في المحكمة الجعفرية في العام 1977 بعد حلِّ المجلس الوطني بعامين وذلك بعد طلب مؤكّد ومتكرّر من المسئولين في البلاد، وبعد أن أعلن موافقته على القضاء بناءً على إجازة كل من المرجعين الدينيين سماحة السيدأبوالقاسم الخوئي (قدس سره) وسماحة الشيخ محمد أمين زين الدين (قدس سره) وفي 1988 عُزِلَ عن القضاء بسبب خلافات حصلت بينه وبين المسئولين في عدة أمور، وبسبب مؤاخذات حادّة من قِبَلِهم عليه على أساس مواقف إسلامية كانت له، وتصريحات من قِبَله تشجب عدة قضايا تُمارس في البلد، وذلك من منطلق النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد عزله اعتُقِل، واستُدعيَ للتحقيق عدة مرات وأُلقيَ عليه أكثر من اتهام، إلا أنّه وبسبب اطمئنانه بصوابية مواقفه لم يتراجع وواصل نشاطاته المختلفة وارتباطه الوثيق بعموم الناس، ما أدى إلى اعتقال ابنه محمد جميل وزوج ابنته عبدالجليل خليل وحكم عليهما بعشر سنوات وسبع سنوات سجناً على التوالي.
وفي ظل التصعيد السياسي والأمني الذي عاشته البحرين في فترة التسعينات وضع الشيخ الجمري تحت الحصار لمدة أسبوعين ثم نقل إلى المعتقل. في الأول من أبريل/ نيسان 1995 بعد أن تمت محاصرة قرية بني جمرة وقتل اثنان من أبنائها وجرح خمسون آخرون، وذلك بعد أن شارك أبوجميل في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية (نوفمبر/ تشرين الثاني 1992)، وفي إعداد والدعوة إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها المرفوعة في العريضة النخبوية العام 1992 (أكتوبر/ تشرين الأول 1994).
هدوء لم يستمر
بعد اعتقال الشيخ الجمري شهدت البحرين تحولات كبيرة ومصادمات دامية في مختلف مناطق المملكة، ما دعا السلطات الأمنية إلى الدخول في حوار مع الشيخ الجمري والإفراج عنه في 25 سبتمبر/ أيلول 1995 بعد اتفاق مع السلطات الأمنية لإعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
وذلك الهدوء لم يطُل، فبعد أقل من أربعة أشهر وتحديداً في 21 يناير/ كانون الثاني 1996 أعيد اعتقال الشيخ الجمري ليشتد اضطراب الوضع الأمني والسياسي في البلاد. وضع في الحجز الانفرادي لأكثر من تسعة شهور ثم نقل إلى سجن مراقب في كل كلمة يقولها وكل شيء يفعله ومنعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه فيما يتم تسجيل كل كلمة تقال وتم من خلال ذلك حجب الشيخ عن كل شيء حتى الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف.
وعرض الشيخ الجمري على محكمة أمن الدولة في 21 فبراير/ شباط 1999 بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة، وأصدرت في السابع من يوليو/ تموز 1999 حكماً بالسجن عشر سنوات ودفع غرامة مقدارها 15مليون دينار لينفلت الوضع الأمني مباشرة بعد ذلك، وبعد الحكم بيوم واحد فقط ظهر الشيخ الجمري في التلفزيون قبيل الإفراج عنه بعفو ليوضع تحت الإقامة الجبرية مرة أخرى والتي لم ترفع عنه إلا في الثالث والعشرين من يناير 2001 وبعد أن تعرض الشيخ الجليل إلى الإصابة بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري.
استراحة محارب غيبته عن حصاد النصر
يقول زوج ابنته والنائب الحالي في مجلس النواب عبدالجليل خليل إن الحديث عن الشيخ الجمري حديث ذو شجون وآلام، فالشيخ أعطى كلّ ما يملك وحين تحقّقت بعض ثمار النصر غاب عن الأنظار حاله حال الشهداء، فقد شاءت القدرة الإلهية أن يستريح المحارب.
وأشار خليل إلى أن الشيخ الجمري لم يضع حدّاً أو فاصلاً يفصله عن أبناء الشعب على رغم انشغالاته وكبر سنّه وتدهور صحّته، فزياراته لأهل البحرين شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً بقدر الإمكان لم تتوقّف سواءً في المناسبات أو الأعراف، وسواءً في وقت الشدّة أو الرخاء، فباب الشيخ ظلّ مفتوحاً للرجال والنساء والشباب والشابّات. وكان دائماً قلباً حنوناً على الشباب خصوصاً حين يحتاجون إلى الدعم المادي أو المعنوي، وأُذناً صاغية لكلّ مشكلاتهم وهمومهم الخاصّة والعامّة. وكان متواضعاً يجلس مع الصغير والكبير يُشاورهم ويُشاورونه ولا يجد في نفسه أيّ غضاضة أن يعمل برأيهم إذا وجد فيه مصلحة أو ثبت في رأيهم صحّة.
وأكد خليل أنه لا يبالغ حين يقول إنّ الشيخ الجمري ما كان يُفرِّق بين أبنائه وكلّ الشباب خصوصاً أيام المحنة ولعلّكم تذكرون حين عُرِضَ عليه إطلاق سراح أبنائه مقابل السكوت عن المطالب فردّ على الوسيط قائلاً: »كلُّ الشباب أبنائي« قالها على رغم التهديد والوعيد وعلى رغم مرارة الفراق وشدّة الألم الذي كان يعتصره من فراق الأبناء بعضهم في السجن والبعض الآخر في المنافي.
وبين خليل أن أكثر ما كان يُميّز الشيخ في كلّ سنيِّ الجهاد التزامه النهج السلميّ حتى في أحلك الظروف عندما كانت مسيّلات الدموع والرصاص يتساقطون على رؤوس الناس كالمطر، مؤكداً أن ذلك ليس بادِّعاء، فالكل يستطيع أن يُراجع خطب الشيخ وبياناته الموثّقة ولن تجد كلمة فيها عنف ولا دعوة فيها تحريض. ولو كان بالإمكان لما احتاجت أجهزة المخابرات إلى محاكمة صورية تفتقر إلى أبسط الحقوق.
رجل المبادرات والمواقف
وقال خليل إن الشيخ الجمري لم يكن ليقبل أن يرى الساحة تحترق في حضوره فيغلق بابه خلفه وينام، وما كان يفّوت أية فرصة يمكن أن يحقّق من خلالها بعض الحقوق فيتقاعس حتى وإن كلّفه ذلك السجن والتشريد له ولعياله، ولذلك تقدّم مع إخوته من المخلصين بالعريضة الأولى ثم الثانية بعد غزو العراق للكويت حين ارتفعت بعض الأصوات المطالبة بالإصلاح في المنطقة، ولم يمنعه أيضاًً أن يتقدم مع إخوته من داخل السجن بالمبادرة على رغم سقوط الشهداء واعتقال الآلاف وتهجير المئات التزاماً بالأسلوب السلمي وحفاظاً على مصلحة الوطن.
وأشار خليل إلى أن الشيخ الجمري لم ينسَ يوم السبت الأسود ولا الزنزانة الانفرادية لثلاث سنوات ونصف ولا المحاكمة الظالمة، ولم يكن ساذجاً بتفاصيل الميثاق وبنوده لكنّه ما أن رُفعت عنه الإقامة الجبرية حتى تقدّم بمبادرة الموافقة على الميثاق بشرط إطلاق سراح المعتقلين وعودة المبعدين وعودة الحياة النيابية لأنّ همّه الوطن وشغله الشاغل مطالب الناس.
وأكد خليل أن الشيخ الجمري لم يرفع شعاراً إلا وكان أول العاملين به، وما كان يطالب الناس بالعمل ثم يتراجع ويختبئ حفاظاً على سلامته وسلامة أهله، وإنه كان أول المصلّين على جسد الشهيد هاني في السنابس وهاني الوسطي في جدحفص، والوحيد الذي يستنهض الناس في الدراز للصلاة على جسد الشهيد عبدالحميد على رغم كثافة قوات الأمن وغزارة مسيلات الدموع.
6 أعوام عاشها الشيخ الجمري بين المعتقلات والحصار والإقامة الجبرية
الوسط - هاني الفردان
[ هو المحارب الذي ضحى بكل ما لديه من أجل أن تبقى الأمة ومن أجل أن تستريح، هو الرجل الذي ستشتاق إليه الناس كـ »اشتياق يعقوب إلى يوسف«، كما قالها لهم بدموع الأب الحنون لشعب عاش معه أصعب وأحلك الأيام، عندما قال له في أول لقاء له بعد الإقامة الجبرية »أيها الأحبة، يشهد الله أني أشتاق إليكم اشتياق يعقوب إلى يوسف«.
عاش الجمري ستة أعوام متواصلة إما معتقلاً أو محاصراً أو تحت الإقامة الجبرية، وذلك في الفترة من العام 1995 أو ما عرف بـ »يوم السبت الأسود« وحتى العام 2001 بعد إصابته بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري لترفع الإقامة الجبرية عنه، ثلاث سنوات ونصف منها كانت في السجن الانفرادي.
بين القضاء والسجن والحصار
لا يمكن اختصار المسافات الزمنية لذكر تضحيات وعذابات أبي جميل إلا أننا سنتناول الجانب الأصعب وهو العمل السياسي ومرارات الاعتقال والسجون والإقامة الجبرية والحصار، فهو الذي عاش العمل السياسي منذ أن عين قاضياً في المحكمة الجعفرية في العام 1977 بعد حلِّ المجلس الوطني بعامين وذلك بعد طلب مؤكّد ومتكرّر من المسئولين في البلاد، وبعد أن أعلن موافقته على القضاء بناءً على إجازة كل من المرجعين الدينيين سماحة السيدأبوالقاسم الخوئي (قدس سره) وسماحة الشيخ محمد أمين زين الدين (قدس سره) وفي 1988 عُزِلَ عن القضاء بسبب خلافات حصلت بينه وبين المسئولين في عدة أمور، وبسبب مؤاخذات حادّة من قِبَلِهم عليه على أساس مواقف إسلامية كانت له، وتصريحات من قِبَله تشجب عدة قضايا تُمارس في البلد، وذلك من منطلق النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد عزله اعتُقِل، واستُدعيَ للتحقيق عدة مرات وأُلقيَ عليه أكثر من اتهام، إلا أنّه وبسبب اطمئنانه بصوابية مواقفه لم يتراجع وواصل نشاطاته المختلفة وارتباطه الوثيق بعموم الناس، ما أدى إلى اعتقال ابنه محمد جميل وزوج ابنته عبدالجليل خليل وحكم عليهما بعشر سنوات وسبع سنوات سجناً على التوالي.
وفي ظل التصعيد السياسي والأمني الذي عاشته البحرين في فترة التسعينات وضع الشيخ الجمري تحت الحصار لمدة أسبوعين ثم نقل إلى المعتقل. في الأول من أبريل/ نيسان 1995 بعد أن تمت محاصرة قرية بني جمرة وقتل اثنان من أبنائها وجرح خمسون آخرون، وذلك بعد أن شارك أبوجميل في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية (نوفمبر/ تشرين الثاني 1992)، وفي إعداد والدعوة إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها المرفوعة في العريضة النخبوية العام 1992 (أكتوبر/ تشرين الأول 1994).
هدوء لم يستمر
بعد اعتقال الشيخ الجمري شهدت البحرين تحولات كبيرة ومصادمات دامية في مختلف مناطق المملكة، ما دعا السلطات الأمنية إلى الدخول في حوار مع الشيخ الجمري والإفراج عنه في 25 سبتمبر/ أيلول 1995 بعد اتفاق مع السلطات الأمنية لإعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
وذلك الهدوء لم يطُل، فبعد أقل من أربعة أشهر وتحديداً في 21 يناير/ كانون الثاني 1996 أعيد اعتقال الشيخ الجمري ليشتد اضطراب الوضع الأمني والسياسي في البلاد. وضع في الحجز الانفرادي لأكثر من تسعة شهور ثم نقل إلى سجن مراقب في كل كلمة يقولها وكل شيء يفعله ومنعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه فيما يتم تسجيل كل كلمة تقال وتم من خلال ذلك حجب الشيخ عن كل شيء حتى الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف.
وعرض الشيخ الجمري على محكمة أمن الدولة في 21 فبراير/ شباط 1999 بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة، وأصدرت في السابع من يوليو/ تموز 1999 حكماً بالسجن عشر سنوات ودفع غرامة مقدارها 15مليون دينار لينفلت الوضع الأمني مباشرة بعد ذلك، وبعد الحكم بيوم واحد فقط ظهر الشيخ الجمري في التلفزيون قبيل الإفراج عنه بعفو ليوضع تحت الإقامة الجبرية مرة أخرى والتي لم ترفع عنه إلا في الثالث والعشرين من يناير 2001 وبعد أن تعرض الشيخ الجليل إلى الإصابة بجلطة في القلب وأجريت له عملية في القلب في المستشفى العسكري.
استراحة محارب غيبته عن حصاد النصر
يقول زوج ابنته والنائب الحالي في مجلس النواب عبدالجليل خليل إن الحديث عن الشيخ الجمري حديث ذو شجون وآلام، فالشيخ أعطى كلّ ما يملك وحين تحقّقت بعض ثمار النصر غاب عن الأنظار حاله حال الشهداء، فقد شاءت القدرة الإلهية أن يستريح المحارب.
وأشار خليل إلى أن الشيخ الجمري لم يضع حدّاً أو فاصلاً يفصله عن أبناء الشعب على رغم انشغالاته وكبر سنّه وتدهور صحّته، فزياراته لأهل البحرين شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً بقدر الإمكان لم تتوقّف سواءً في المناسبات أو الأعراف، وسواءً في وقت الشدّة أو الرخاء، فباب الشيخ ظلّ مفتوحاً للرجال والنساء والشباب والشابّات. وكان دائماً قلباً حنوناً على الشباب خصوصاً حين يحتاجون إلى الدعم المادي أو المعنوي، وأُذناً صاغية لكلّ مشكلاتهم وهمومهم الخاصّة والعامّة. وكان متواضعاً يجلس مع الصغير والكبير يُشاورهم ويُشاورونه ولا يجد في نفسه أيّ غضاضة أن يعمل برأيهم إذا وجد فيه مصلحة أو ثبت في رأيهم صحّة.
وأكد خليل أنه لا يبالغ حين يقول إنّ الشيخ الجمري ما كان يُفرِّق بين أبنائه وكلّ الشباب خصوصاً أيام المحنة ولعلّكم تذكرون حين عُرِضَ عليه إطلاق سراح أبنائه مقابل السكوت عن المطالب فردّ على الوسيط قائلاً: »كلُّ الشباب أبنائي« قالها على رغم التهديد والوعيد وعلى رغم مرارة الفراق وشدّة الألم الذي كان يعتصره من فراق الأبناء بعضهم في السجن والبعض الآخر في المنافي.
وبين خليل أن أكثر ما كان يُميّز الشيخ في كلّ سنيِّ الجهاد التزامه النهج السلميّ حتى في أحلك الظروف عندما كانت مسيّلات الدموع والرصاص يتساقطون على رؤوس الناس كالمطر، مؤكداً أن ذلك ليس بادِّعاء، فالكل يستطيع أن يُراجع خطب الشيخ وبياناته الموثّقة ولن تجد كلمة فيها عنف ولا دعوة فيها تحريض. ولو كان بالإمكان لما احتاجت أجهزة المخابرات إلى محاكمة صورية تفتقر إلى أبسط الحقوق.
رجل المبادرات والمواقف
وقال خليل إن الشيخ الجمري لم يكن ليقبل أن يرى الساحة تحترق في حضوره فيغلق بابه خلفه وينام، وما كان يفّوت أية فرصة يمكن أن يحقّق من خلالها بعض الحقوق فيتقاعس حتى وإن كلّفه ذلك السجن والتشريد له ولعياله، ولذلك تقدّم مع إخوته من المخلصين بالعريضة الأولى ثم الثانية بعد غزو العراق للكويت حين ارتفعت بعض الأصوات المطالبة بالإصلاح في المنطقة، ولم يمنعه أيضاًً أن يتقدم مع إخوته من داخل السجن بالمبادرة على رغم سقوط الشهداء واعتقال الآلاف وتهجير المئات التزاماً بالأسلوب السلمي وحفاظاً على مصلحة الوطن.
وأشار خليل إلى أن الشيخ الجمري لم ينسَ يوم السبت الأسود ولا الزنزانة الانفرادية لثلاث سنوات ونصف ولا المحاكمة الظالمة، ولم يكن ساذجاً بتفاصيل الميثاق وبنوده لكنّه ما أن رُفعت عنه الإقامة الجبرية حتى تقدّم بمبادرة الموافقة على الميثاق بشرط إطلاق سراح المعتقلين وعودة المبعدين وعودة الحياة النيابية لأنّ همّه الوطن وشغله الشاغل مطالب الناس.
وأكد خليل أن الشيخ الجمري لم يرفع شعاراً إلا وكان أول العاملين به، وما كان يطالب الناس بالعمل ثم يتراجع ويختبئ حفاظاً على سلامته وسلامة أهله، وإنه كان أول المصلّين على جسد الشهيد هاني في السنابس وهاني الوسطي في جدحفص، والوحيد الذي يستنهض الناس في الدراز للصلاة على جسد الشهيد عبدالحميد على رغم كثافة قوات الأمن وغزارة مسيلات الدموع.
منقول
رحيل الشيخ الجمري بعد مشوار حافل من «العلم والنضال»
صادق الجمري: لم يبكِ والدي إلا عندما حاول بعضهم تسقيطه لمواقفه المغايرة
الوقت - محمد السواد ومحمد الصفار:
بعد صراع مرير مع المرض، وبعد رحلة كفاح عامرة بالوطنية والعمل الدؤوب لخدمة أبناء شعبه، رحل عن عالمنا صباح أمس (الاثنين) الشيخ عبدالأمير الجمري، ذلك السياسي الوسطي الذي ظل يطالب بالحياة الكريمة من دون تهميش أو تمييز بين أحد، وهو ما وفر أرضية قوية لعلاقات وطيدة جمعته بمختلف تيارات المجتمع من ليبراليين وإسلاميين، إذ كان دائماً يردد ‘’جميع التيارات، شركاؤنا في الوطن’’.
وكان الشيخ الجمري، أبرز الدعاة للوحدة الوطنية ونبد التفرقة ومحاربة الطائفية، حيث حمل هموم الشعب وآلامه، وسار بالقافلة في طريق تحقيق المطالب، مدفوعاً بكثير من النداءات الجماهيرية من قبيل ‘’بالروح بالدم نفديك يا جمري’’ وكذلك ‘’الجمري لا يساوم، من أجلنا يقاوم’’.
وكان الشيخ الجمري وفي كل تحركاته الوطنية، يستند إلى عهد قطعه أمام آلاف الجماهير التي احتشدت في استقباله عند خروجه من السجن، إذ قال ‘’إنني - أيها الشعب العظيم - لأعاهد الله عزّ وجل وأُعاهدكم بأنّي سأبقى وفياً لكم، وسأعيش هموم هذا الشعب وآلامه وآماله، وسأخدمه بكل ما لديّ من طاقات، علّي أتمكّن من أداء بعض الدَّين الكبير الذي لكم في عنقي’’.
الجمري وعلامات البداية
ولد الشيخ عبدالأمير الجمري في بني جمرة العام ،7391 وكانت دراسته الأولية في البحرين، وانخرط بعدها في سلك الخدمة الحسينية، مستفيداً من مجموعة من الخطباء البارزين مثل ابن عمه ملاّ عطية بن علي الجمري وابنه الخطيب ملاّ يوسف ملاّ عطية الجمري، وكذلك الخطيب ملاّ جاسم محمد حسن نجم الجمري. وقرأ الجمري كخطيب مستقل وهو في سن مبكرة، حيث لم يتجاوز السابعة عِشرة من عمره، وقد حظي بتجاوب اجتماعي شجَّعه على الاستمرار.
دراسته العلمية
بدأ الجمري الدراسة العلمية على يد الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح آل صالح آل طعّان البحراني في سنة ،9591 حيث درس عنده بعض المقدمات في العربية والفقه والعقائد لمدة سنتين. وبعد وفاة البحراني هاجر الجمري إلى العراق لمواصلة دراسته، حيث قرأ في النجف معظم السطوح على أساتذة فضلاء وعلماء أعلام، كما حضر لمدة سنتين أو أقل بحث السيد أبوالقاسم الخوئي في الأصول، وبحث السيدمحمد باقر الصدر في الفقه الاستدلالي في ضوء العروة الوثقى.
الشعبية الواسعة
من جهته، اعتبر صادق عبدالأمير الجمري أن شعبية والده لم تكن لأبعاد سياسية فحسب بل لأبعاد اجتماعية، مضيفاً أن والده كان يزور الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، إذ تجده في مختلف المناسبات. وكان منزل الشيخ الجمري مفتوحاً للجميع، في كل الأوقات، حتى أثناء فترة الإقامة الجبرية، وعلى رغم الضغوط آنذاك، إلا أنه كان يبذل جهده ليبقى منزله مفتوحاً للجميع.
وقال صادق ‘’كان منزلنا ومازال مفتوحاً أمام جميع طبقات المجتمع من التوجهات المختلفة، هذا ما ربانا عليه أبونا’’.
وكان الشيخ الجمري قد كشف عن السر في هذا الارتباط الذي يجمعه وجماهير البسطاء، حين قال ‘’هؤلاء البسطاء هم الظهر الذي أستند عليه في أي سوء’’.
وأشار صادق إلى أن ‘’السياسيين، في الثمانينات، كانوا يعتمدون على أحزابهم، أما الجمري فكان يعتمد كلياً على الشارع البحريني’’.
ونتيجة مواقفه المغايرة عن هذه الأحزاب حتى الإسلامية منها تعرض الجمري حينها إلى محاولات تسقيط مختلفة بدعوى الفساد والعمالة وغيرها من الادعاءات الكاذبة، وهو ما عبر عنه صادق بالقول ‘’لم أرَ والدي يبكي على رغم كل العذابات التي واجهته في حياته السياسية، إلا أنه بكى عندما اتهمه بعضهم، وحاولوا تسقيطه والحد من مكانته لا لشيء سوى لمواقفه المغايرة’’.
وأضاف صادق ‘’كان يقول: لا أبكي على نفسي، بل على حال هؤلاء المحسوبين علي’’.
الجمري.. ‘’رجل عائلة حقيقي’’
وفي سياق متصل، أوضح صادق الجمري أن ‘’الوالد كان رجل عائلة حقيقي، يعيش شاباً مرحاً معنا، فطالما كانت ابتسامته وضحكاته تضيف على منزلنا كثيراً من الفرح، كان يمازحنا ودائماً ما كان يروي لنا المواقف الطريفة، ولا تتعجب إن وجدته معنا ومع بعض الشباب في رحلة أو بركة’’، وفق ما قال.
وأضاف ‘’على رغم كونه رجل دين، إلا أن أفكاره كانت تحمل من الانفتاح ما كان يفتقد إليه كثير من رجال الدين في تلك الفترة، كانت نظرته ثاقبة، يصر على أن نكون متعلمين’’.
وتابع ‘’لذلك تجد جميع بناته وأبنائه من المتعلمين وخريجي الجامعات العريقة، فلم يمانع حتى من ذهاب أبنائه وبناته للدراسة في الخارج. كان على درجة من الانفتاح والوعي’’.
من أقوال الشيخ الجمري في زوجته
أشاد الشيخ الجمري بوقوف زوجته بجانبه في الشدة، إذ قال ‘’كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام’’.
وأضاف ‘’أذكر في 6 سبتمبر/ أيلول 8891 وقد جاء عدد من ضباط الأمن لاعتقالي، أنها وقفت بباب المنزل حائلة بين القوم وبيني لا تدع أحداً يدخل إلى المنزل، وصارت تتكلم لأولئك بصوت ومنطق شجاع ما كنت أتوقعه منها، ولو لم أتدخل في إقناعها خشية أن يمسوها بسوء، لما غيرت مكانها ولهجتها، ولما تمكنوا من أخذي’’.
وتابع ‘’وأذكر من كلماتها في وجوههم بصوت عال وهم يريدون دخول المنزل للتفتيش (لماذا تفتشون منزلنا؟ هل عندنا متفجرات أو قنابل، من أين تأتينا، من أي طريق، هل نزرعها زراعة فنحصل عليها)’’.
الجمري الشاعر والأديب
نظم الجمري الشعر، وهو في سنٍ مبكرةٍ، باللسانين الشعبي، والفصيح، وكانت البداية مع نظم الشعر الشعبي، إذ أنتج وهو دون العاشرة من عمره، ديوان شعر في هذا الباب (أنغام الولاء) لايزال مخطوطاً.
بدأ نظم الفصيح، وهو دون الثامنة عشرة، ونُشرت له قصائد عدة بالفصحى في بعض الصحف البحرينية، كما ألقى كثيراً من قصائده في الاحتفالات الدينية، وصدر له في هذا اللون من الشعر الجزء الأول من ديوانه ‘’عصارة قلب’’.
كما نشر الجمري مقالات أدبية ودينية وقصائد في بعض الصحف والمجلات العراقية كـ ‘’الأضواء’’، و’’التضامن الإسلامي’’ حينما كان في النجف، وفي عدد من الصحف والمجلات البحرينية بعد عودته إلى البلاد.
عضويته في البرلمان
عاد الجمري إلى البحرين بعد 21 عاماً قضاها في تحصيل العلم بجامعة النجف، وذلك بناءً على طلب أهالي منطقته من أجل أن يرشِّحَ نفسه لعضوية المجلس الوطني، وبالفعل جرى انتخابه عضواً في المجلس عن الدائرة السادسة عشرة، من دون أية دعاية انتخابية تذكر، وكان له مع كتلته في المجلس الوجود الفاعل، والمواقف الواضحة والجريئة.
نشاطات أخرى
عمل الجمري نائباً لرئيس جمعية التوعية الإسلامية في البحرين لمدة 6 سنوات تقريباً، حينما كان رئيسها الشيخ عيسى قاسم، وكان له فيها وجود فاعل ونشاط معروف، كما قام منذ 3791 حتى 1891 بتقديم الأحاديث الدينية في إذاعة وتلفزيون البحرين، حيث كان هناك إقبال كبير على أحاديثه.
عمل الجمري محرراً دينياً في مجلة ‘’المواقف’’، إذ كان يقدم زاوية ‘’استفسارات دينية’’، وله مؤلفات إسلامية عدة طبع منها ‘’من واجبات الإسلام’’، ‘’من تعاليم الإسلام ‘’، ‘’المرأة في ظلِّ الإسلام ‘’ و’’مقدمة دعاء كميل’’. وكان له كذلك ديوان شعر ‘’عصارة قلب’’، إضافة إلى ‘’من شموع العترة الطاهرة’’ وهناك عدد من المؤلّفات مازال مخطوطاً، منها كتاب ‘’الإسلام وشؤون الإنسان’’، وفي سنة 5891 أسس الجمري الحوزة العلمية المعروفة بحوزة الإمام زين العابدين في جامع الإمام زين العابدين، بقرية بني جمرة .
الجمري.. قاضياً
عُيِّنَ الجمري بعد حلِّ المجلس الوطني بسنتين قاضياً في المحكمة الكبرى الشرعية (الدائرة الجعفرية)، وذلك بعد طلب متكرّر من المسؤولين في البلاد.
وفي العام 8891 عُزِلَ من القضاء على خلفية مواقفه الإسلامية، وتصريحاته التي شجب فيها قضايا عدة تُمارس في البلد، من منطلق النصيحة، وبعدها جرى اعتقاله واستدعاؤه للتحقيق مرات عدة، لكنه وبسبب اطمئنانه لمواقفه لم يتراجع وواصل نشاطاته المختلفة وارتباطه الوثيق بعموم الناس.
درب النضال
شارك الجمري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2991 في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية، كما دعا بعدها بعامين إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها والتي وردت بالعريضة السابقة.
وفي أبريل/ نيسان ،5991 حوصرت قرية بني جمرة، ووضع الشيخ الجمري تحت الحصار فترة معينة، نقل بعدها إلى السجن الانفرادي، إلى أن أفرج عنه في 52 سبتمبر/ أيلول 5991 بعد اتفاق مع السلطات الأمنية لإعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
وبعد أشهر قليلة، وبالتحديد في يناير/ كانون الثاني 6991 أعيد اعتقال الجمري ليزداد الوضع الأمني والسياسي اضطراباً، ما دفع السلطات حينها إلى وضعه في الحجز الانفرادي لأكثر من 9 أشهر، نقل بعدها إلى السجن، حيث منعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه، وحجب الشيخ الجمري أثناء تلك الفترة عن العالم الخارجي تماماً، حتى تم الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة. وفي 12 فبراير/ شباط 9991 بدأت محاكمة الشيخ الجمري أمام محكمة أمن الدولة بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة، وقضت المحكمة بسجنه 01 سنوات وتغريمه 7,5 مليون دينار، لكنه أفرج عنه بعفو ووضع تحت الإقامة الجبرية مرة أخرى.
وعلى هذه الخلفية من المعاناة والسجن المتواصل والكفاح المرير، تمكن المرض من الشيخ الجمري، إذ أصيب في مايو/ أيار 0002 بجلطة في القلب وأجريت له عملية جراحية بالمستشفى العسكري، وفي 32 يناير/ كانون الثاني 1002 رفعت عنه الإقامة الجبرية، لكن حالته الصحية ازدادت سوءاً فنقل في يونيو/ حزيران 2002 إلى ألمانيا لإجراء عملية في الظهر أصيب بعدها بجلطة في موقع العملية وجلطتين في الدماغ، وبعدها بنحو 6 أشهر نقل للعلاج في ‘’مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية’’ بالرياض.
وهكذا ظل المغفور له الشيخ عبدالأمير الجمري في معاناة مع المرض، إلى أن وافته المنية صباح أمس (الاثنين) بعد رحلة مشهودة من الكفاح لصالح كل أبناء وطنه.
صادق الجمري: لم يبكِ والدي إلا عندما حاول بعضهم تسقيطه لمواقفه المغايرة
الوقت - محمد السواد ومحمد الصفار:
بعد صراع مرير مع المرض، وبعد رحلة كفاح عامرة بالوطنية والعمل الدؤوب لخدمة أبناء شعبه، رحل عن عالمنا صباح أمس (الاثنين) الشيخ عبدالأمير الجمري، ذلك السياسي الوسطي الذي ظل يطالب بالحياة الكريمة من دون تهميش أو تمييز بين أحد، وهو ما وفر أرضية قوية لعلاقات وطيدة جمعته بمختلف تيارات المجتمع من ليبراليين وإسلاميين، إذ كان دائماً يردد ‘’جميع التيارات، شركاؤنا في الوطن’’.
وكان الشيخ الجمري، أبرز الدعاة للوحدة الوطنية ونبد التفرقة ومحاربة الطائفية، حيث حمل هموم الشعب وآلامه، وسار بالقافلة في طريق تحقيق المطالب، مدفوعاً بكثير من النداءات الجماهيرية من قبيل ‘’بالروح بالدم نفديك يا جمري’’ وكذلك ‘’الجمري لا يساوم، من أجلنا يقاوم’’.
وكان الشيخ الجمري وفي كل تحركاته الوطنية، يستند إلى عهد قطعه أمام آلاف الجماهير التي احتشدت في استقباله عند خروجه من السجن، إذ قال ‘’إنني - أيها الشعب العظيم - لأعاهد الله عزّ وجل وأُعاهدكم بأنّي سأبقى وفياً لكم، وسأعيش هموم هذا الشعب وآلامه وآماله، وسأخدمه بكل ما لديّ من طاقات، علّي أتمكّن من أداء بعض الدَّين الكبير الذي لكم في عنقي’’.
الجمري وعلامات البداية
ولد الشيخ عبدالأمير الجمري في بني جمرة العام ،7391 وكانت دراسته الأولية في البحرين، وانخرط بعدها في سلك الخدمة الحسينية، مستفيداً من مجموعة من الخطباء البارزين مثل ابن عمه ملاّ عطية بن علي الجمري وابنه الخطيب ملاّ يوسف ملاّ عطية الجمري، وكذلك الخطيب ملاّ جاسم محمد حسن نجم الجمري. وقرأ الجمري كخطيب مستقل وهو في سن مبكرة، حيث لم يتجاوز السابعة عِشرة من عمره، وقد حظي بتجاوب اجتماعي شجَّعه على الاستمرار.
دراسته العلمية
بدأ الجمري الدراسة العلمية على يد الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح آل صالح آل طعّان البحراني في سنة ،9591 حيث درس عنده بعض المقدمات في العربية والفقه والعقائد لمدة سنتين. وبعد وفاة البحراني هاجر الجمري إلى العراق لمواصلة دراسته، حيث قرأ في النجف معظم السطوح على أساتذة فضلاء وعلماء أعلام، كما حضر لمدة سنتين أو أقل بحث السيد أبوالقاسم الخوئي في الأصول، وبحث السيدمحمد باقر الصدر في الفقه الاستدلالي في ضوء العروة الوثقى.
الشعبية الواسعة
من جهته، اعتبر صادق عبدالأمير الجمري أن شعبية والده لم تكن لأبعاد سياسية فحسب بل لأبعاد اجتماعية، مضيفاً أن والده كان يزور الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، إذ تجده في مختلف المناسبات. وكان منزل الشيخ الجمري مفتوحاً للجميع، في كل الأوقات، حتى أثناء فترة الإقامة الجبرية، وعلى رغم الضغوط آنذاك، إلا أنه كان يبذل جهده ليبقى منزله مفتوحاً للجميع.
وقال صادق ‘’كان منزلنا ومازال مفتوحاً أمام جميع طبقات المجتمع من التوجهات المختلفة، هذا ما ربانا عليه أبونا’’.
وكان الشيخ الجمري قد كشف عن السر في هذا الارتباط الذي يجمعه وجماهير البسطاء، حين قال ‘’هؤلاء البسطاء هم الظهر الذي أستند عليه في أي سوء’’.
وأشار صادق إلى أن ‘’السياسيين، في الثمانينات، كانوا يعتمدون على أحزابهم، أما الجمري فكان يعتمد كلياً على الشارع البحريني’’.
ونتيجة مواقفه المغايرة عن هذه الأحزاب حتى الإسلامية منها تعرض الجمري حينها إلى محاولات تسقيط مختلفة بدعوى الفساد والعمالة وغيرها من الادعاءات الكاذبة، وهو ما عبر عنه صادق بالقول ‘’لم أرَ والدي يبكي على رغم كل العذابات التي واجهته في حياته السياسية، إلا أنه بكى عندما اتهمه بعضهم، وحاولوا تسقيطه والحد من مكانته لا لشيء سوى لمواقفه المغايرة’’.
وأضاف صادق ‘’كان يقول: لا أبكي على نفسي، بل على حال هؤلاء المحسوبين علي’’.
الجمري.. ‘’رجل عائلة حقيقي’’
وفي سياق متصل، أوضح صادق الجمري أن ‘’الوالد كان رجل عائلة حقيقي، يعيش شاباً مرحاً معنا، فطالما كانت ابتسامته وضحكاته تضيف على منزلنا كثيراً من الفرح، كان يمازحنا ودائماً ما كان يروي لنا المواقف الطريفة، ولا تتعجب إن وجدته معنا ومع بعض الشباب في رحلة أو بركة’’، وفق ما قال.
وأضاف ‘’على رغم كونه رجل دين، إلا أن أفكاره كانت تحمل من الانفتاح ما كان يفتقد إليه كثير من رجال الدين في تلك الفترة، كانت نظرته ثاقبة، يصر على أن نكون متعلمين’’.
وتابع ‘’لذلك تجد جميع بناته وأبنائه من المتعلمين وخريجي الجامعات العريقة، فلم يمانع حتى من ذهاب أبنائه وبناته للدراسة في الخارج. كان على درجة من الانفتاح والوعي’’.
من أقوال الشيخ الجمري في زوجته
أشاد الشيخ الجمري بوقوف زوجته بجانبه في الشدة، إذ قال ‘’كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام’’.
وأضاف ‘’أذكر في 6 سبتمبر/ أيلول 8891 وقد جاء عدد من ضباط الأمن لاعتقالي، أنها وقفت بباب المنزل حائلة بين القوم وبيني لا تدع أحداً يدخل إلى المنزل، وصارت تتكلم لأولئك بصوت ومنطق شجاع ما كنت أتوقعه منها، ولو لم أتدخل في إقناعها خشية أن يمسوها بسوء، لما غيرت مكانها ولهجتها، ولما تمكنوا من أخذي’’.
وتابع ‘’وأذكر من كلماتها في وجوههم بصوت عال وهم يريدون دخول المنزل للتفتيش (لماذا تفتشون منزلنا؟ هل عندنا متفجرات أو قنابل، من أين تأتينا، من أي طريق، هل نزرعها زراعة فنحصل عليها)’’.
الجمري الشاعر والأديب
نظم الجمري الشعر، وهو في سنٍ مبكرةٍ، باللسانين الشعبي، والفصيح، وكانت البداية مع نظم الشعر الشعبي، إذ أنتج وهو دون العاشرة من عمره، ديوان شعر في هذا الباب (أنغام الولاء) لايزال مخطوطاً.
بدأ نظم الفصيح، وهو دون الثامنة عشرة، ونُشرت له قصائد عدة بالفصحى في بعض الصحف البحرينية، كما ألقى كثيراً من قصائده في الاحتفالات الدينية، وصدر له في هذا اللون من الشعر الجزء الأول من ديوانه ‘’عصارة قلب’’.
كما نشر الجمري مقالات أدبية ودينية وقصائد في بعض الصحف والمجلات العراقية كـ ‘’الأضواء’’، و’’التضامن الإسلامي’’ حينما كان في النجف، وفي عدد من الصحف والمجلات البحرينية بعد عودته إلى البلاد.
عضويته في البرلمان
عاد الجمري إلى البحرين بعد 21 عاماً قضاها في تحصيل العلم بجامعة النجف، وذلك بناءً على طلب أهالي منطقته من أجل أن يرشِّحَ نفسه لعضوية المجلس الوطني، وبالفعل جرى انتخابه عضواً في المجلس عن الدائرة السادسة عشرة، من دون أية دعاية انتخابية تذكر، وكان له مع كتلته في المجلس الوجود الفاعل، والمواقف الواضحة والجريئة.
نشاطات أخرى
عمل الجمري نائباً لرئيس جمعية التوعية الإسلامية في البحرين لمدة 6 سنوات تقريباً، حينما كان رئيسها الشيخ عيسى قاسم، وكان له فيها وجود فاعل ونشاط معروف، كما قام منذ 3791 حتى 1891 بتقديم الأحاديث الدينية في إذاعة وتلفزيون البحرين، حيث كان هناك إقبال كبير على أحاديثه.
عمل الجمري محرراً دينياً في مجلة ‘’المواقف’’، إذ كان يقدم زاوية ‘’استفسارات دينية’’، وله مؤلفات إسلامية عدة طبع منها ‘’من واجبات الإسلام’’، ‘’من تعاليم الإسلام ‘’، ‘’المرأة في ظلِّ الإسلام ‘’ و’’مقدمة دعاء كميل’’. وكان له كذلك ديوان شعر ‘’عصارة قلب’’، إضافة إلى ‘’من شموع العترة الطاهرة’’ وهناك عدد من المؤلّفات مازال مخطوطاً، منها كتاب ‘’الإسلام وشؤون الإنسان’’، وفي سنة 5891 أسس الجمري الحوزة العلمية المعروفة بحوزة الإمام زين العابدين في جامع الإمام زين العابدين، بقرية بني جمرة .
الجمري.. قاضياً
عُيِّنَ الجمري بعد حلِّ المجلس الوطني بسنتين قاضياً في المحكمة الكبرى الشرعية (الدائرة الجعفرية)، وذلك بعد طلب متكرّر من المسؤولين في البلاد.
وفي العام 8891 عُزِلَ من القضاء على خلفية مواقفه الإسلامية، وتصريحاته التي شجب فيها قضايا عدة تُمارس في البلد، من منطلق النصيحة، وبعدها جرى اعتقاله واستدعاؤه للتحقيق مرات عدة، لكنه وبسبب اطمئنانه لمواقفه لم يتراجع وواصل نشاطاته المختلفة وارتباطه الوثيق بعموم الناس.
درب النضال
شارك الجمري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2991 في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية، كما دعا بعدها بعامين إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها والتي وردت بالعريضة السابقة.
وفي أبريل/ نيسان ،5991 حوصرت قرية بني جمرة، ووضع الشيخ الجمري تحت الحصار فترة معينة، نقل بعدها إلى السجن الانفرادي، إلى أن أفرج عنه في 52 سبتمبر/ أيلول 5991 بعد اتفاق مع السلطات الأمنية لإعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
وبعد أشهر قليلة، وبالتحديد في يناير/ كانون الثاني 6991 أعيد اعتقال الجمري ليزداد الوضع الأمني والسياسي اضطراباً، ما دفع السلطات حينها إلى وضعه في الحجز الانفرادي لأكثر من 9 أشهر، نقل بعدها إلى السجن، حيث منعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه، وحجب الشيخ الجمري أثناء تلك الفترة عن العالم الخارجي تماماً، حتى تم الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة. وفي 12 فبراير/ شباط 9991 بدأت محاكمة الشيخ الجمري أمام محكمة أمن الدولة بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة، وقضت المحكمة بسجنه 01 سنوات وتغريمه 7,5 مليون دينار، لكنه أفرج عنه بعفو ووضع تحت الإقامة الجبرية مرة أخرى.
وعلى هذه الخلفية من المعاناة والسجن المتواصل والكفاح المرير، تمكن المرض من الشيخ الجمري، إذ أصيب في مايو/ أيار 0002 بجلطة في القلب وأجريت له عملية جراحية بالمستشفى العسكري، وفي 32 يناير/ كانون الثاني 1002 رفعت عنه الإقامة الجبرية، لكن حالته الصحية ازدادت سوءاً فنقل في يونيو/ حزيران 2002 إلى ألمانيا لإجراء عملية في الظهر أصيب بعدها بجلطة في موقع العملية وجلطتين في الدماغ، وبعدها بنحو 6 أشهر نقل للعلاج في ‘’مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية’’ بالرياض.
وهكذا ظل المغفور له الشيخ عبدالأمير الجمري في معاناة مع المرض، إلى أن وافته المنية صباح أمس (الاثنين) بعد رحلة مشهودة من الكفاح لصالح كل أبناء وطنه.
منقول
الشيخ الجمري رجل الكلمة والموقف
بقلم: السيد مرتضى السيد مجيد السندي
في أول زيارة لنا للشيخ الجمري(ره) بعد مرضه عندما كان يرقد في مستشفى مدينة الأمير سلطان بن عبد العزيز للخدمات الإنسانية في الرياض، كنا كلنا اشتياق لذلك الرجل التاريخي بكل معنى الكلمة،كنا في الطريق إليه نتذكره وهو يطل علينا من تلك الشرفة ويحيي الجماهير الغفيرة التي جاءت لتعلن وقوفها معه هو وأصحاب المبادرة آنذاك، وبعد خمس ساعات قضيناها في الطريق إليه وصلنا إلى المستشفى الذي يرقد فيه الشيخ الجمري. استقبلنا الحارس بقوله: إلى الشيخ الجمري طبعاً؟ أجبناه بنعم. فقال: في المكان الفلاني. ووصف لنا المكان الذي يرقد فيه الشيخ، فذهبنا مسرعين نتسابق لرؤية الأب الحنون الذي فارقنا وترك فراغاً كبيراً في الساحة، ولكن عندما وصلنا إلى باب الغرفة التي يرقد فيها الشيخ لم يجرؤ أحدٌ منا على طرق الباب وبدأ كلٌّ منا يطلب من الآخر أن يتقدم هو لذلك، وبينما نحن كذلك خرج صادق ـ ابن الشيخ الجمري ـ وقال لنا: تفضلوا. فدخلنا بخطى حياءٍ وخجلٍ ممتزجٍ بشوقٍ لا يسعه هذا الكون.
دخلنا وكنا نظن أن الشيخ الجمري موجودٌ في الغرفة، ولكن تبين لنا أنه لم يكن هناك وإنما كان في غرفة العلاج الطبيعي، فانتظرناه إلى أن يأتي من غرفة العلاج. وبعد ما يقارب الثلث ساعة تقريباً من الانتظار فتح الباب، وإذا بكرسي متحرك يدخل من الباب، لم نكن نتوقع من الجالس على هذا الكرسي ولم نكن نعرف حالة الشيخ الصحية قبل أن نذهب إليه؛ لذلك سبب لنا هذا الجالس على الكرسي صدمةً كبيرةً مما دفع بعضنا إلى أن يجهش بالبكاء بينما البعض الآخر يبكي بدون صوت محاولةً منه لتخفيف الألم والمعاناة عن الشيخ وأهله.
حينها تقدم ابنه صادق بالكرسي الذي كان يدفعه وتوقف أمامنا. كلٌّ منا كان يريد أن يتكلم, يريد أن يعبر عن مشاعره، ولكن العَبرة والدموع كانت تخنقنا فلم نستطع الكلام، وبعد لحظاتٍ كسر أحد أصحابي هذا الصمت وقال ـ وهو يبكي بصوتٍ مرتفع نسبياً ـ : يا شيخ متى تعود لنا؟ نحن في أمَسِّ الحاجة إليك. متى تعود للبحرين؟ لأبنائك؟ لشعبك؟ ولم يستطع صاحبي أن يكمل حديثه وواصل بكاءه. وفي هذه اللحظات حصل ما لم نكن نتوقع حصوله، حيث إن الشيخ الجمري آنذاك كان نحيفاً جداً ووجنتاه قد ذهبتا وعيناه تبدو وكأنها غائرةٌ، ظننا أنه لا يستطيع الكلام وإذا به يفاجئنا بقوله: أريد أن أعود للبحرين لكي أدافع عن المظلومين ولكي أساهم في إخراج المعتقلين من السجون وإلى لم الشمل والوفاق الوطني ولكي أواصل مسيرة العمل الإسلامي. إلى هنا انتهى كلام الشيخ الذي هو الآخر أجهش بالبكاء.
بالنسبة لي أستطيع أن أعتبر أن هذه الكلمات التي أطلقها الشيخ الأب الجمري وهو في حالته هذه بالوصية التي يوصي بها كل محبيه وكل الذين يدعون أنهم يسيرون على نهجه وعلى خطاه. وعندما نقرأ أو نسمع ما قاله الشيخ يمكننا أن نتذكر مواقفه المؤيدة والداعمة لما قال. وإذا أردنا أن نلخص وصية الشيخ الجمري أو أمنيته فنستطيع أن نجعلها في خمس نقاط، وأظن أن هناك أمور لم يستطع الشيخ الجمري البوح بها بسبب بكائه.
النقاط هي كالآتي:
1- الدفاع عن المظلومين.
2- المساهمة في إخراج المعتقلين من السجون.
3- لمّ الشمل.
4- الوفاق الوطني.
5- مواصلة مسيرة العمل الإسلامي.
إن الشيخ الجمري رجل كلمةٍ وموقفٍ، فهو عندما نطق بهذه الأمور لم ينطقها اعتباطاً، بل لأنه كان يعيشها همّاً في حياته العملية؛ لذلك خرجت منه هذه الكلمات، وتدعيماً لما أقول فإني أذكر بعض المواقف للشيخ الجمري والتي تجسد ما قاله في وصيته.
1-الدفاع عن المظلومين:
لقدكان دفاعه(ره) عن المظلومين قديماً جداً، ولم يكن في فترة التسعينيات فحسب فقد كان منذ صغره وهو يهتم بالقضايا السياسية التي تمس بشكل مباشر قضايا المظلومين والمستضعفين([1])، واستمر هذا الاهتمام حتى دعاه أبناء منطقته في عام (1973م) إلى أن يعود ليرشح نفسه في الانتخابات النيابية وذلك لمواصلة هذا الطريق الذي اختاره لنفسه، فقد كان كل همِّه أن يخدم الناس وكان آخر شيء يفكر فيه هو نفسه.([2]) وقد تجلى ذلك بوضوح في فترة التسعينات و الانتفاضة المباركة، فقد ضحى(ره) بكل ما لديه، فقد اعتقل ابنه الأكبر وقاموا بمساومته بأن اترك الناس وقضاياهم ونفرج عن ابنك وزوج ابنتك ولكنه كان يرفض ذلك،وكان السبب الرئيسي في فصله من القضاء هو اهتمامه بقضايا الناس وطرح مظلوميتهم، وقد تم اعتقاله في بداية الانتفاضة وتم تقديم الإغراءات المالية له لكي يتخلى عن الناس، وحوصر واعتقل ثم حوصر مرة ثانية واعتقل واعتقلت ابنته وزوجة ابنه، وتمَّ تهجير أبنائه وسحب البعثات الدراسية عنهم والمضايقة له ولعائلته ولكل من له صلة به لكي يتخلى عن المظلومين من الناس، ولكنه رفض ذلك، بل لم يقتصر دفاعه عن المظلومين من أبناء البحرين فحسب، بل كان يدافع عن كل المظلومين في العالم، فقد كان اهتمامه كبيراً بقضية فلسطين التي كان يسميها بالقضية الأم([3])، وكان يدافع عن شعب لبنان وشعب العراق وكل شعوب العالم المستضعفة.
2- المساهمة في إخراج المعتقلين من السجون:
لا يخفى على أحد دور الشيخ الجمري في إخراج المعتقلين من السجون، فهو من اليوم الأول الذي حصلت فيه الاعتقالات كان دائماً في مقدمة المطالبين بالإفراج عن المعتقلين بدءاً من اعتقال الشيخ علي سلمان وانتهاءً إلى بقية المعتقلين. يذكر الأستاذ عبد الوهاب في مقالته (تجربتي مع الجمري): (وقد قررنا استناداً إلى الاستراتيجية أن نشكل مجموعةً لزيارة وزارة الداخلية والاحتجاج على الاعتقال، وكان ذهابنا في يوم الأحد الذي يصادف اجتماع مجلس الوزراء، وكانت المجموعة بقيادة الشيخ الجمري وكانت تتألف من ثمانية أشخاص ضمت فضيلة الأستاذ حسن مشيمع وفضيلة الشيخ حسن سلطان وعبد الوهاب حسين وآخرين من ضمنهم مشايخ اقترحهم سماحة الشيخ الجمري(ره)... وبعد الإجراءات المعتادة عند بوابة القلعة سمح لنا بالدخول وأخِذنا إلى مكتب سعادة وزير الداخلية وقابلنا هناك الضباط في المكتب وأخبرناهم بالغاية من حضورنا إلى الوزارة، وأخبرونا بأن سعادة الوزير في اجتماع مجلس الوزراء، وطلبنا منهم الاتصال به وإخباره بحضورنا والغاية التي جئنا من أجلها وأننا نرفض الخروج قبل الإفراج عن فضيلة الشيخ علي سلمان، وحدثت مشادات كلامية أعتقد أنها هي الأولى من نوعها في ذلك المكتب, ثم طُلِبَ منا الذهاب إلى مركز الخميس وسوف نحصل هناك على الجواب من المسؤولين فيه, وأصر بعض أفراد المجموعة على عدم الخروج قبل الحصول على جواب محدد بشأن الإفراج عن فضيلة الشيخ علي سلمان... فسألوا الأفرادَ الأكثرَ إصراراً عن أسمائهم ومكان سكناهم ومكان عملهم وكانت تأتيهم الإجابات بتلقائية وبدون تردد، إلا أن بعض المشايخ ـ خاصةً الذين كانوا من خارج الفريق ـ لم يكن لهم نفس العزم, وكانوا يرون الاستجابة والذهاب إلى مركز الخميس, فقبلنا الخروج وقبل أن نصل إلى مركز الخميس وصلنا الخبر السعيد بأن فضيلة الشيخ علي سلمان قد أفرج عنه).
وتنقل حادثةٌ أخرى حصلت في فترة التسعينات، وهي أن الشيخ الجمري كانت له مشاركة في منطقة النعيم فهجمت قوات الشغب على المأتم الذي يشارك فيه الشيخ الجمري وأطلقت غازات مسيل الدموع مما سبب الاختناق للحاضرين، فنقل بعض الشباب الشيخ الجمري لأحد المنازل القريبة من المأتم وحدثت اشتباكات بين الناس وقوات الشغب وتم اعتقال عدد من الشباب، وعندما أراد الشباب إخراج الشيخ الجمري من المنطقة رفض الشيخ ذلك وأجرى اتصالات مع المسؤولين في الدولة وقال لهم: لا أخرج من النعيم إلا بعد الإفراج عن المعتقلين. وفعلاً بعد عدة اتصالات تم الإفراج عن المعتقلين وخرج الشيخ الجمري بعدها من منطقة النعيم.
ولقد كان من أهم مطالبه في فترة المبادرة هو الإفراج عن المعتقلين، وكان هذا مطلبه أيضاً عندما بدأت السلطة بالحوار معه بشأن موضوع التصويت على الميثاق.
3- لم الشمل:
لقد كان يؤرق الشيخ الجمري الاختلافات والفرقة بين الناس، لذلك كانت حركته في اتجاه الإصلاح بين المختلفين على جميع الأصعدة بدءاً من الخلافات الزوجية مروراً بالخلافات في القرى على إدارات المآتم والحسينيات وما شابه، ودوره في حل الخلافات في قريتي السنابس والهملة وغيرهما لا ينساه أهالي تلك المناطق، بل لا ينساه كل أبناء الشعب. ورغم اختلافه الكبير مع الشيخ سليمان المدني حول عدالة القضية وضرورة المطالب إلا أن الشيخ الجمري كان سباقاً إلى أن يلمَّ الشمل بعد خصام وتشنجات حصلت بين الطرفين، وذلك بدعوته للشيخ سليمان لزيارة منزله ثم رد إليه الزيارة في منزله لاحقاً، حصل ذلك رغم الانتقادات اللاذعة التي حصل عليها الشيخ الجمري من قِبَل بعض الأطراف التي كانت رافضةً لمثل هذا التقارب، ولكن الشيخ الجمري لم يعتن بهذه الانتقادات وكانت نظرته دائماً للمستقبل، حيث لو أن الشيخين رحلا عن الدنيا ولم يحصل هذا اللقاء لاستمر ذلك الخلاف بين أتباع الشيخين إلى ما لا يعلم نهايته إلا الله.
4- الوفاق الوطني:
لقد كانت مسألة الوفاق الوطني من الأمور المهمة والحساسة بالنسبة إلى الشيخ(ره)؛ لذلك تجد أكثر المشاريع التي يشارك فيها يكون الحس الوطني واضحاً فيها، فعندما كانت العريضة النخبوية في عام(1992م) تلاحظ أن هناك مشاركةً من قِبَل جميع الأطراف في البحرين، بل حتى الذين لم يشاركوا في العريضة تمَّ عرضها عليهم وتمَّ شرحها وشرح مطالبها إليهم، ولكن البعض قد اعتذر عن المشاركة في هذه العريضة لأسباب خاصة بهم، ولكن مع ذلك تلاحظ أن هذه العريضة قد جمعت الكثير من الأطياف في مشروع واحد.
جاءت من بعد العريضة النخبوية بعامين العريضة الشعبية، والتي حملت ـ هي الأخرى ـ نفس المطالب ونفذت إلى أكثر الأطياف في البحرين، وكانت تسعى لمشاركة جميع الأطياف كمشروع وطني جامع.
إن قبول فكرة المبادرة وإعطاء فرصة للحوار مع الحكومة التي لم تتوانَ في سفك الدماء وهتك الأعراض لهو دليلٌ كبيرٌ على أن أصحاب المبادرة ـ ومن بينهم الشيخ الجمري(ره) ـ كان همهم أن يكون هناك وفاق وطني بين الجميع حكومةً وشعباً بكل أطيافه وفئاته.
إن زيارة الشيخ الجمري التاريخية لجمعية الإصلاح لهي خطوةٌ واضحةٌ وجريئةٌ إلى لمِّ الشمل ورصّ الصف الوطني، ولكي يبعث الطمأنينة للإخوة السنة في البلد بعد فترة من التضليل الإعلامي الذي مارسته السلطة آنذاك وادعاءاتها الكاذبة بأن الانتفاضة هي شيعيةٌ فقط، وهي مدعومةٌ من الخارج، وأن مطلب القائمين عليها هو الحكم وغيرها من الأضاليل. فكانت هذه الزيارة رسالة حب وإخاء، وهي التي بذرت بذرةً جميلةً كان بإمكاننا أن نجنيَ ثمارها يانعةً لو أننا واصلنا الطريق مع الإخوة المعتدلين من الإخوة السنة.
وإن إسهامات الشيخ(ره) كثيرةٌ في مسألة رصّ الصف الوطني والسعي للتقارب بين الإخوة في الوطن، ولو أردنا إحصاءها لاحتجنا إلى الكثير من الوقت والجهد.
5- مواصلة مسيرة العمل الإسلامي:
إذا أردنا أن نتحدث عن مسيرة الشيخ(ره) في العمل الإسلامي فإننا نحتاج لكتب نعددها، ولكن نحن هنا نعطي إضاءاتٍ وإطلالاتٍ سريعةً على بعض مساهماته في العمل الإسلامي.
ـ إن من الأمور المهمة التي قام بها الشيخ هو تأسيسه لحوزة الإمام زين العابدين(ع) المعروفة بـ (حوزة الجمري)، فلا يخفى على أحدٍ ما تقدمه الحوزة من عطاء من خلال بناء طلبة العلوم الدينية بالفكر الإسلامي الأصيل من خلال إيجاد مدرسين كفوئين.
ـ مساهمة الشيخ في تأسيس جمعية التوعية الإسلامية، ومن ثم العمل فيها بجد ونشاط وتوليه منصب نائب للرئيس لمدة ما يقارب الست سنوات، وبعد إغلاق الجمعية من قبل السلطات كان ينتهز أي فرصة للمطالبة بإعادة فتحها من جديد لتواصل عملها في التبليغ ونشر الفكر الإسلامي الأصيل.
ـ المشاركة في إلقاء المحاضرات الدينية والاستفادة من المنبر الحسيني ومشاركته في إلقاء المحاضرات عبر الإذاعة وذلك لنشر الثقافة الإسلامية وإيصال صوت الدعوة إلى الله عبر كل القنوات المتاحة، وكان(ره) يدعم مؤسسات التعليم الديني في بعض قرى البحرين.
هذا هو الشيخ الراحل الجمري رجل عطاءٍ وبذلٍ، ورجل إخلاصٍ وجهادٍ، رجل إيمانٍ وتقوى، رجل كلمةٍ وموقفٍ. أفنى كل حياته في خدمة الدين والمذهب والدفاع عن الناس، ولم يتوقف لحظةً واحدةً عن خدمة دينه ووطنه، إلا أن المرض حال دون مواصلته الطريق ودون أن يلبي أمنيته، وجاء قضاء الله المحتوم ليطوي صفحةً من كتاب العطاء والجهاد والإيمان والرسالية، كتاب رجل حفر اسمه في قلوب عشاقه ومحبيه، وفي قلوب السائرين على دربه
بقلم: السيد مرتضى السيد مجيد السندي
في أول زيارة لنا للشيخ الجمري(ره) بعد مرضه عندما كان يرقد في مستشفى مدينة الأمير سلطان بن عبد العزيز للخدمات الإنسانية في الرياض، كنا كلنا اشتياق لذلك الرجل التاريخي بكل معنى الكلمة،كنا في الطريق إليه نتذكره وهو يطل علينا من تلك الشرفة ويحيي الجماهير الغفيرة التي جاءت لتعلن وقوفها معه هو وأصحاب المبادرة آنذاك، وبعد خمس ساعات قضيناها في الطريق إليه وصلنا إلى المستشفى الذي يرقد فيه الشيخ الجمري. استقبلنا الحارس بقوله: إلى الشيخ الجمري طبعاً؟ أجبناه بنعم. فقال: في المكان الفلاني. ووصف لنا المكان الذي يرقد فيه الشيخ، فذهبنا مسرعين نتسابق لرؤية الأب الحنون الذي فارقنا وترك فراغاً كبيراً في الساحة، ولكن عندما وصلنا إلى باب الغرفة التي يرقد فيها الشيخ لم يجرؤ أحدٌ منا على طرق الباب وبدأ كلٌّ منا يطلب من الآخر أن يتقدم هو لذلك، وبينما نحن كذلك خرج صادق ـ ابن الشيخ الجمري ـ وقال لنا: تفضلوا. فدخلنا بخطى حياءٍ وخجلٍ ممتزجٍ بشوقٍ لا يسعه هذا الكون.
دخلنا وكنا نظن أن الشيخ الجمري موجودٌ في الغرفة، ولكن تبين لنا أنه لم يكن هناك وإنما كان في غرفة العلاج الطبيعي، فانتظرناه إلى أن يأتي من غرفة العلاج. وبعد ما يقارب الثلث ساعة تقريباً من الانتظار فتح الباب، وإذا بكرسي متحرك يدخل من الباب، لم نكن نتوقع من الجالس على هذا الكرسي ولم نكن نعرف حالة الشيخ الصحية قبل أن نذهب إليه؛ لذلك سبب لنا هذا الجالس على الكرسي صدمةً كبيرةً مما دفع بعضنا إلى أن يجهش بالبكاء بينما البعض الآخر يبكي بدون صوت محاولةً منه لتخفيف الألم والمعاناة عن الشيخ وأهله.
حينها تقدم ابنه صادق بالكرسي الذي كان يدفعه وتوقف أمامنا. كلٌّ منا كان يريد أن يتكلم, يريد أن يعبر عن مشاعره، ولكن العَبرة والدموع كانت تخنقنا فلم نستطع الكلام، وبعد لحظاتٍ كسر أحد أصحابي هذا الصمت وقال ـ وهو يبكي بصوتٍ مرتفع نسبياً ـ : يا شيخ متى تعود لنا؟ نحن في أمَسِّ الحاجة إليك. متى تعود للبحرين؟ لأبنائك؟ لشعبك؟ ولم يستطع صاحبي أن يكمل حديثه وواصل بكاءه. وفي هذه اللحظات حصل ما لم نكن نتوقع حصوله، حيث إن الشيخ الجمري آنذاك كان نحيفاً جداً ووجنتاه قد ذهبتا وعيناه تبدو وكأنها غائرةٌ، ظننا أنه لا يستطيع الكلام وإذا به يفاجئنا بقوله: أريد أن أعود للبحرين لكي أدافع عن المظلومين ولكي أساهم في إخراج المعتقلين من السجون وإلى لم الشمل والوفاق الوطني ولكي أواصل مسيرة العمل الإسلامي. إلى هنا انتهى كلام الشيخ الذي هو الآخر أجهش بالبكاء.
بالنسبة لي أستطيع أن أعتبر أن هذه الكلمات التي أطلقها الشيخ الأب الجمري وهو في حالته هذه بالوصية التي يوصي بها كل محبيه وكل الذين يدعون أنهم يسيرون على نهجه وعلى خطاه. وعندما نقرأ أو نسمع ما قاله الشيخ يمكننا أن نتذكر مواقفه المؤيدة والداعمة لما قال. وإذا أردنا أن نلخص وصية الشيخ الجمري أو أمنيته فنستطيع أن نجعلها في خمس نقاط، وأظن أن هناك أمور لم يستطع الشيخ الجمري البوح بها بسبب بكائه.
النقاط هي كالآتي:
1- الدفاع عن المظلومين.
2- المساهمة في إخراج المعتقلين من السجون.
3- لمّ الشمل.
4- الوفاق الوطني.
5- مواصلة مسيرة العمل الإسلامي.
إن الشيخ الجمري رجل كلمةٍ وموقفٍ، فهو عندما نطق بهذه الأمور لم ينطقها اعتباطاً، بل لأنه كان يعيشها همّاً في حياته العملية؛ لذلك خرجت منه هذه الكلمات، وتدعيماً لما أقول فإني أذكر بعض المواقف للشيخ الجمري والتي تجسد ما قاله في وصيته.
1-الدفاع عن المظلومين:
لقدكان دفاعه(ره) عن المظلومين قديماً جداً، ولم يكن في فترة التسعينيات فحسب فقد كان منذ صغره وهو يهتم بالقضايا السياسية التي تمس بشكل مباشر قضايا المظلومين والمستضعفين([1])، واستمر هذا الاهتمام حتى دعاه أبناء منطقته في عام (1973م) إلى أن يعود ليرشح نفسه في الانتخابات النيابية وذلك لمواصلة هذا الطريق الذي اختاره لنفسه، فقد كان كل همِّه أن يخدم الناس وكان آخر شيء يفكر فيه هو نفسه.([2]) وقد تجلى ذلك بوضوح في فترة التسعينات و الانتفاضة المباركة، فقد ضحى(ره) بكل ما لديه، فقد اعتقل ابنه الأكبر وقاموا بمساومته بأن اترك الناس وقضاياهم ونفرج عن ابنك وزوج ابنتك ولكنه كان يرفض ذلك،وكان السبب الرئيسي في فصله من القضاء هو اهتمامه بقضايا الناس وطرح مظلوميتهم، وقد تم اعتقاله في بداية الانتفاضة وتم تقديم الإغراءات المالية له لكي يتخلى عن الناس، وحوصر واعتقل ثم حوصر مرة ثانية واعتقل واعتقلت ابنته وزوجة ابنه، وتمَّ تهجير أبنائه وسحب البعثات الدراسية عنهم والمضايقة له ولعائلته ولكل من له صلة به لكي يتخلى عن المظلومين من الناس، ولكنه رفض ذلك، بل لم يقتصر دفاعه عن المظلومين من أبناء البحرين فحسب، بل كان يدافع عن كل المظلومين في العالم، فقد كان اهتمامه كبيراً بقضية فلسطين التي كان يسميها بالقضية الأم([3])، وكان يدافع عن شعب لبنان وشعب العراق وكل شعوب العالم المستضعفة.
2- المساهمة في إخراج المعتقلين من السجون:
لا يخفى على أحد دور الشيخ الجمري في إخراج المعتقلين من السجون، فهو من اليوم الأول الذي حصلت فيه الاعتقالات كان دائماً في مقدمة المطالبين بالإفراج عن المعتقلين بدءاً من اعتقال الشيخ علي سلمان وانتهاءً إلى بقية المعتقلين. يذكر الأستاذ عبد الوهاب في مقالته (تجربتي مع الجمري): (وقد قررنا استناداً إلى الاستراتيجية أن نشكل مجموعةً لزيارة وزارة الداخلية والاحتجاج على الاعتقال، وكان ذهابنا في يوم الأحد الذي يصادف اجتماع مجلس الوزراء، وكانت المجموعة بقيادة الشيخ الجمري وكانت تتألف من ثمانية أشخاص ضمت فضيلة الأستاذ حسن مشيمع وفضيلة الشيخ حسن سلطان وعبد الوهاب حسين وآخرين من ضمنهم مشايخ اقترحهم سماحة الشيخ الجمري(ره)... وبعد الإجراءات المعتادة عند بوابة القلعة سمح لنا بالدخول وأخِذنا إلى مكتب سعادة وزير الداخلية وقابلنا هناك الضباط في المكتب وأخبرناهم بالغاية من حضورنا إلى الوزارة، وأخبرونا بأن سعادة الوزير في اجتماع مجلس الوزراء، وطلبنا منهم الاتصال به وإخباره بحضورنا والغاية التي جئنا من أجلها وأننا نرفض الخروج قبل الإفراج عن فضيلة الشيخ علي سلمان، وحدثت مشادات كلامية أعتقد أنها هي الأولى من نوعها في ذلك المكتب, ثم طُلِبَ منا الذهاب إلى مركز الخميس وسوف نحصل هناك على الجواب من المسؤولين فيه, وأصر بعض أفراد المجموعة على عدم الخروج قبل الحصول على جواب محدد بشأن الإفراج عن فضيلة الشيخ علي سلمان... فسألوا الأفرادَ الأكثرَ إصراراً عن أسمائهم ومكان سكناهم ومكان عملهم وكانت تأتيهم الإجابات بتلقائية وبدون تردد، إلا أن بعض المشايخ ـ خاصةً الذين كانوا من خارج الفريق ـ لم يكن لهم نفس العزم, وكانوا يرون الاستجابة والذهاب إلى مركز الخميس, فقبلنا الخروج وقبل أن نصل إلى مركز الخميس وصلنا الخبر السعيد بأن فضيلة الشيخ علي سلمان قد أفرج عنه).
وتنقل حادثةٌ أخرى حصلت في فترة التسعينات، وهي أن الشيخ الجمري كانت له مشاركة في منطقة النعيم فهجمت قوات الشغب على المأتم الذي يشارك فيه الشيخ الجمري وأطلقت غازات مسيل الدموع مما سبب الاختناق للحاضرين، فنقل بعض الشباب الشيخ الجمري لأحد المنازل القريبة من المأتم وحدثت اشتباكات بين الناس وقوات الشغب وتم اعتقال عدد من الشباب، وعندما أراد الشباب إخراج الشيخ الجمري من المنطقة رفض الشيخ ذلك وأجرى اتصالات مع المسؤولين في الدولة وقال لهم: لا أخرج من النعيم إلا بعد الإفراج عن المعتقلين. وفعلاً بعد عدة اتصالات تم الإفراج عن المعتقلين وخرج الشيخ الجمري بعدها من منطقة النعيم.
ولقد كان من أهم مطالبه في فترة المبادرة هو الإفراج عن المعتقلين، وكان هذا مطلبه أيضاً عندما بدأت السلطة بالحوار معه بشأن موضوع التصويت على الميثاق.
3- لم الشمل:
لقد كان يؤرق الشيخ الجمري الاختلافات والفرقة بين الناس، لذلك كانت حركته في اتجاه الإصلاح بين المختلفين على جميع الأصعدة بدءاً من الخلافات الزوجية مروراً بالخلافات في القرى على إدارات المآتم والحسينيات وما شابه، ودوره في حل الخلافات في قريتي السنابس والهملة وغيرهما لا ينساه أهالي تلك المناطق، بل لا ينساه كل أبناء الشعب. ورغم اختلافه الكبير مع الشيخ سليمان المدني حول عدالة القضية وضرورة المطالب إلا أن الشيخ الجمري كان سباقاً إلى أن يلمَّ الشمل بعد خصام وتشنجات حصلت بين الطرفين، وذلك بدعوته للشيخ سليمان لزيارة منزله ثم رد إليه الزيارة في منزله لاحقاً، حصل ذلك رغم الانتقادات اللاذعة التي حصل عليها الشيخ الجمري من قِبَل بعض الأطراف التي كانت رافضةً لمثل هذا التقارب، ولكن الشيخ الجمري لم يعتن بهذه الانتقادات وكانت نظرته دائماً للمستقبل، حيث لو أن الشيخين رحلا عن الدنيا ولم يحصل هذا اللقاء لاستمر ذلك الخلاف بين أتباع الشيخين إلى ما لا يعلم نهايته إلا الله.
4- الوفاق الوطني:
لقد كانت مسألة الوفاق الوطني من الأمور المهمة والحساسة بالنسبة إلى الشيخ(ره)؛ لذلك تجد أكثر المشاريع التي يشارك فيها يكون الحس الوطني واضحاً فيها، فعندما كانت العريضة النخبوية في عام(1992م) تلاحظ أن هناك مشاركةً من قِبَل جميع الأطراف في البحرين، بل حتى الذين لم يشاركوا في العريضة تمَّ عرضها عليهم وتمَّ شرحها وشرح مطالبها إليهم، ولكن البعض قد اعتذر عن المشاركة في هذه العريضة لأسباب خاصة بهم، ولكن مع ذلك تلاحظ أن هذه العريضة قد جمعت الكثير من الأطياف في مشروع واحد.
جاءت من بعد العريضة النخبوية بعامين العريضة الشعبية، والتي حملت ـ هي الأخرى ـ نفس المطالب ونفذت إلى أكثر الأطياف في البحرين، وكانت تسعى لمشاركة جميع الأطياف كمشروع وطني جامع.
إن قبول فكرة المبادرة وإعطاء فرصة للحوار مع الحكومة التي لم تتوانَ في سفك الدماء وهتك الأعراض لهو دليلٌ كبيرٌ على أن أصحاب المبادرة ـ ومن بينهم الشيخ الجمري(ره) ـ كان همهم أن يكون هناك وفاق وطني بين الجميع حكومةً وشعباً بكل أطيافه وفئاته.
إن زيارة الشيخ الجمري التاريخية لجمعية الإصلاح لهي خطوةٌ واضحةٌ وجريئةٌ إلى لمِّ الشمل ورصّ الصف الوطني، ولكي يبعث الطمأنينة للإخوة السنة في البلد بعد فترة من التضليل الإعلامي الذي مارسته السلطة آنذاك وادعاءاتها الكاذبة بأن الانتفاضة هي شيعيةٌ فقط، وهي مدعومةٌ من الخارج، وأن مطلب القائمين عليها هو الحكم وغيرها من الأضاليل. فكانت هذه الزيارة رسالة حب وإخاء، وهي التي بذرت بذرةً جميلةً كان بإمكاننا أن نجنيَ ثمارها يانعةً لو أننا واصلنا الطريق مع الإخوة المعتدلين من الإخوة السنة.
وإن إسهامات الشيخ(ره) كثيرةٌ في مسألة رصّ الصف الوطني والسعي للتقارب بين الإخوة في الوطن، ولو أردنا إحصاءها لاحتجنا إلى الكثير من الوقت والجهد.
5- مواصلة مسيرة العمل الإسلامي:
إذا أردنا أن نتحدث عن مسيرة الشيخ(ره) في العمل الإسلامي فإننا نحتاج لكتب نعددها، ولكن نحن هنا نعطي إضاءاتٍ وإطلالاتٍ سريعةً على بعض مساهماته في العمل الإسلامي.
ـ إن من الأمور المهمة التي قام بها الشيخ هو تأسيسه لحوزة الإمام زين العابدين(ع) المعروفة بـ (حوزة الجمري)، فلا يخفى على أحدٍ ما تقدمه الحوزة من عطاء من خلال بناء طلبة العلوم الدينية بالفكر الإسلامي الأصيل من خلال إيجاد مدرسين كفوئين.
ـ مساهمة الشيخ في تأسيس جمعية التوعية الإسلامية، ومن ثم العمل فيها بجد ونشاط وتوليه منصب نائب للرئيس لمدة ما يقارب الست سنوات، وبعد إغلاق الجمعية من قبل السلطات كان ينتهز أي فرصة للمطالبة بإعادة فتحها من جديد لتواصل عملها في التبليغ ونشر الفكر الإسلامي الأصيل.
ـ المشاركة في إلقاء المحاضرات الدينية والاستفادة من المنبر الحسيني ومشاركته في إلقاء المحاضرات عبر الإذاعة وذلك لنشر الثقافة الإسلامية وإيصال صوت الدعوة إلى الله عبر كل القنوات المتاحة، وكان(ره) يدعم مؤسسات التعليم الديني في بعض قرى البحرين.
هذا هو الشيخ الراحل الجمري رجل عطاءٍ وبذلٍ، ورجل إخلاصٍ وجهادٍ، رجل إيمانٍ وتقوى، رجل كلمةٍ وموقفٍ. أفنى كل حياته في خدمة الدين والمذهب والدفاع عن الناس، ولم يتوقف لحظةً واحدةً عن خدمة دينه ووطنه، إلا أن المرض حال دون مواصلته الطريق ودون أن يلبي أمنيته، وجاء قضاء الله المحتوم ليطوي صفحةً من كتاب العطاء والجهاد والإيمان والرسالية، كتاب رجل حفر اسمه في قلوب عشاقه ومحبيه، وفي قلوب السائرين على دربه
منقول
القومية و الوطنية و الروح الإسلامية
الشيخ الجمري قيم إنسانية سامية ومواقف خالدة
عبدالله علاوي ـ محمد سديف
فبعض فصول حياته “أطال الله في عمره” والتي رواها لنا
ابنه “صادق” أكثر أبنائه قرباً له بحكم الظروف المحيطة بهم، كشفت بعض الجوانب الخفية من شخصية الشيخ الجمري حين التقت به “الشاهد” لتسلط الضوء عليها في محاولةٍ للشهادة على مواقف رجل أضحى بقيمه أبا للشعب .
من يكون الشيخ الجمري ؟
يدعى عبدالأمير بن منصور بن محمد بن عبد الرسول الجمري، نسباً لقريته بني جمرة إحدى قرى البحرين الأصيلة، من عائلة كريمةٍ عرفت بالتقوى والإيمان، فوالده الحاج منصور كان معلماً للقرآن الكريم في القرية وجده تاجراً للأقمشة بالعاصمة المنامة، كما تربطه القرابة مع مجدد المنبر الحسيني الملا عطية الجمري، ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي وتحديداً في عام 1937 للميلاد،
درس في مدرسة البديع الابتدائية للبنين ثم درس على يد الملا جاسم بن نجم الجمري، وعمل خطيباً حسينياً مع الملا عبد الله البلادي قبل أن يستقل بخطابته في السابعة عشرة من عمره. كما تتلمذ علي يد كلٍ من الشيخ عبد الله بن محمد صالح، الشيخ باقر العصفور والسيد علوي الغريفي، قبل أن يشد الرحال ليبدأ رحلته في التحصيل العلمي والفقهي في النجف الأشرف عام 1962، فقد عكف على دراسة المقدمات والسطوح والبحث الخارج، في حين ربطته علاقات قوية من المراجع العظام في الحوزة الحيدرية آنذاك .
لمحة عن حياته ومواقفه ..
الرأفة والرحمة والعفو واحترام الغير ولو كان ظالماً له، خصالٌ قليلة من خصاله التي تميزه عن أقرانه في الساحة، فصبره وحلمه الذي لم يبخل به على أحد حتى خصومه، جعلت الجميع ينحني إكباراً، فمواقفه البطولية على مر حياته وروح الوطنية التي ميزته منذ أن كان قومياً في الستينات ومشاركاته في المسيرات المناهضة للوجود البريطالي والمؤيدة للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يعشقه في تلك الحقبة، مروراً بمواقفه في النجف الأشرف إزاء المشهد العراقي آنذاك، إلى أن انتخب عضواً في المجلس الوطني نزولاً عند رغبة الأهالي وبمباركة المراجع بالنجف، وكذلك حين ُعيّن قاضياً بالمحكمة الجعفرية كان ذلك بعد إصرار المراجع عليه لقبول هذه المهمة لخدمة المجتمع والناس، ولا يمكن لأيِ كان تناسى مواقفه في أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، فكل هذه وتلك تشهد على انه رجلٌ قلما نجد نظيراً له.
مواقف خالدة
ويذكر "صادق" أن والده رجل أسرة من الطراز الرفيع، فيما يعتبر أن العلم هو أساس التقدم والرقي الإنساني لذا يذكر لنا "صادق" أنه في عام 1982 كان معتقلاً الأمر الذي منعه من الحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك إثناء تخرجه من المرحلة الثانوية، وبعدم حصوله على هذه الشهادة منع من مواصلة التحصيل العلمي بالجامعات الموجودة بالمملكة آنذاك، ليصر عليه والده الشيخ الجمري على إكمال تعليمه وليرسله للدراسة خارج البلاد رغم الظروف المادية التي كانت العائلة تمر بها.. ولهذا الموقف وغيره ثمارٌ كثيرة جناها أبناء سماحته العشرة، فقد كان مردود هذه التربية السليمة إيجابياً حتى أضحى جميع أبنائه جامعين ومثقفين ومشاركين فاعلين في نهضة الوطن وتنميته .
يستأنف " صادق " كلامه مؤكداً كذلك على أن الشعبية الواسعة التي تمتع بها الشيخ الجمري جاءت من خلال تواصله وارتباطه الكبيرين بالمجتمع على اختلاف طبقاته ومشاربه وأنها ليست نابعة من مواقفه السياسية فقط .
ويسترسل حديثه بالانتقال لإحدى المواقف التي عايشها وتجلت بها بعض قيم والده الأصيلة، ففي أشد أوقات الأزمة التي مرت بها البلاد في التسعينات لم يترك شيخنا الجليل واجبه اتجاه أبناء بلده وإخوانه، فموقفه حيال دفن الشهيد "عبد الحميد" من قرية الدراز والذي كانت جثته في المقبرة ولم يجرأ أي من الرجال التوجه لتشييعه وحين أصر الشيخ على ابنه بأخذه للمقبرة للقيام بالواجب لبى له ذلك الطلب وأخذه هناك وفور وصوله أخذ الشيخ في التكبير وحشد الناس وحثهم على القيام بالواجب الذي يمليه عليهم دينهم ووطنيتهم، فتجمع الناس وخرج المئات مع الشيخ، ليجسد بهذا المشهد الإنساني أسمى درجات الوفاء والتضحية والإخلاص لشعبه وأمته .
وينتقل بنا "صادق" بعد ذلك لمشهدٍ آخر عايشه بكل تفاصيله الدقيقة والمؤلمة، فأثناء الثمانينات من القرن الماضي وكما يعلم الجميع أن الشيخ الجمري كان يعمل قاضياً في المحكمة الجعفرية، في حين كان الوضع الداخلي متوتراً .. بينما كان المتظاهرون دائماً ما يوصمونه بالعمالة والتهاون واللهث وراء المصلحة الشخصية الأمر الذي كان يدعو الشيخ للبكاء على حال هؤلاء ... لأنه وللأسف لم يفقهوا حقيقة الأمر وقدر هذا الرجل المعطاء الذي لم ينظر يوماً لشخصه بل طالما كان بصره وبصيرته مكرسةً لخدمة غيره، مكرراً كما أسلفنا سابقاً أن عمل الشيخ عبد الأمير في القضاء كان بطلبٍ وإصرار من قبل المراجع العظام في النجف الأشرف، وهذا ما جهل الكثرون حتى وقعوا في الخطأ فوصموه بالخيانة ! ..
ويستذكر "صادق" الماضي ليكشف لنا عن موقفٍ آخر كان بينهما، فالجدير بالذكر أنه كان ولا يزال يعمل في إدارة أموال القاصرين، وطالما جاءته عروض عملٍ أفضل بمردود مالي أكبر خصوصاً وأنه يحمل شهادة بكالوريوس في إدارة الأعمال من لندن، ولكن كلما أراد ترك عمله يأمره الشيخ بعدم تركه ويدعوه لمواصلة طريقه في خدمة القاصرين ومراعاة أمواله خوفاً منه أي أن يأتي غير الأمين مكانه ولا يكون أهلاً للثقة والأمانة .
ولابد لنا أن نقف وقفة وفاءٍ لرجل الوفاء ولا ننسى أبدا أن الشيخ الجمري هو رجل مبادرات السلام والتلاحم الوطني الأول، فبعد عصر الانفتاح والميثاق وحرية الرأي والتعبير والمشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك كانت له مواقف ودعوات كثيرة من زيارته لجمعية الإصلاح ومجالس الوجهاء من الطائفتين كل هذه وغيرها تشهد على أن هذا الرجل ابن أوال الوفي في زمنٍ غاب فيه الوفاء .
المصدر:
الشيخ الجمري قيم إنسانية سامية ومواقف خالدة
عبدالله علاوي ـ محمد سديف
فبعض فصول حياته “أطال الله في عمره” والتي رواها لنا
ابنه “صادق” أكثر أبنائه قرباً له بحكم الظروف المحيطة بهم، كشفت بعض الجوانب الخفية من شخصية الشيخ الجمري حين التقت به “الشاهد” لتسلط الضوء عليها في محاولةٍ للشهادة على مواقف رجل أضحى بقيمه أبا للشعب .
من يكون الشيخ الجمري ؟
يدعى عبدالأمير بن منصور بن محمد بن عبد الرسول الجمري، نسباً لقريته بني جمرة إحدى قرى البحرين الأصيلة، من عائلة كريمةٍ عرفت بالتقوى والإيمان، فوالده الحاج منصور كان معلماً للقرآن الكريم في القرية وجده تاجراً للأقمشة بالعاصمة المنامة، كما تربطه القرابة مع مجدد المنبر الحسيني الملا عطية الجمري، ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي وتحديداً في عام 1937 للميلاد،
درس في مدرسة البديع الابتدائية للبنين ثم درس على يد الملا جاسم بن نجم الجمري، وعمل خطيباً حسينياً مع الملا عبد الله البلادي قبل أن يستقل بخطابته في السابعة عشرة من عمره. كما تتلمذ علي يد كلٍ من الشيخ عبد الله بن محمد صالح، الشيخ باقر العصفور والسيد علوي الغريفي، قبل أن يشد الرحال ليبدأ رحلته في التحصيل العلمي والفقهي في النجف الأشرف عام 1962، فقد عكف على دراسة المقدمات والسطوح والبحث الخارج، في حين ربطته علاقات قوية من المراجع العظام في الحوزة الحيدرية آنذاك .
لمحة عن حياته ومواقفه ..
الرأفة والرحمة والعفو واحترام الغير ولو كان ظالماً له، خصالٌ قليلة من خصاله التي تميزه عن أقرانه في الساحة، فصبره وحلمه الذي لم يبخل به على أحد حتى خصومه، جعلت الجميع ينحني إكباراً، فمواقفه البطولية على مر حياته وروح الوطنية التي ميزته منذ أن كان قومياً في الستينات ومشاركاته في المسيرات المناهضة للوجود البريطالي والمؤيدة للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يعشقه في تلك الحقبة، مروراً بمواقفه في النجف الأشرف إزاء المشهد العراقي آنذاك، إلى أن انتخب عضواً في المجلس الوطني نزولاً عند رغبة الأهالي وبمباركة المراجع بالنجف، وكذلك حين ُعيّن قاضياً بالمحكمة الجعفرية كان ذلك بعد إصرار المراجع عليه لقبول هذه المهمة لخدمة المجتمع والناس، ولا يمكن لأيِ كان تناسى مواقفه في أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، فكل هذه وتلك تشهد على انه رجلٌ قلما نجد نظيراً له.
مواقف خالدة
ويذكر "صادق" أن والده رجل أسرة من الطراز الرفيع، فيما يعتبر أن العلم هو أساس التقدم والرقي الإنساني لذا يذكر لنا "صادق" أنه في عام 1982 كان معتقلاً الأمر الذي منعه من الحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك إثناء تخرجه من المرحلة الثانوية، وبعدم حصوله على هذه الشهادة منع من مواصلة التحصيل العلمي بالجامعات الموجودة بالمملكة آنذاك، ليصر عليه والده الشيخ الجمري على إكمال تعليمه وليرسله للدراسة خارج البلاد رغم الظروف المادية التي كانت العائلة تمر بها.. ولهذا الموقف وغيره ثمارٌ كثيرة جناها أبناء سماحته العشرة، فقد كان مردود هذه التربية السليمة إيجابياً حتى أضحى جميع أبنائه جامعين ومثقفين ومشاركين فاعلين في نهضة الوطن وتنميته .
يستأنف " صادق " كلامه مؤكداً كذلك على أن الشعبية الواسعة التي تمتع بها الشيخ الجمري جاءت من خلال تواصله وارتباطه الكبيرين بالمجتمع على اختلاف طبقاته ومشاربه وأنها ليست نابعة من مواقفه السياسية فقط .
ويسترسل حديثه بالانتقال لإحدى المواقف التي عايشها وتجلت بها بعض قيم والده الأصيلة، ففي أشد أوقات الأزمة التي مرت بها البلاد في التسعينات لم يترك شيخنا الجليل واجبه اتجاه أبناء بلده وإخوانه، فموقفه حيال دفن الشهيد "عبد الحميد" من قرية الدراز والذي كانت جثته في المقبرة ولم يجرأ أي من الرجال التوجه لتشييعه وحين أصر الشيخ على ابنه بأخذه للمقبرة للقيام بالواجب لبى له ذلك الطلب وأخذه هناك وفور وصوله أخذ الشيخ في التكبير وحشد الناس وحثهم على القيام بالواجب الذي يمليه عليهم دينهم ووطنيتهم، فتجمع الناس وخرج المئات مع الشيخ، ليجسد بهذا المشهد الإنساني أسمى درجات الوفاء والتضحية والإخلاص لشعبه وأمته .
وينتقل بنا "صادق" بعد ذلك لمشهدٍ آخر عايشه بكل تفاصيله الدقيقة والمؤلمة، فأثناء الثمانينات من القرن الماضي وكما يعلم الجميع أن الشيخ الجمري كان يعمل قاضياً في المحكمة الجعفرية، في حين كان الوضع الداخلي متوتراً .. بينما كان المتظاهرون دائماً ما يوصمونه بالعمالة والتهاون واللهث وراء المصلحة الشخصية الأمر الذي كان يدعو الشيخ للبكاء على حال هؤلاء ... لأنه وللأسف لم يفقهوا حقيقة الأمر وقدر هذا الرجل المعطاء الذي لم ينظر يوماً لشخصه بل طالما كان بصره وبصيرته مكرسةً لخدمة غيره، مكرراً كما أسلفنا سابقاً أن عمل الشيخ عبد الأمير في القضاء كان بطلبٍ وإصرار من قبل المراجع العظام في النجف الأشرف، وهذا ما جهل الكثرون حتى وقعوا في الخطأ فوصموه بالخيانة ! ..
ويستذكر "صادق" الماضي ليكشف لنا عن موقفٍ آخر كان بينهما، فالجدير بالذكر أنه كان ولا يزال يعمل في إدارة أموال القاصرين، وطالما جاءته عروض عملٍ أفضل بمردود مالي أكبر خصوصاً وأنه يحمل شهادة بكالوريوس في إدارة الأعمال من لندن، ولكن كلما أراد ترك عمله يأمره الشيخ بعدم تركه ويدعوه لمواصلة طريقه في خدمة القاصرين ومراعاة أمواله خوفاً منه أي أن يأتي غير الأمين مكانه ولا يكون أهلاً للثقة والأمانة .
ولابد لنا أن نقف وقفة وفاءٍ لرجل الوفاء ولا ننسى أبدا أن الشيخ الجمري هو رجل مبادرات السلام والتلاحم الوطني الأول، فبعد عصر الانفتاح والميثاق وحرية الرأي والتعبير والمشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك كانت له مواقف ودعوات كثيرة من زيارته لجمعية الإصلاح ومجالس الوجهاء من الطائفتين كل هذه وغيرها تشهد على أن هذا الرجل ابن أوال الوفي في زمنٍ غاب فيه الوفاء .
المصدر:
منقول
نجل الشيخ: والدي كان دائماً يراهن على الناس
محمد حسين الجمري يروي يوميات عائلة تحت الحصار!
الوسط - حيدر محمد
«منظر حصار الوالد لم يكن طبيعياً، تحولت بني جمرة إلى معسكر حقيقي ودائم، وربما لأن المحاصر كان شخصاً استثنائياً، لذلك فإن الحصار لم يقتصر عليه، وإنما شمل الناس... كل أهالي القرية يدخلون ويخرجون من مدخل واحد، وكانوا يعانون عند نقاط التفتيش»... هذا ما يرويه محمد حسين الجمري (نجل المرحوم الشيخ الجمري) عن ذكريات عائلة تحت الحصار.
تعرض المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري لثلاثة حصارات منزلية، هي الأولى من نوعها في تاريخ البحرين، وكانت عائلة الشيخ تعاني الأمرين من الحصارات المنزلية، وكان الشيخ الجمري يعتمد على ابنه محمد حسين كحلقة وصل أثناء الحصار الثالث الذي استمر من يوليو/ تموز 1999 إلى فبرير/ شباط 2001، وللتعرف على جانب من تلك الأجواء الفريدة من نوعها، كان لـ «الوسط» اللقاء التالي مع محمد حسين عبدالأمير الجمري:
* ما هي أكثر المحطات العصية على النسيان من ذاكرة الحصار الذي فرض على الشيخ الوالد؟
- إن أكثر فترة أتذكرها من الشيخ هي فترة الحصار الثالث التي بدأت في 1999 (اذ كان الحصار الأول بين 1 الى 14 ابريل/ نيسان 1995، والحصار الثاني في يناير/ كانون الثاني 1996)، وكنت أكثر قرباً منه من أية فترة أخرى، لأنني كنت أسكن في البيت المقابل لمنزله، وكان الإجراء الذي يطبق عليه يشملني أيضاً، وسبب آخر جعلني قريباً منه أنه لم يكن مسموحاً له أن يخرج خارج المنزل إلا بإذن خاص من المخابرات، وكنت تحت ضغط لما كان يتضمن الأمر من تعقيدات شديدة، وقد ازداد الضغط في شهر يوليو/ تموز من العام 1999 بعد عملية الإفراج عن الشيخ وما صاحبها من ظروف وملابسات.
وأول يوم خرج الشيخ من السجن لم يكن هناك حصار على منزله، بل كان التلفزيون يعرض مرات عدة مشاهد الإفراج، ومع ذلك كانت الآلاف من الناس تنتظر قدوم الشيخ، بسبب تسرب الخبر، وعندما أفرجوا عنه نادوا أخي صادق لاصطحابه إلى البيت. ولم يكن الوالد يدري انه سيفرج عنه إلا في الساعة الثالثة ظهرا، وأصر أن يأتوا له بحلاق.
وكان الوضع طبيعياً في اليوم الأول، ففي ذلك اليوم كانت هناك شرطة ولكنها لم تكن تتدخل، ويبدو أنه لم يكن لديهم أوامر بالتدخل، وعلى رغم ما بث من لقطات في التلفزيون (في أخبار الساعة الثالثة عصراً) كانت الناس تندفع وكان الشرطة موجودين ولكن لم يمنعوا أحداً، وكان بعض الأقارب يسمح لهم بالدخول في اليوم الأول فقط.
أما في صبيحة اليوم الثاني كان هناك هدوء غريب، وحينما استيقظت توقعت أن اندفاع الحشود سيكون كما كان في اليوم الأول، ولكنني استيقظت على هدوء تام، ونزلت البيت، وكنت ساكناً في الطابق الثاني... نزلت فسألت الوالدة، وكان الوالد جالسا على الإفطار في الساعة السابعة صباحاً، والشيخ رد علي: «الظاهر انك استقيقطت متأخرا»، وقال لي: «روح الشغل».
لم أكن أعلم ماذا جرى بالضبط، ولكن فتحت الباب وتفاجأت بقوات مكافحة الشغب، وكانت الشرطة تحيط بالقرية من كل الجهات، ورجعت للوالد واخبرني انه في إقامة جبرية، وقال: «لست مستغرباً مما حدث»، وهو توقع الإقامة الجبرية، لأنه مر بها مرتين سابقاً.
وعندما خرجت وجدت مداخل القرية كلها مغلقة عدا المدخل الرئيسي القديم بمحاذاة المقبرة، وتصور أن كل قاطني قرية بني جمرة يدخلون من باب واحد، بل يجب أن يمروا على منزلنا أيضاً والنقاط الأمنية كانت منتشرة بكثافة، وهذا الحال استمر لمدة أشهر، وكل الناس تدخل من مدخل واحد فقط وتخرج من المدخل ذاته، وهذا القرار لم يستثنِ أحدا بما فيهم الأجانب، وسبب هذا القرار ازدحامات كبيرة عند مدخل بني جمرة، وكل شخص مجبور على كشف هويته من خلال اطلاعهم على بطاقته السكانية، وإذا لم يكن من المنطقة يوجه له السؤال مباشرة «أنت ذاهب إلى الشيخ؟».
في البداية الحصار لم يكن شديداً، وكانوا يختارون بعض الشخصيات البعيدة عن الجانب السياسي وبعض الأقارب ويمنحونهم وقتا محدداً لزيارة الشيخ، وكانت الناس تندفع وحدثت بعض المشادات بسبب الانتقائية في الاختيار.
بعد شهر واحد تحول الحصار إلى المنطقة الشرقية من بني جمرة حيث سكن الوالد، وهذا الحصار يختلف عن كل الحصارات السابقة، لأنهم في تلك الحصارات كانوا يمنعون كل صغيرة وكبيرة ويحظرون أي نوع من الحياة في المنطقة، ففي الحصار الأول في العام 1995 لم يسمح لنا بوجود أية وسيلة اتصال يستخدمها الشيخ، واخذوا التلفزيونات والراديو وحتى الهاتف.
كان الشيخ منقطعاً عن العالم وممنوعاً عليه حتى الخروج من باب منزله، والحصار الثاني كان في يناير/ كانون الثاني 1996 وكان مشابهاً للحصار الأول وكان حصاراً محكماً تمهيداً للاعتقال الثاني الذي استمر لأربع سنوات ونصف، والحصار الثالث تميز بالتشديد على الداخل والخارج لكن الحياة في المنطقة لم تتوقف كما كان في الحصارين السابقين، وفي المرة الثالثة سمحوا للوالد ببعض الزيارات ولكن بإذن خاص ومواكبة أمنية.
* ومن كان حلقة الوصل مع هذه القوات؟
- كنت حلقة الوصل بالنسبة الى من هم داخل الحصار، كما كان لأخي صادق دور في الاتصال بجوانب اخرى، اما أنا فكنت حلقة الوصل بين المنزل المحاصر وخارجه. حينها تحدثت مع الشخص المسئول عن حصار المنزل لتخفيف التضييق على الوالد والعائلة، لأنهم كانوا يريدون معرفة التفاصيل في كل حركة قبل السماح لنا بأي شيء، والوالد كان يرفض أخذ الإذن وكان يطلب فقط الإخطار «خبّرهم فقط»، ولكنني كنت مضطراً للقيام بأخذ الإذن لأنهم فرضوا هذا الإجراء، وفي بعض الأحيان يمنع طلب الوالد وفي بعض الأحيان يسمح له بشروط ويطلبون بعض التفاصيل مع المواكبة الأمنية المشددة. وهم اعتبروني حلقة الوصل أيضاً، لأن أخي صادق كان يسكن في منطقة أخرى، فكان التنسيق اليومي معي، لأنني موجود باستمرار.
* وكيف كانت طريقة تعاملهم معك ومع العائلة؟
- من نتعامل معهم كانوا بحرينيين من جهاز أمن الدولة، ومعاملتهم تتفاوت بين شخص وآخر، ولكن في الحصار الثالث أصبحت لدينا خبرة في طريقة التعامل معهم، وأصبحت لدينا معرفة شخصية بهم من خلال زياراتنا المتكررة إلى أخي محمد جميل وعبدالجليل خليل (زوج شقيقتي) في السجن، لذلك كانوا يعرفونني جيداً، لأنني كنت في الأسبوع أذهب إلى وزارة الداخلية مرتين، وهذا الوضع استمر لأكثر من عشر سنوات هي فترة اعتقال محمد جميل وعبدالجليل (من العام 1988 حتى 1998).
* وهل تكونت لديك صداقات مع بعض قوات أمن الدولة؟
- من الصعوبة أن تتكون بيننا صداقات، لأن في النهاية إذا نظرنا إلى الحقيقة المرة، فإنهم السجانون ونحن المسجونون، ولكن نحن ندرك في نهاية المطاف أن هؤلاء ينفذون أوامر فقط، وأستطيع أن اقول انه كانت هناك ألفة معهم، لأنهم موجودون معنا على مدار الساعة إلى درجة أننا أصبحنا نعرف أسماء كثير من قوات مكافحة الشغب، وعلاقاتي والعائلة كانت مركبة مع السجن.
وفي كل تلك الفترات كان بيت الوالد مركزاً، وتعرفنا على مجموعات هائلة من البشر من مناطق مختلفة، وهذه قد تكون من «نعم السجن»، وكان هؤلاء الناس يأتون لأسباب مختلفة، وخصوصاً في منتصف عقدي الثمانينات والتسعينات عندما كان الشيخ الجمري من القلة الذين كانوا يتحدثون عن القضايا المطلبية وتحديدا ملف المعتقلين، ومجلس الوالد كان من المجالس القليلة المفتوحة على مدار السنة على رغم المخاطر، ومهما يكن السجين المفرج عنه في تلك القضايا يقوم الوالد بزيارته، أو يرسل له مساعدة.
وضع الوالد الاجتماعي متميز كثيراً، ولديه معارف في كل البحرين ومن مختلف المستويات، وخصوصاً الطبقات المحرومة (عامة الشعب)، والوالد كان يحاول توفير مرتبات شهرية لهم لتلبية احتياجاتهم قدر الإمكان، وكان الوالد يسعى في تزوجيهم، وأستطيع أن أقول إن كل معتقل أصبحت لديه عضوية في هذا المجلس، انه مجلس للمحرومين ومجلس المستعدين للتضحية باستمرار!
وبعد أشهر معينة صار تشديد أكبر للحصار ومنعت الزيارات للبيت، وبسبب رفض الوالد بعض العروض من السلطة كان الجواب تشديد الحصار أكثر فأكثر، واتخذ هذا الحصار صوراً مختلفة مثل منع الزيارات أو التشدد في السماح له من الخروج من البيت، وأصبحت زياراته قليلة، وكان الناس يلتقون به من خلال مراجعته للعيادات والمستشفيات، وكان مجرد خروجه لحاجات ضرورية يسبب إرباكا واستنفاراً لقوى الأمن بسبب التشديد، وكان الناس يتحملون الأذى في سبيل رؤية الشيخ، وفي بعض الأحيان تغض القوى الأمنية الطرف.
* كيف كانت طريقة تعاملهم مع الشيخ وكيف كان الشيخ يتعامل معهم؟
- جميع رجال أمن الدولة يعرفون الوالد بسبب معاملتهم معه في السجن، هم كأشخاص والبحرينيون وخصوصاً كانوا يتحدثون مع الشيخ بأدب ويحاولون تجنب ما يثير غضبه، ويبدو أنه كانت لديهم أوامر بعدم الاحتكاك المباشر مع الشيخ، ولكن في بعض الحالات حدث بعض الاحتكاك.
والوالد كانت أخلاقه عالية معهم، وكان يتعامل معهم بطريقة إنسانية، وبعضهم يخجلون في التعامل مع الشيخ، وأتذكر حادثة مازالت عالقة في ذهني، فبعد تشديد الحصار على الشيخ منعت عليه الزيارات ولكن سمح له أن يخرج بالسيارة للتجول في الليل بمواكبة أمنية، وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى المنطقة الغربية ومنها دخلنا مدينة حمد، وقال لي الوالد «أنا فيني زكام». دخلنا سوق واقف وكان الوقت متأخراً وكانت خلفنا سيارتان تابعتان لقوى المخابرات(...) وقفنا عند صاحب العصير، وعطيت المحل الطلب، والوالد طلب من الموظف الهندي أن يذهب إلى سيارتي المخابرات ويسألهم ما يطلبون، وهم طلبوا، وبعضهم تفاجأوا أن الشيخ دفع عنهم، وبعد رجوعنا البيت جاء اثنان منهم وقدما الشكر إلى الشيخ.
كان الوالد يصلي في جامع الإمام زين العابدين(ع) وتحول الجامع إلى مصلى للشيخ ومحمد جميل وأنا بالإضافة الى قيّم الجامع وهو رجل كبير في السن، وكانوا يمنعون أحداً من دخول الجامع، ولهذا السبب كان قيّم المسجد مصدراً مهماً، لأنه يرى الشيخ مرتين في اليوم.
وفي أحد أيام الجمعة جاء أحد من المخابرات فسلم على الوالد «اشلونك أبو جميل؟»، وطلب منه أن يتغدى معنا، في حين كان يطبق الحصار، وبعد أسبوع فعلاً جاء إلى البيت مع صديقه، وقلت للشيخ «جو الضيوف!»، فقال: «كنت جاداً»، والوالدة جهزت الغداء لهم، وسمحوا له في البداية أن يلبي بعض العزائم، وكانوا في سياراتهم وأنا مع الوالد، وأصحاب البيوت كانوا يضيفونهم على شرف الشيخ أيضاً.
* ولكن ألم تشعر أن بعضهم كان متعاطفاً مع الشيخ أو القضية المطلبية عموماً؟
- هؤلاء لم تكن ثقافتهم السياسية عالية، وكثير منهم كانوا يتعاطفون مع الوالد بوصفه رجل دين أو رمز اجتماعي، وكانوا يحترمون الوالد، ويبدي بعضهم الخجل من محاصرته، ولكن في النهاية نحن كنا نعلم أن هؤلاء موظفون وليسوا أصحاب قرار.
* وما هي أكثر لحظات الحصار شدة بالنسبة الى الشيخ؟
- إن أصعب الفترات التي تألم فيها الشيخ الجمري نفسياً بصورة كبيرة هي فترات المناسبات مثل مواليد ووفيات أهل البيت(ع)، وكان الشيخ يذهب إلى السطح، لأن البيت يقع بين بني جمرة والدراز والمرخ، ويجلس على السطح ويستمع للقراءة الحسينية، وحاولنا أن نجري له ترتيباً ليخرج في موسم عاشوراء فقط، وفي البداية سمحوا له بزيارة مكان واحد، ولكن حدثت مشكلة في هذا المكان وتجنب الوالد الذهاب له مرة أخرى وطلب تغيير المأتم إلا أن الشرطة رفضت طلب الوالد، والنتيجة أنه قضى شهر محرم في البيت وكان يذهب للسطح ليستمع إلى أصوات قراءات حسينية متداخلة.
والشيخ كان يتألم كثيراً في شهر محرم، ويقول لمحاصريه: «حياتي كلها عاشوراء، وأنا أساساً خطيب حسيني منذ أن كان عمري 12 سنة»، وكانت هذه القضية أصعب مسألة، وحتى الوالدة قللت من طلعاتها لمواساة الوالد، لأن ارتباطه بقضية الحسين(ع) كان يفوق التصور، ودائماً ما كان يقول للقوات المحتشدة والمحيطة بمنزله المحاصر: «أنا رجل منبر قبل أي شيء آخر».
وفي فترة الحصار كانت للشيخ فرصة ذهبية للكتابة، ومن الأشياء التي مرت بها هي حادث سقوط طائرة طيران الخليج، وكان يتابع التلفزيون بشكل مباشر، وطلب منا أن نخبر الشرطة انه يرغب في تعزية الناس، والشرطة سألوني «يعرف من فيهم؟»، أجبتهم «لا يعرف احداً»، فقال الوالد: هم كلهم يعرفوني. فهدأناه وقلنا له «إن الناس تقبل عذرك»، وفي النتيجة أرسل لعوائل الضحايا رسائل التعازي فقط.
* و كيف انعكست هذه الأجواء على العائلة؟
- نحن كعائلة مررنا بهذه التجربة وتحديداً تجربة السجن والزيارات واستدعاءات الوالد المتكررة، ولنا تاريخ طويل مع هذه القضايا، ولكن لا أحد يستطيع زيارتنا، والوالدة كانت أكثر شخص يقف مع الوالد وكأن فيها مواصفات خاصة، وهي ذات بأس وقوة، وكانت بالنسبة إليه كل شيء في حياته، كانت له أكثر من زوجة، وكانت بمثابة الشريك، وبالنسبة إلى الجو العائلي، كان يحب الأطفال وجو المرح والمزاح مع الجميع، وكأنه لا يوجد حصار، فنفسيته مرتفعة في أحيان كثيرة. ومواقف الوالد كانت تتخذ من وحي دائرة المشورة الواسعة جداً، وكان الوالد يسألنا جميعا، ولم يكن متفردا بالقرار، وهذا ما يميزه.
* ما هي أكثر المحطات التي أغضبت الوالد في فترات الحصار المتعاقبة؟
- مازلت أذكر أنه حدثت معركة كبيرة بين الوالد وقوات الأمن، ولم يكن الوالد يصلي الفجر في الجامع لضمان عدم الاحتكاك مع قوات الحصار، وكانت فرصة للجيران ليصلوا في الجامع، وكان المؤذن شخصاً آخر، وكان الوالد مسروراً للسماح لهم بالصلاة في الجامع، والمؤذن كان من احد الجيران، وفي ذات يوم منع من الأذان.
كنت اعرف القصة، ولكن الوالد بعد أيام لم يسمع الأذان وسألني عن القضية، والوالد كان يصر على معرفة السبب وأنا لم اخبره، وفي أحد الأيام خرج المغرب للصلاة وشاهد ابن المؤذن، وكان طفلاً صغيراً وسلّم على الوالد، وقال له الوالد: «أبوك مريض؟»، فرد الولد «لا مو مريض»، فرد الشيخ:» ليش ما يأَذّن؟»، وأجاب الولد «الجماعة طردوه». وفي هذه اللحظة انفجرت أعصاب الشيخ بصورة رهيبة و قوى الأمن حاولوا يتلافون الموضوع، لكنه شعر أن الحصار تجاوز الحدود، وكان مستعداً ليفتح جبهة على هذا الموضوع، وتدخل محمد جميل وعبدالجليل (وكانا قد افرج عنهما في هذه الفترة) وهدّآ الوالد، وهذه الحادثة كانت بعد ثلاثة أشهر من إجراء عملية القلب للوالد أثناء الحصار، ولكنه انطلق إليهم مثل الأسد، كان يشعر أن هذا الجامع بالنسبة إليه أهم من أي شيء آخر، وموضوع التعدي على الدين كان يعتبره خطاً أحمر.
* ما هي طريقة تعاملك مع الضباط في المعتقل؟ وهل حاولت تهريب بعض الرسائل له؟
- كانوا يحترمونا أكثر من بقية المعتقلين قليلاً، ولكن التعامل كانت تحكمه المزاجية، وبالنسبة لنا كان من الصعوبة بمكان تهريب الرسائل، وفي الزيارة كان يتحدث الوالد عما يشاء، وكان يستفسر عن الناس لأن المخابرات كانت تقول له انهم نسوا الحركة المطلبية، وكان عدد من مسئولي الأمن موجودين في هذه الزيارات، والمعلومة التي كانت تصل للشيخ كانت مشوهة بسبب الظروف المشددة، وأية كلمة تحاسب عليها العائلة مثلما حدث مع أختي عفاف حينما دخلت في مشادة مع أحد ضباط المخابرات سيئ السمعة، والأخير منعها من الزيارات نهائياً، ولم ترَ الوالد إلا بعد الإفراج عنه.
* وفي فترة الحصار هل حدثت محاولات للقاء الوالد من الشخصيات القريبة من السلطة؟
- نعم، حدثت لقاءات بين فترة وأخرى بين بعض الشخصيات لمحاولة التهدئة والبحث عن مخرج، وكان من بينها عضو مجلس الشورى السابق المرحوم عبدالله العصفور، وكانت لديه معرفة قديمة مع الوالد، وكانت هذه المحاولة الجادة الوحيدة، وبعض الشخصيات سمح لها بالدخول، ولكن في النتيجة لم تسفر هذه الاتصالات عن بلورة مخرج محدد للازمة.
ولكن في آخر فترات الحصار كان هناك نوع من الانفتاح من جانب السلطة ولديها بعض المرونة في الخطاب الإعلامي وكذلك التعاطي بصورة أفضل مع الواقع السياسي في نهاية العام 2000، وهي الفترة التي سمح فيها بعودة السيدعبدالله الغريفي من الخارج، وفي هذه الفترة حدثت لقاءات مع عدد من الشخصيات الرسمية في يناير 2001. قبل هذه الحادثة توفت أخت الوالد الكبرى (زهرة)، والشيخ حضر الجنازة وكانت جنازة كبيرة لعلم الناس بأن الشيخ سيكون حاضراً، وفعلاً كان حاضراً، ولكن بعد الجنازة جاء قرار بمنعه من حضور مجلس العزاء «الفاتحة»، ولكن الوالد أصر على الحضور، واعتبر أن هذه إهانة كبيرة بالنسبة إليه، وقال: «الناس تريد أن تعزيني»، وقال: «هل هؤلاء يدعوّن أن لديهم انفتاحاً ويقومون بمثل هذا العمل اللاإنساني»، ووصلت هذه العبارة إلى مسامع السلطات العليا، والشخص ذاته الذي منع الشيخ اتصل وقال إن الشيخ مسموح له أن يحضر الفاتحة بأمر خاص، والسيدعبدالله الغريفي تواجد مع الوالد لثلاثة أيام، وكان تلاقيهما حدثاً مميزاً في ذلك الظرف وهما تداولا قضايا الشأن العام. وبعد هذه الفترة بدأ الحصار يتآكل، وكانت بعض الشخصيات تزور الوالد.
* ومن هي هذه الشخصيات؟
- المستشار السابق لسمو الأمير وزير التجارة والصناعة حالياً حسن فخرو، والوزير جواد العريض، وزيارات حسن فخرو تكررت أكثر من مرة، وجاء فخرو بحلم كبير كان يراود الوالد وهو الانفتاح السياسي.
* وماذا حدث في هذه اللقاءات؟ ولماذا هذان الشخصان بالذات؟
- بالنسبة لجواد العريض كان صاحب علاقة سابقة وممتدة منذ المجلس الوطني، وكان يتكلم بعموميات، ولم يكن يتحدث عن تفاصيل في الجلسات التي حضرتها على الأقل، ولكن حسن فخرو كان يجلس لعدة ساعات مع الشيخ، وتعددت اللقاءات معه، وكان الشيخ واثقاً منه، وكان واضحاً انه مفوضاً من قبل سموالأمير (جلالة الملك)، وكان يتحدث عن تواريخ محددة لمراحل الانفراج، وكان الوالد يبدي ملاحظات، وكانوا يطلبون دعم الوالد للمشروع السياسي الجديد.
* وهل توسعت دائرة الحوارات مع آخرين؟
- نعم، وازدادت اللقاءات مع الديوان الأميري (سابقاً) وكانت له زيارات لسموالأمير، وكان العفو في البداية لم يكن شاملاً، والوالد طلب أن يكون العفو شاملاً، والوالد كان يخبرنا أن هناك ارتياحا من هذه الزيارات، وان الناس تريد أن تخرج من الأزمة الأمنية وتنتقل الى مرحلة الحوار السياسي، وبعضها تسلسلت الحوادث المعروفة فترة الانفراجات العامة.
لا شك أن الحصار ترك أثراً نفسياً على بعض أفراد العائلة بل وانعكس على الجو الدراسي أيضا، لأن الظروف التي مرت بها العائلة لم تكن طبيعية، وكان المشهد الأساسي أن نرى جميعاً الشرطة والشغب وسياراتهم، ولا شيء آخر.
* وبعد فك الحصار هل التقيت مع أولئك الذين كانوا يحاصرون منزل الشيخ؟
- نعم بالتأكيد، لأن «البحرين صغيرة» ولكن كنت أشاهدهم مصادفة، والعلاقة معهم عادية، وأشعر أن بعضهم غير موجود في جهاز الأمن الوطني حالياً، وحينما يشاهدونني يسألون عن بعض الأشخاص، ويستعرضون شريط الذكريات بصورة عابرة، وبعض الأشخاص يحاول يظهر أنه دوره كان مقتصراً على تنفيذ الأوامر.
[ وكيف تواجههم نفسياً؟
- أنا لا احمل ضغينة على أحد.
[ وما الذي لا تستطيع أن تنساه من تلك المشاهد؟
- منظر حصار الوالد كان غير طبيعي، وكنت أحاول أن أحفظ كرامة الوالد عند نقاط التفتيش والدخول والخروج، وكنت اطلب منهم ألا يسألني احد أمام الوالد!
محمد حسين الجمري يروي يوميات عائلة تحت الحصار!
الوسط - حيدر محمد
«منظر حصار الوالد لم يكن طبيعياً، تحولت بني جمرة إلى معسكر حقيقي ودائم، وربما لأن المحاصر كان شخصاً استثنائياً، لذلك فإن الحصار لم يقتصر عليه، وإنما شمل الناس... كل أهالي القرية يدخلون ويخرجون من مدخل واحد، وكانوا يعانون عند نقاط التفتيش»... هذا ما يرويه محمد حسين الجمري (نجل المرحوم الشيخ الجمري) عن ذكريات عائلة تحت الحصار.
تعرض المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري لثلاثة حصارات منزلية، هي الأولى من نوعها في تاريخ البحرين، وكانت عائلة الشيخ تعاني الأمرين من الحصارات المنزلية، وكان الشيخ الجمري يعتمد على ابنه محمد حسين كحلقة وصل أثناء الحصار الثالث الذي استمر من يوليو/ تموز 1999 إلى فبرير/ شباط 2001، وللتعرف على جانب من تلك الأجواء الفريدة من نوعها، كان لـ «الوسط» اللقاء التالي مع محمد حسين عبدالأمير الجمري:
* ما هي أكثر المحطات العصية على النسيان من ذاكرة الحصار الذي فرض على الشيخ الوالد؟
- إن أكثر فترة أتذكرها من الشيخ هي فترة الحصار الثالث التي بدأت في 1999 (اذ كان الحصار الأول بين 1 الى 14 ابريل/ نيسان 1995، والحصار الثاني في يناير/ كانون الثاني 1996)، وكنت أكثر قرباً منه من أية فترة أخرى، لأنني كنت أسكن في البيت المقابل لمنزله، وكان الإجراء الذي يطبق عليه يشملني أيضاً، وسبب آخر جعلني قريباً منه أنه لم يكن مسموحاً له أن يخرج خارج المنزل إلا بإذن خاص من المخابرات، وكنت تحت ضغط لما كان يتضمن الأمر من تعقيدات شديدة، وقد ازداد الضغط في شهر يوليو/ تموز من العام 1999 بعد عملية الإفراج عن الشيخ وما صاحبها من ظروف وملابسات.
وأول يوم خرج الشيخ من السجن لم يكن هناك حصار على منزله، بل كان التلفزيون يعرض مرات عدة مشاهد الإفراج، ومع ذلك كانت الآلاف من الناس تنتظر قدوم الشيخ، بسبب تسرب الخبر، وعندما أفرجوا عنه نادوا أخي صادق لاصطحابه إلى البيت. ولم يكن الوالد يدري انه سيفرج عنه إلا في الساعة الثالثة ظهرا، وأصر أن يأتوا له بحلاق.
وكان الوضع طبيعياً في اليوم الأول، ففي ذلك اليوم كانت هناك شرطة ولكنها لم تكن تتدخل، ويبدو أنه لم يكن لديهم أوامر بالتدخل، وعلى رغم ما بث من لقطات في التلفزيون (في أخبار الساعة الثالثة عصراً) كانت الناس تندفع وكان الشرطة موجودين ولكن لم يمنعوا أحداً، وكان بعض الأقارب يسمح لهم بالدخول في اليوم الأول فقط.
أما في صبيحة اليوم الثاني كان هناك هدوء غريب، وحينما استيقظت توقعت أن اندفاع الحشود سيكون كما كان في اليوم الأول، ولكنني استيقظت على هدوء تام، ونزلت البيت، وكنت ساكناً في الطابق الثاني... نزلت فسألت الوالدة، وكان الوالد جالسا على الإفطار في الساعة السابعة صباحاً، والشيخ رد علي: «الظاهر انك استقيقطت متأخرا»، وقال لي: «روح الشغل».
لم أكن أعلم ماذا جرى بالضبط، ولكن فتحت الباب وتفاجأت بقوات مكافحة الشغب، وكانت الشرطة تحيط بالقرية من كل الجهات، ورجعت للوالد واخبرني انه في إقامة جبرية، وقال: «لست مستغرباً مما حدث»، وهو توقع الإقامة الجبرية، لأنه مر بها مرتين سابقاً.
وعندما خرجت وجدت مداخل القرية كلها مغلقة عدا المدخل الرئيسي القديم بمحاذاة المقبرة، وتصور أن كل قاطني قرية بني جمرة يدخلون من باب واحد، بل يجب أن يمروا على منزلنا أيضاً والنقاط الأمنية كانت منتشرة بكثافة، وهذا الحال استمر لمدة أشهر، وكل الناس تدخل من مدخل واحد فقط وتخرج من المدخل ذاته، وهذا القرار لم يستثنِ أحدا بما فيهم الأجانب، وسبب هذا القرار ازدحامات كبيرة عند مدخل بني جمرة، وكل شخص مجبور على كشف هويته من خلال اطلاعهم على بطاقته السكانية، وإذا لم يكن من المنطقة يوجه له السؤال مباشرة «أنت ذاهب إلى الشيخ؟».
في البداية الحصار لم يكن شديداً، وكانوا يختارون بعض الشخصيات البعيدة عن الجانب السياسي وبعض الأقارب ويمنحونهم وقتا محدداً لزيارة الشيخ، وكانت الناس تندفع وحدثت بعض المشادات بسبب الانتقائية في الاختيار.
بعد شهر واحد تحول الحصار إلى المنطقة الشرقية من بني جمرة حيث سكن الوالد، وهذا الحصار يختلف عن كل الحصارات السابقة، لأنهم في تلك الحصارات كانوا يمنعون كل صغيرة وكبيرة ويحظرون أي نوع من الحياة في المنطقة، ففي الحصار الأول في العام 1995 لم يسمح لنا بوجود أية وسيلة اتصال يستخدمها الشيخ، واخذوا التلفزيونات والراديو وحتى الهاتف.
كان الشيخ منقطعاً عن العالم وممنوعاً عليه حتى الخروج من باب منزله، والحصار الثاني كان في يناير/ كانون الثاني 1996 وكان مشابهاً للحصار الأول وكان حصاراً محكماً تمهيداً للاعتقال الثاني الذي استمر لأربع سنوات ونصف، والحصار الثالث تميز بالتشديد على الداخل والخارج لكن الحياة في المنطقة لم تتوقف كما كان في الحصارين السابقين، وفي المرة الثالثة سمحوا للوالد ببعض الزيارات ولكن بإذن خاص ومواكبة أمنية.
* ومن كان حلقة الوصل مع هذه القوات؟
- كنت حلقة الوصل بالنسبة الى من هم داخل الحصار، كما كان لأخي صادق دور في الاتصال بجوانب اخرى، اما أنا فكنت حلقة الوصل بين المنزل المحاصر وخارجه. حينها تحدثت مع الشخص المسئول عن حصار المنزل لتخفيف التضييق على الوالد والعائلة، لأنهم كانوا يريدون معرفة التفاصيل في كل حركة قبل السماح لنا بأي شيء، والوالد كان يرفض أخذ الإذن وكان يطلب فقط الإخطار «خبّرهم فقط»، ولكنني كنت مضطراً للقيام بأخذ الإذن لأنهم فرضوا هذا الإجراء، وفي بعض الأحيان يمنع طلب الوالد وفي بعض الأحيان يسمح له بشروط ويطلبون بعض التفاصيل مع المواكبة الأمنية المشددة. وهم اعتبروني حلقة الوصل أيضاً، لأن أخي صادق كان يسكن في منطقة أخرى، فكان التنسيق اليومي معي، لأنني موجود باستمرار.
* وكيف كانت طريقة تعاملهم معك ومع العائلة؟
- من نتعامل معهم كانوا بحرينيين من جهاز أمن الدولة، ومعاملتهم تتفاوت بين شخص وآخر، ولكن في الحصار الثالث أصبحت لدينا خبرة في طريقة التعامل معهم، وأصبحت لدينا معرفة شخصية بهم من خلال زياراتنا المتكررة إلى أخي محمد جميل وعبدالجليل خليل (زوج شقيقتي) في السجن، لذلك كانوا يعرفونني جيداً، لأنني كنت في الأسبوع أذهب إلى وزارة الداخلية مرتين، وهذا الوضع استمر لأكثر من عشر سنوات هي فترة اعتقال محمد جميل وعبدالجليل (من العام 1988 حتى 1998).
* وهل تكونت لديك صداقات مع بعض قوات أمن الدولة؟
- من الصعوبة أن تتكون بيننا صداقات، لأن في النهاية إذا نظرنا إلى الحقيقة المرة، فإنهم السجانون ونحن المسجونون، ولكن نحن ندرك في نهاية المطاف أن هؤلاء ينفذون أوامر فقط، وأستطيع أن اقول انه كانت هناك ألفة معهم، لأنهم موجودون معنا على مدار الساعة إلى درجة أننا أصبحنا نعرف أسماء كثير من قوات مكافحة الشغب، وعلاقاتي والعائلة كانت مركبة مع السجن.
وفي كل تلك الفترات كان بيت الوالد مركزاً، وتعرفنا على مجموعات هائلة من البشر من مناطق مختلفة، وهذه قد تكون من «نعم السجن»، وكان هؤلاء الناس يأتون لأسباب مختلفة، وخصوصاً في منتصف عقدي الثمانينات والتسعينات عندما كان الشيخ الجمري من القلة الذين كانوا يتحدثون عن القضايا المطلبية وتحديدا ملف المعتقلين، ومجلس الوالد كان من المجالس القليلة المفتوحة على مدار السنة على رغم المخاطر، ومهما يكن السجين المفرج عنه في تلك القضايا يقوم الوالد بزيارته، أو يرسل له مساعدة.
وضع الوالد الاجتماعي متميز كثيراً، ولديه معارف في كل البحرين ومن مختلف المستويات، وخصوصاً الطبقات المحرومة (عامة الشعب)، والوالد كان يحاول توفير مرتبات شهرية لهم لتلبية احتياجاتهم قدر الإمكان، وكان الوالد يسعى في تزوجيهم، وأستطيع أن أقول إن كل معتقل أصبحت لديه عضوية في هذا المجلس، انه مجلس للمحرومين ومجلس المستعدين للتضحية باستمرار!
وبعد أشهر معينة صار تشديد أكبر للحصار ومنعت الزيارات للبيت، وبسبب رفض الوالد بعض العروض من السلطة كان الجواب تشديد الحصار أكثر فأكثر، واتخذ هذا الحصار صوراً مختلفة مثل منع الزيارات أو التشدد في السماح له من الخروج من البيت، وأصبحت زياراته قليلة، وكان الناس يلتقون به من خلال مراجعته للعيادات والمستشفيات، وكان مجرد خروجه لحاجات ضرورية يسبب إرباكا واستنفاراً لقوى الأمن بسبب التشديد، وكان الناس يتحملون الأذى في سبيل رؤية الشيخ، وفي بعض الأحيان تغض القوى الأمنية الطرف.
* كيف كانت طريقة تعاملهم مع الشيخ وكيف كان الشيخ يتعامل معهم؟
- جميع رجال أمن الدولة يعرفون الوالد بسبب معاملتهم معه في السجن، هم كأشخاص والبحرينيون وخصوصاً كانوا يتحدثون مع الشيخ بأدب ويحاولون تجنب ما يثير غضبه، ويبدو أنه كانت لديهم أوامر بعدم الاحتكاك المباشر مع الشيخ، ولكن في بعض الحالات حدث بعض الاحتكاك.
والوالد كانت أخلاقه عالية معهم، وكان يتعامل معهم بطريقة إنسانية، وبعضهم يخجلون في التعامل مع الشيخ، وأتذكر حادثة مازالت عالقة في ذهني، فبعد تشديد الحصار على الشيخ منعت عليه الزيارات ولكن سمح له أن يخرج بالسيارة للتجول في الليل بمواكبة أمنية، وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى المنطقة الغربية ومنها دخلنا مدينة حمد، وقال لي الوالد «أنا فيني زكام». دخلنا سوق واقف وكان الوقت متأخراً وكانت خلفنا سيارتان تابعتان لقوى المخابرات(...) وقفنا عند صاحب العصير، وعطيت المحل الطلب، والوالد طلب من الموظف الهندي أن يذهب إلى سيارتي المخابرات ويسألهم ما يطلبون، وهم طلبوا، وبعضهم تفاجأوا أن الشيخ دفع عنهم، وبعد رجوعنا البيت جاء اثنان منهم وقدما الشكر إلى الشيخ.
كان الوالد يصلي في جامع الإمام زين العابدين(ع) وتحول الجامع إلى مصلى للشيخ ومحمد جميل وأنا بالإضافة الى قيّم الجامع وهو رجل كبير في السن، وكانوا يمنعون أحداً من دخول الجامع، ولهذا السبب كان قيّم المسجد مصدراً مهماً، لأنه يرى الشيخ مرتين في اليوم.
وفي أحد أيام الجمعة جاء أحد من المخابرات فسلم على الوالد «اشلونك أبو جميل؟»، وطلب منه أن يتغدى معنا، في حين كان يطبق الحصار، وبعد أسبوع فعلاً جاء إلى البيت مع صديقه، وقلت للشيخ «جو الضيوف!»، فقال: «كنت جاداً»، والوالدة جهزت الغداء لهم، وسمحوا له في البداية أن يلبي بعض العزائم، وكانوا في سياراتهم وأنا مع الوالد، وأصحاب البيوت كانوا يضيفونهم على شرف الشيخ أيضاً.
* ولكن ألم تشعر أن بعضهم كان متعاطفاً مع الشيخ أو القضية المطلبية عموماً؟
- هؤلاء لم تكن ثقافتهم السياسية عالية، وكثير منهم كانوا يتعاطفون مع الوالد بوصفه رجل دين أو رمز اجتماعي، وكانوا يحترمون الوالد، ويبدي بعضهم الخجل من محاصرته، ولكن في النهاية نحن كنا نعلم أن هؤلاء موظفون وليسوا أصحاب قرار.
* وما هي أكثر لحظات الحصار شدة بالنسبة الى الشيخ؟
- إن أصعب الفترات التي تألم فيها الشيخ الجمري نفسياً بصورة كبيرة هي فترات المناسبات مثل مواليد ووفيات أهل البيت(ع)، وكان الشيخ يذهب إلى السطح، لأن البيت يقع بين بني جمرة والدراز والمرخ، ويجلس على السطح ويستمع للقراءة الحسينية، وحاولنا أن نجري له ترتيباً ليخرج في موسم عاشوراء فقط، وفي البداية سمحوا له بزيارة مكان واحد، ولكن حدثت مشكلة في هذا المكان وتجنب الوالد الذهاب له مرة أخرى وطلب تغيير المأتم إلا أن الشرطة رفضت طلب الوالد، والنتيجة أنه قضى شهر محرم في البيت وكان يذهب للسطح ليستمع إلى أصوات قراءات حسينية متداخلة.
والشيخ كان يتألم كثيراً في شهر محرم، ويقول لمحاصريه: «حياتي كلها عاشوراء، وأنا أساساً خطيب حسيني منذ أن كان عمري 12 سنة»، وكانت هذه القضية أصعب مسألة، وحتى الوالدة قللت من طلعاتها لمواساة الوالد، لأن ارتباطه بقضية الحسين(ع) كان يفوق التصور، ودائماً ما كان يقول للقوات المحتشدة والمحيطة بمنزله المحاصر: «أنا رجل منبر قبل أي شيء آخر».
وفي فترة الحصار كانت للشيخ فرصة ذهبية للكتابة، ومن الأشياء التي مرت بها هي حادث سقوط طائرة طيران الخليج، وكان يتابع التلفزيون بشكل مباشر، وطلب منا أن نخبر الشرطة انه يرغب في تعزية الناس، والشرطة سألوني «يعرف من فيهم؟»، أجبتهم «لا يعرف احداً»، فقال الوالد: هم كلهم يعرفوني. فهدأناه وقلنا له «إن الناس تقبل عذرك»، وفي النتيجة أرسل لعوائل الضحايا رسائل التعازي فقط.
* و كيف انعكست هذه الأجواء على العائلة؟
- نحن كعائلة مررنا بهذه التجربة وتحديداً تجربة السجن والزيارات واستدعاءات الوالد المتكررة، ولنا تاريخ طويل مع هذه القضايا، ولكن لا أحد يستطيع زيارتنا، والوالدة كانت أكثر شخص يقف مع الوالد وكأن فيها مواصفات خاصة، وهي ذات بأس وقوة، وكانت بالنسبة إليه كل شيء في حياته، كانت له أكثر من زوجة، وكانت بمثابة الشريك، وبالنسبة إلى الجو العائلي، كان يحب الأطفال وجو المرح والمزاح مع الجميع، وكأنه لا يوجد حصار، فنفسيته مرتفعة في أحيان كثيرة. ومواقف الوالد كانت تتخذ من وحي دائرة المشورة الواسعة جداً، وكان الوالد يسألنا جميعا، ولم يكن متفردا بالقرار، وهذا ما يميزه.
* ما هي أكثر المحطات التي أغضبت الوالد في فترات الحصار المتعاقبة؟
- مازلت أذكر أنه حدثت معركة كبيرة بين الوالد وقوات الأمن، ولم يكن الوالد يصلي الفجر في الجامع لضمان عدم الاحتكاك مع قوات الحصار، وكانت فرصة للجيران ليصلوا في الجامع، وكان المؤذن شخصاً آخر، وكان الوالد مسروراً للسماح لهم بالصلاة في الجامع، والمؤذن كان من احد الجيران، وفي ذات يوم منع من الأذان.
كنت اعرف القصة، ولكن الوالد بعد أيام لم يسمع الأذان وسألني عن القضية، والوالد كان يصر على معرفة السبب وأنا لم اخبره، وفي أحد الأيام خرج المغرب للصلاة وشاهد ابن المؤذن، وكان طفلاً صغيراً وسلّم على الوالد، وقال له الوالد: «أبوك مريض؟»، فرد الولد «لا مو مريض»، فرد الشيخ:» ليش ما يأَذّن؟»، وأجاب الولد «الجماعة طردوه». وفي هذه اللحظة انفجرت أعصاب الشيخ بصورة رهيبة و قوى الأمن حاولوا يتلافون الموضوع، لكنه شعر أن الحصار تجاوز الحدود، وكان مستعداً ليفتح جبهة على هذا الموضوع، وتدخل محمد جميل وعبدالجليل (وكانا قد افرج عنهما في هذه الفترة) وهدّآ الوالد، وهذه الحادثة كانت بعد ثلاثة أشهر من إجراء عملية القلب للوالد أثناء الحصار، ولكنه انطلق إليهم مثل الأسد، كان يشعر أن هذا الجامع بالنسبة إليه أهم من أي شيء آخر، وموضوع التعدي على الدين كان يعتبره خطاً أحمر.
* ما هي طريقة تعاملك مع الضباط في المعتقل؟ وهل حاولت تهريب بعض الرسائل له؟
- كانوا يحترمونا أكثر من بقية المعتقلين قليلاً، ولكن التعامل كانت تحكمه المزاجية، وبالنسبة لنا كان من الصعوبة بمكان تهريب الرسائل، وفي الزيارة كان يتحدث الوالد عما يشاء، وكان يستفسر عن الناس لأن المخابرات كانت تقول له انهم نسوا الحركة المطلبية، وكان عدد من مسئولي الأمن موجودين في هذه الزيارات، والمعلومة التي كانت تصل للشيخ كانت مشوهة بسبب الظروف المشددة، وأية كلمة تحاسب عليها العائلة مثلما حدث مع أختي عفاف حينما دخلت في مشادة مع أحد ضباط المخابرات سيئ السمعة، والأخير منعها من الزيارات نهائياً، ولم ترَ الوالد إلا بعد الإفراج عنه.
* وفي فترة الحصار هل حدثت محاولات للقاء الوالد من الشخصيات القريبة من السلطة؟
- نعم، حدثت لقاءات بين فترة وأخرى بين بعض الشخصيات لمحاولة التهدئة والبحث عن مخرج، وكان من بينها عضو مجلس الشورى السابق المرحوم عبدالله العصفور، وكانت لديه معرفة قديمة مع الوالد، وكانت هذه المحاولة الجادة الوحيدة، وبعض الشخصيات سمح لها بالدخول، ولكن في النتيجة لم تسفر هذه الاتصالات عن بلورة مخرج محدد للازمة.
ولكن في آخر فترات الحصار كان هناك نوع من الانفتاح من جانب السلطة ولديها بعض المرونة في الخطاب الإعلامي وكذلك التعاطي بصورة أفضل مع الواقع السياسي في نهاية العام 2000، وهي الفترة التي سمح فيها بعودة السيدعبدالله الغريفي من الخارج، وفي هذه الفترة حدثت لقاءات مع عدد من الشخصيات الرسمية في يناير 2001. قبل هذه الحادثة توفت أخت الوالد الكبرى (زهرة)، والشيخ حضر الجنازة وكانت جنازة كبيرة لعلم الناس بأن الشيخ سيكون حاضراً، وفعلاً كان حاضراً، ولكن بعد الجنازة جاء قرار بمنعه من حضور مجلس العزاء «الفاتحة»، ولكن الوالد أصر على الحضور، واعتبر أن هذه إهانة كبيرة بالنسبة إليه، وقال: «الناس تريد أن تعزيني»، وقال: «هل هؤلاء يدعوّن أن لديهم انفتاحاً ويقومون بمثل هذا العمل اللاإنساني»، ووصلت هذه العبارة إلى مسامع السلطات العليا، والشخص ذاته الذي منع الشيخ اتصل وقال إن الشيخ مسموح له أن يحضر الفاتحة بأمر خاص، والسيدعبدالله الغريفي تواجد مع الوالد لثلاثة أيام، وكان تلاقيهما حدثاً مميزاً في ذلك الظرف وهما تداولا قضايا الشأن العام. وبعد هذه الفترة بدأ الحصار يتآكل، وكانت بعض الشخصيات تزور الوالد.
* ومن هي هذه الشخصيات؟
- المستشار السابق لسمو الأمير وزير التجارة والصناعة حالياً حسن فخرو، والوزير جواد العريض، وزيارات حسن فخرو تكررت أكثر من مرة، وجاء فخرو بحلم كبير كان يراود الوالد وهو الانفتاح السياسي.
* وماذا حدث في هذه اللقاءات؟ ولماذا هذان الشخصان بالذات؟
- بالنسبة لجواد العريض كان صاحب علاقة سابقة وممتدة منذ المجلس الوطني، وكان يتكلم بعموميات، ولم يكن يتحدث عن تفاصيل في الجلسات التي حضرتها على الأقل، ولكن حسن فخرو كان يجلس لعدة ساعات مع الشيخ، وتعددت اللقاءات معه، وكان الشيخ واثقاً منه، وكان واضحاً انه مفوضاً من قبل سموالأمير (جلالة الملك)، وكان يتحدث عن تواريخ محددة لمراحل الانفراج، وكان الوالد يبدي ملاحظات، وكانوا يطلبون دعم الوالد للمشروع السياسي الجديد.
* وهل توسعت دائرة الحوارات مع آخرين؟
- نعم، وازدادت اللقاءات مع الديوان الأميري (سابقاً) وكانت له زيارات لسموالأمير، وكان العفو في البداية لم يكن شاملاً، والوالد طلب أن يكون العفو شاملاً، والوالد كان يخبرنا أن هناك ارتياحا من هذه الزيارات، وان الناس تريد أن تخرج من الأزمة الأمنية وتنتقل الى مرحلة الحوار السياسي، وبعضها تسلسلت الحوادث المعروفة فترة الانفراجات العامة.
لا شك أن الحصار ترك أثراً نفسياً على بعض أفراد العائلة بل وانعكس على الجو الدراسي أيضا، لأن الظروف التي مرت بها العائلة لم تكن طبيعية، وكان المشهد الأساسي أن نرى جميعاً الشرطة والشغب وسياراتهم، ولا شيء آخر.
* وبعد فك الحصار هل التقيت مع أولئك الذين كانوا يحاصرون منزل الشيخ؟
- نعم بالتأكيد، لأن «البحرين صغيرة» ولكن كنت أشاهدهم مصادفة، والعلاقة معهم عادية، وأشعر أن بعضهم غير موجود في جهاز الأمن الوطني حالياً، وحينما يشاهدونني يسألون عن بعض الأشخاص، ويستعرضون شريط الذكريات بصورة عابرة، وبعض الأشخاص يحاول يظهر أنه دوره كان مقتصراً على تنفيذ الأوامر.
[ وكيف تواجههم نفسياً؟
- أنا لا احمل ضغينة على أحد.
[ وما الذي لا تستطيع أن تنساه من تلك المشاهد؟
- منظر حصار الوالد كان غير طبيعي، وكنت أحاول أن أحفظ كرامة الوالد عند نقاط التفتيش والدخول والخروج، وكنت اطلب منهم ألا يسألني احد أمام الوالد!
منقول
بعد عام على رحيل الشيخ الجمري
أم جميل: تمنيته معنا ليقطف الثمار التي زرعها
بني جمرة - ندى الوادي
عامٌ كاملٌ مضى على رحيله، ولكنها لاتزال تسمع صوته، وتحتفظ في قلبها بذكراه. كلما سمعت عن البرلمان، أو مطالب الشعب، أو مكتسبات العهد الإصلاحي، تذكرت رحلته الطويلة مع العذاب، وجرأته في الدفاع عن الناس، كلما سمعت عن شيخ يؤم الناس في صلاة هادئة رزينة خاشعة، التقطت أذناها ذبذبات بعيدة/ قريبة من قلبها لصوته الرخيم وحكمته البالغة. وكلما راقبت تشتت الناس وفرقتهم، ظهرت أمام عينيها صورته الحازمة الحنونة، وهو يحث كعادته على الوحدة ويأبى على الناس الفرقة.
رحل الشيخ الجمري عن هذه الدنيا منذ عام، ولكنه لايزال باقياً في دنياها، دنيا رفيقة دربه أم جميل... تلك الدنيا البسيطة العفوية، يطغى بحضوره على أبسط التفاصيل حتى الصغيرة منها في حياتها.
تستيقظ من النوم باكراً كعادتها كل يوم، فتتذكر كيف كانت تحييه صباحاً: «صبحك الله بالخير أبا جميل» ، وكيف كان يرد عليها برقته المعتادة: «صبحك الله بالخير حبيبتي»... تفتح خزانة الملابس لتجد ملابسه مختلطة بملابسها، وعمامته ملفوفة كما تركها تماماً. تجهز الفطور لأهل المنزل، فتسترجع اليوم الذي لم يتمكن أن ينهي فطوره فيه قبل اعتقاله. تتجه إلى المسجد القريب من منزلها، والذي لم يكن يتخلف عن أية صلاة فيه، فتتذكر إمامته الناسَ في الصلاة، وتتذكر أيامه الأخيرة التي قضاها في المنزل مريضاً حين انقطعت عن زيارة المسجد لجلوسها بقربه.
ولكن أم جميل راضية بالقضاء، فوضت أمرها لله وهي تعرف أن بعد كل اجتماع فرقة، وأن هذا هو قدرها، فرحيل أبي جميل قدر لا يمكن أن تعترض عليه، وما مر عليه في حياته قدرٌ آخرُ لم يكن بالإمكان الاعتراض عليه أيضاً، وبَيْد أنها تنظر بألم إلى شريط الذكريات، وتسترجع ما عاشه في حياته، وتتمنى لو لم يكن قد عانى كل تلك المعاناة، قبل أن يرحل.
قوية جلدة...
انعكس كل ما مرت به أم جميل من حوادث في حياتها على شخصيتها، فطبعها بطابع القوة والجلد. كل من حولها يعرف أنها صبورة، لا تنزعج أو تقلق بسرعة، فقد تعودت على الخوف والمعاناة حتى على... الموت، فصارت قادرةً على مقاومة أي شيء كان، ولكن شيئاً واحداً لم تتمكن من مقاومته أو الصمود في وجهه، كان ذاك لحظة اكتشفت رحيل رفيق دربها أبوجميل عنها. تقول: «في ذلك اليوم لم أستطع السيطرة على نفسي ولا أعرف لماذا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها الأموات، فقد تعودت هذه المواقف، ولكني عندما اكتشفت وفاته لم أتمكن من استجماع قوتي، انهرت وفقدت القدرة حتى على الرؤية، لم أتمكن حتى من رؤية الأرقام لكي أتصل بأبنائي بالهاتف. شعرت بنفسي سأموت، وابتعدت عن السرير لأجلس على الكرسي، كنت أحاول أن أجبر نفسي على أن أستفيق لأتصل، لم أكن أستوعب بعد أني غير قادرة على النظر. لم أبكِ، ولكني كنت أرتجف, عرفت أن ضغط دمي ارتفع كثيراً. أخذوني بعدها إلى المستشفى وحقنوني بإبرة مهدئ لم أتمكن معها من الحركة، كنت في منزل أختي عندما استيقظت فجراً بعد أن انتهى كل شيء، كان قد غسلوه ودفنوه، أما أنا فعدت إلى منزلي، وشعرت به خالياً موحشاً من دون أبي جميل».
بعد الرحيل...
رحل الشيخ إذاًَ، ولكنه لم يرحل من ذاكرة أم جميل، فذكراه حاضرة معها في كل لحظة، تقول: «لم أتمكن من احتمال الحزن في البداية بعد فراقه، وخصوصاً أن شهر محرم الحرام جاء سريعاً وكان يذكّرني به كثيراً، وكلما كنت أستمع إلى القراءة في شهر محرم، كنت أبكي أبا جميل، كنت عندما أشاهد مكتبه أو الجامع خالياً أتذكره، وكلما مررت بالقرب من خزانة الملابس، أخرجت أوراقه التي كان يحتفظ بها في جيوب ملابسه؛ لأقرأ بعضاً من مذكراته وأتذكره. أما الناس فلم ينسوه أبداً، لايزالون يزورونني ويواسونني ويذكّروني به. أشعر بالفخر عندما يقولون إنهم لم يجدوا شبيهاً له أو بديلاً بعد. وكأني به لامس حياتهم بقوة مثلما لامس حياتي فأصبح مسيطراً عليها حتى بعد رحيله، حتى صرت أقوم بما كنت أقوم به نفسه أيام كان بيننا، حتى في أدق تفاصيل يومي».
الحصار
تخيل نفسك تعيش محصوراً بين جدران منزلك لفترة تتجاوز أسبوعين، يمنع عليك الخروج، أو الاطلاع على أي مما يجري خارج عالمك! تخيل أن تسحب منك جميع أجهزة التلفزيون والراديو التي تربطك بالعالم الخارجي، ويمنع عنك أن تلتقي أحداً أو تخرج من دائرة تلك الجدران المحيطة بك. ويمنع عنك أن تفعل ما تحب، أو تأكل ما تحب، أو تتصرف بما تحب. وفوق ذلك كله، لا تتمتع حتى بوحدتك في سجنك «المفتعل» ذاك، فأنت محمّل بمسئولية 18 فرداً يشاركونك «سجنك» ذاك، أكثرهم من الأطفال.
تبدو تلك تجربةً خياليةً تصلح لفيلم سينمائي درامي، غير أن أم جميل عاشتها في واقع الأمر، وحُفِرت في ذاكرتها عميقاً، حتى صار بدنها يقشعر كلما تذكرتها. تقول: «كانت مرحلة الحصار الذي فُرِض علينا في المنزل من أكثر المراحل التي مررت بها مرارةً، كنا لوحدنا ليس معنا من يقوم بأمورنا غير ابني صادق، ولا أعرف لماذا تجمع أبنائي وأحفادي في ذلك اليوم في منزلنا بالمصادفة، كان بعضهم لا يداوم على الحضور، غير أنهم كانوا جميعاً في المنزل عندما تعرضنا للهجوم المباغت الذي أعقبه الحصار. ولم يوافق الشرطة الذين حاصروا منزلنا على خروج أيٍّ من الموجودين في الداخل، حتى أختي التي كانت تزورنا بالمصادفة وتسكن قريباً من منزلنا. بقينا جميعاً في المنزل نشعر بالاختناق، كنا 19 فرداً غالبيتنا نساء وأطفال، كنا نشعر بأننا في سجن حقيقي، فقد كان الشرطة يحاصرون كل المداخل والمخارج حتى سطح المنزل، وأعتقد أن عددهم فاق الخمسين. وقمنا بتعليق البطانيات على النوافذ حتى نحافظ على خصوصيتنا على الأقل في قاعة المنزل، فغرق المنزل في الظلام. لم تكن لدينا أية وسيلة للتسلية وكانت السيطرة على الأطفال في هذا الوضع شبه مستحيلة، إذ لم تكن شقاوتهم محتملة. كان ابني صادق يضطر أحياناً لحمل بعض الأطفال لردهة باب المنزل علهم يهدأون، وكان هذا الأمر مدعاة لرفض الشرطة الذين انزعجوا من شقاوة الأطفال، فقد كان الصبية منهم يتسلقون سور المنزل ويقفزون خارجه، فكان الشرطة يركضون خلفهم ليمسكوا بهم، ويهددونهم بوضع الأصفاد في أيديهم، غير أن الوضع لم يكن يمكن السيطرة عليه في تلك الفترة».
19 مجرماً
لم تكن مشكلة التعامل مع «شقاوة الأطفال» هي الوحيدة التي واجهت أهل المنزل المحاصر، فالأكل كان مشكلة أخرى أكثر أهميةً، تقول أم جميل: «كانوا يحضرون الوجبات الثلاث لنا في صناديق كرتونية كتب عليها 19 مجرماً. مازلت أتذكر هذه العبارة على الصندوق. ولكن الأدهى أننا لم نكن قادرين على تناول هذا الطعام، فقد كان فعلاً أكل مساجين، وكان الأطفال بالذات معتادين على نمط معين من الأكل لم يكن بالإمكان إجبارهم على غيره».
تستطرد أم جميل مستذكرة: «حاولنا التفاوض مع الشرطة بهذا الشأن، أخبرناهم أننا سنعطيهم نقوداً على أن يشتروا لنا قائمة بما نحتاج إليه حتى نطبخ بأنفسنا ما نريد، وبصعوبة قبلوا بالأمر في وقت لاحق».
بدائل عملية للاتصال بالخارج
كان الاتصال بالخارج والتعرف إلى ما يحدث فيه من أصعب ما واجه المحاصرين في ذاك المنزل، إذ لم يكن أيٌّ منهم يعرف ما يجري في الخارج. غير أن البدائل لهذا الاتصال كانت - على رغم صعوبة الظروف - موجودةً ومنطقيةً.
تقول أم جميل: «جاءت إلى منزلنا إحدى الجارات يوماً بحجة إحضارها بعض الحاجيات، كانت تخاطبهم بصوت عالٍ وتصرخ وكنا نصغي بدقة لما تقوله، كانت تخبرنا بما جرى للقرية أثناء حصارنا في تلك الأيام».
أما البديل «الأكثر فعاليةً» لسماع أخبار الدنيا فكان «اكتشافاً» خطيراً لأهل المنزل، الذين عثروا على جهاز تلفزيون وراديو صغير قديم لم تنتبه الشرطة لوجوده فلم تصادره، وكان هذا الجهاز «كالكنز» على رغم صعوبة أن يلتقط أياً من الذبذبات الإذاعية والتلفزيونية. عن ذلك تحكي أم جميل بقولها: «كنا نبحث عن قناة لندن بفارغ الصبر، وبذلنا مجهودات كبيرة في محاولتنا تلك. كانت ابنتي عفاف تجلس وتغطي نفسها ببطانية ثقيلة حتى لا يخرج أي صوت من الجهاز، وتبدأ تحريك مؤشره علها تلتقط شيئاً يعرّفها بما يجري في الخارج. وكان لها ما أرادت في أحد الأيام، إذ تمكنت من التقاط موجة إذاعة لندن، لتستمع إلى أخيها منصور يتحدث عن الوضع في البحرين، طارت هي من الفرحة وطرنا معها. وعلى رغم أنها لم تتمكن من التقاط الصوت بشكل واضح، غير أنها استطاعت سماع بعض الأخبار على الأقل»!
الابنة الوسطى منصورة كانت وسيلة اتصال أخرى للعائلة المحاصرة بالخارج من دون قصدها، إذ أصيبت بوعكة صحية؛ لأنها وضعت للتو مولوداً جديداً بعملية قيصرية، هنا بدأت المفاوضات لإخراجها من ذلك الحصار بدعوى وضعها الصحي. تقول أم جميل: «تفاوض ابني صادق مع الشرطة كثيراً على إخراجها؛ نظراً إلى وضعها الصحي الحرج، فما كان منهم في البداية إلا أن اتجهوا إلى المستشفى ليحضروا الطبيبة لتكشف عليها. جاءتنا الطبيبة مرعوبة، ثم أعلنت أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً في المنزل فمن الضروري نقلها إلى المستشفى. كان الأمر صعباً عليّ وعلى أبي جميل أن نراها خارجةً وخلفها المدرعات وسيارات الشرطة من منزلنا حتى المستشفى. استطاعت منصورة الاتصال بخالتها في المستشفى لتحضر لها بعض الحاجيات، وبعد يومين تماثلت للشفاء فطلبت أن تعود إلى المنزل لتحضر بعض حاجياتها، وكان هدفها أن تطلعنا على بعض الأخبار من الخارج. جاءت على عجل وكان الشرطة خلفها، منعوني من الاقتراب منها غير أنني أصررت، احتضنتها فهمست في أذني ببعض المعلومات، قبل أن تخرج بسرعة».
لم تغفل أم جميل في حديثها الأعباء الكبيرة التي حملها ابنها محمد حسين الذي كان له دور كبير جداً في مساندتها طوال سنوات المحنة، إذ إنه كان في واجهة الحدث، وخصوصاً أثناء المفاوضات مع نقاط التفتيش المحاصرة للمنزل، ناهيك عن أنه كان يتحمّل المشقة لرعاية شئون الأسرة في جميع الأوقات الحرجة، وخصوصاً بعد اعتقال الشيخ الجمري، إذ كان يتابع بنفسه تنسيق المقابلات ويأخذ الأسرة إليها، ويتابع توصيل الأطفال إلى المدارس وغيرها من أعباء تحمّلها وحده فترةً طويلةً.
فكوا الحصار... وأخذوا الشيخ
بقي جميع سكان ذلك المنزل المحاصر في قلق مستمر، يتساءلون جميعهم إلى متى يستمر الأمر؟ وجاءت خيبة أملهم على دفعات. ففي أحد الأيام جاءهم قرار من الشرطة بإمكان خروج من يريد من المنزل المحاصر ما عدا الشيخ وزوجته. بدأ الجميع يجهز أغراضه للخروج، بل إن أخت أم جميل خرجت فعلاً فأغراضها كانت جاهزةً، غير أن الوقت لم يمهلهم حتى جاء أمر آخر يمنعهم من الخروج ويجبرهم على البقاء.
بعد أيام بدأت الهجمة على المنزل المحاصر صباحاً، تستذكر أم جميل هذا اليوم بدقة كأنه البارحة: «كان أبوجميل قد استيقظ للتو ولم يكن قد تناول فطوره بعد. صنعت له كوباً من الشاي لم يستطع أن ينهيه، ثم أخذوه معهم، وفكوا عنا الحصار». تم تركيب التوصيلات الكهربائية للهاتف والتلفزيون، فسارعت أم جميل لتتصل بأختها وتقول وهي ترتجف: «فكوا عنا الحصار ولكنهم أخذوا أبا جميل». عن تلك اللحظات تقول: «بدأ الناس يتوافدون إلى منزلنا زرافاتٍ ووحدانَ قبل أن يخرج الشرطة من المنزل، ولكني أصبت بحالة غير طبيعية من الاكتئاب والحزن لم أعرف لها سبباً، ربما كانت لأني كنت أحاول الصمود طوال الأيام الخمسة عشرة التي حوصرنا فيها لأشجع أبا جميل وأداريه وأرفه عن نفسيته، فجمعت حزن الدنيا كله في قلبي فخرج كله في تلك اللحظة. صرت أبكي بحرقة وأنا مرتجفة، تذكرت من سُجن من الأبناء ومن تشرد منهم، وما حل بأبي جميل، وأبكي... لم نعرف أين سجنوه إلى أن أطلق سراحه لاحقاً».
قصص ما قبل الرحيل...
«تمنيت لو لم يعاني الشيخ ما عاناه قبل رحيله، فهل كان عليه أن يتكبد كل تلك المشقة قبل أن يرحل؟»... بحسرة قالتها أم جميل، مختلطةً بنبرة الرضا بما حل من قضاء الله سبحانه وقدره. عادت أم جميل بذاكرتها إلى الوراء تستذكر تلك الأيام الباردة في ألمانياً، والتي حفرت عميقاً في حياتها بالكامل، تقول: «كنت معه وحيدةً في ألمانياً عندما ذهبنا للعلاج. كان يتحدث كثيراً في تلك الفترة، لم أجد أبا جميل محباً للحديث كتلك الأيام، كان يحدثني في موضوعات شتى، لم يبقِ موضوعاً إلا وتحدث عنه، حتى ذكرياته في العراق وما شاهده أخذ حيزاً كبيراً من أحاديثه، كنت أستغرب كيف احتفظ في ذاكرته بكل تلك الأحاديث، ولم أكن أعلم أنه كان يودع الدنيا بها».
ويفتح حديث ألمانيا شجوناً لدى أم جميل فتقول: «مازلت أتذكر يوم عمليته في ألمانيا، استيقظ صباحاً وكان يريد أن يقوم للصلاة، ولكن الممرضة دخلت لتعطيه الإبرة، رفض أن يأخذها لأنه يعرف أنه لن يتمكن من الصلاة بعدها، غير أني أجبرته على أخذها قائلةً: إن الوقت لابد سيسعفه للصلاة قبل مفعول الإبرة. كان محقاً... فقد تخدر تماماً بعد الإبرة ولم يعد قادراً على الحركة، بدأ يلومني على إقناعي له بأخذ الإبرة، حاولت أن أطمأنه ودفعته للنوم حتى يستيقظ لاحقاً للصلاة. ولكنه لم يستيقظ. حاولت إيقاظه ولكنه لم يتمكن من النهوض. مازلت أتذكر ذلك اليوم كثيراً... كان متعباً جداً ووجلاً من العملية. قال لي: (انذري علي، أنا وجل جداً من العملية)، رددت عليه قائلة: (إن شاء الله). ارتدى ملابس العملية بعدها، وبالكاد صلى صلاة الصبح، ثم ساقوه لغرفة العمليات».
وحيدة، غريبة، خائفة وقلقة... هكذا كانت أم جميل طوال الساعات التي استغرقها مبضع الجراح في جسد أبي جميل داخل غرفة العمليات. تقول: «كنت أظن الأمر بسيطاً، ولكن الوقت تأخر من دون أن يخبروني بالنتيجة، اتصلت بشخص عراقي في السفارة ليساعدني على التفاهم معهم فقد قلقت لتأخره في العملية، وبعد ساعات أخذني إليه، كان قد خرج من العملية ولكنه كان بحالة صعبة جداً. كانت الممرضة هناك تسألني هل اسمك: زهراء، فأجبتها بنعم، فقالت إنه كان ينادي باسمك طوال الوقت منذ أن استيقظ. جلست بقربه وكان يمسك يديّ طوال الوقت، لم يكن الأطباء يقبلون ببقائي هناك طويلاً فكانوا يخرجونني عندما يغفو، ولا يلبث أن يستيقظ ليصرخ منادياً باسمي؛ لكي أبقى بقربه».
كانت أم جميل أول من تنبأ بالجلطة التي أصيب بها الشيخ الجمري، حتى قبل أن يتنبأ بها الأطباء، شعرت بأن حديثه غير واضح، فطلبت من ابنها الذي وصل إلى ألمانيا آنذاك أن يشرح الأمر للطبيب، واستجابةً لذلك أخذه الأطباء لبعض الفحوصات والأشعة، التي تبيّنوا بعدها أنه أصيب بجلطة في النطق، عن تلك اللحظة تقول أم جميل: «كنت أنتظر الرد بفارغ الصبر، حتى جاءني طبيب عربي يخبرني أن ما توقعته صحيح، وأنه أصيب بجلطة في النطق. في تلك اللحظة حل بي اليأس تماماً، وشعرت بأنه مفارق لا محالة، وأن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر».
تحسن الشيخ الجمري بعد هذه العملية، وخصوصاً أثناء فترة بقائه في المصحة في المملكة العربية السعودية، وتحسن أكثر عندما عاد أخيراً إلى منزله بعد رحلة عناء طويلة مع المرض، تقول أم جميل: «كان يجلس معنا ويتحدث، ويتابع ما نقرأه له من أدعية، كان قادراً على قراءة العناوين الكبيرة في الصحف، بل إنه التقى كثيراً من الوفود التي زارته في المنزل، وألقى خطبة لبعضها، حتى أصيب بجلطة أخرى».
مرة أخرى كانت أم جميل أول من تنبأ بما حل بشريك حياتها ورفيق دربها قبل أن يشخص الأطباء حالته، كان الجميع ينكر إمكان أن يصاب بجلطة أخرى، بَيْد أنها وحدها شعرت بما حل به، وأكد الطبيب ما قالته لاحقاً، ليدخل الشيخ الجمري في مرحلة أصعب من المرض لم يتحسن منها حتى رحيله.
مشروعات لتخليد الذكرى
بناء قبر الشيخ الجمري، إنشاء مكتبة شاملة لمؤلفات الشيخ، جمع مؤلفاته ومحاضراته ومخطوطاته وأشعاره وطباعتها... كلها مشروعات فكر فيها كثيرون وعلى رأسهم أفراد عائلة الشيخ الجمري، واتخذت فيها بعض الخطوات، غير أنها لم تأخذ حيز التنفيذ بعدُ. ولعل أم جميل من أول الحريصين على تنفيذ هذه المشروعات لعلمها بأهميتها في تخليد ذكرى رفيق دربها الراحل. تقول: «مازلنا نحاول أن ننهي موضوع بناء قبر الشيخ بعد أن واجهتنا عدة مشكلات، في البداية قيل لنا إنه لا يجوز البناء على القبر؛ لأن الناس تأتي لتصلي في المقبرة، ثم أخذنا إجازة من مراجع الدين الذين أكدوا أن لا بأس في ذلك محددين المساحة الملائمة، ورفض البعض وضع منارات على القبر حتى لا يتحول إلى مزار، على حين قال البعض إن الجميع سيود بناء القبور القريبة لو قررنا البناء. لقد واجه هذا الموضوع عراقيلَ كثيرةً ومعارضةً من قِبل البعض ولا نعرف لماذا، ولكننا الآن في مرحلة وضع الخريطة النهائية وتجهيزها، وخصوصاً أن الأمر أصبح بالفعل ملحاً فقد اشتعلت الأقمشة القريبة من القبر مرتين من قبلُ؛ بسبب إشعال بعض الشموع؛ ولذلك أصبح البناء ضرورةً ملحةً».
ولا يقل مشروع مكتبة الشيخ أهميةً عن موضوع بناء القبر، غير أنها تختلف قليلاً في أن لا خطوات جادةً تمت بشأنها فعلاً، تقول أم جميل: «لاتزال مخطوطات الشيخ محفوظةً، وقد أخذ كل ابن من أبناء الشيخ بعضاً منها ليقوم كلٌّ منهم بجمعها، كما أخذ أحد طلبة الشيخ بعضاً من دفاتره ليصفّ المحاضرات على جهاز الحاسوب، ولكني لم أجد شيئاً قد تم جمعه حتى الآن من كل ذلك».
وتضيف «هناك الكثير من المخطوطات، إلى جانب الكتب والمؤلفات المعروفة له، والمحاضرات الصوتية والكتابية، وقد قمت بنقل مكتبته بكامل محتوياتها إلى داخل غرفته حتى أضمن ألا تتشتت محتوياتها. أعرف ضرورة جمع كتبه ومؤلفاته ومخطوطاته لتخليد ذكراه، ناهيك عن القصائد التي كان ينظمها في فترات مرضه والتي كنا ندونها له باستمرار. كل ذلك يحتاج فعلاً إلى وقت لجمعه وترتيبه».
قائد ورمز
«أحببت دفاعه عن المستضعفين، ووقفت بجانبه في كل ذلك، ولكني تمنيت لو لم يتعذب كل هذا العذاب في حياته... أكثر ما يحزنني هو وفاته من دون أن يشاهد عصر الانفتاح السياسي في البحرين. تمنيت لو كان موجوداً بيننا ليرى جني ثمر ما زرعه من بذور».
على رغم بساطة كلماتها وعفويتها، ضربت أم جميل على جروح حساسة تعاني منها الساحة السياسية بعد رحيل الشيخ الجمري، تقول: «لو كان الشيخ موجوداً بيننا اليوم لكانت كثير من الأمور مختلفة، أشعر أن الناس ضائعون لا يجدون من يحسم لهم موقفهم، أشعر أن الشارع مشتت، وطالما أتذكر أبا جميل وأقول: إنه لو كان هنا لما رضي بهذا الوضع، تفرق الناس في كل شيء هذه الأيام حتى في تحديد هلال العيد، وكان أبوجميل يرفض أي تشتت أو فرقة. كان يصر على القيادات الدينية أن تحدد مواقفها وتتوحد بقرار تجمع عليه للناس، هذا ما فعله في قرار التصويت على ميثاق العمل الوطني، وهذا ما فعله في كثير من مواقفه. كثيرون يخبرونني بأنهم لم يجدوا بديلاً للجمري بعد رحيله، وأن لا رمز في الساحة يمكن أن يحل محله، وأعرف أنهم صائبون، أعرفه لأني أعرف الشيخ الجمري تماماً، أعرف جرأته وشجاعته، وأعرف أنه لم يكن يستطيع أن يمسك لسانه عن قول الحق. لطالما أوصيته أن يمسك لسانه في خطبه، ولكنه كان يرفض تحذيري، كنت أطلب أن أقرأ خطبه قبل أن يلقيها، فيعطيني الورقة التي لا تحوي على كل شيء سيقوله، وكنت أعرف أنه لم يلتزم قط ما كتبه في الورقة، وأن حماسة المنبر تأخذ بلسانه الى الموضوعات الحساسة، لسانه الذي جرّ عليه كل ما عاناه من عذابات».
هل تعبت معه يا أم جميل؟ تجيب: «كنت أشعر بأن واجبي أن أقف إلى جانبه، وكنت أقدّر كل ما يقوم به من أجل الناس. ولذلك كنت غالباً ما أصر على البقاء معه وأرفض السفر على رغم أنه كان يدفعني إليه دفعاً. كنت أشعر بأنه يقوم بدور لا يمكن أن يقوم به غيره. ولكنه رحل الآن وتركني... ولا شك في أنه ارتاح من أضداده، حتى من أقرب الأقربين».
خاتمة
عامٌ كاملٌ مضى على رحيل الشيخ الجمري، والساحة السياسية تضج بحوادثَ جسام، والتغيير الحاصل في تركيبة المجتمع فكرياً وسياسياً ودينياً لا يستهان به، تبدلت مراكز القوى، وتغيرت المواقف والنفوس. وحدها أم جميل بقيت هناك، في منزلها في بني جمرة، تتنفس ذكرى الشيخ وتعيش على ذلك الإرث الضخم من المحبة والألم والشجن... والذكريات.
أم جميل: تمنيته معنا ليقطف الثمار التي زرعها
بني جمرة - ندى الوادي
عامٌ كاملٌ مضى على رحيله، ولكنها لاتزال تسمع صوته، وتحتفظ في قلبها بذكراه. كلما سمعت عن البرلمان، أو مطالب الشعب، أو مكتسبات العهد الإصلاحي، تذكرت رحلته الطويلة مع العذاب، وجرأته في الدفاع عن الناس، كلما سمعت عن شيخ يؤم الناس في صلاة هادئة رزينة خاشعة، التقطت أذناها ذبذبات بعيدة/ قريبة من قلبها لصوته الرخيم وحكمته البالغة. وكلما راقبت تشتت الناس وفرقتهم، ظهرت أمام عينيها صورته الحازمة الحنونة، وهو يحث كعادته على الوحدة ويأبى على الناس الفرقة.
رحل الشيخ الجمري عن هذه الدنيا منذ عام، ولكنه لايزال باقياً في دنياها، دنيا رفيقة دربه أم جميل... تلك الدنيا البسيطة العفوية، يطغى بحضوره على أبسط التفاصيل حتى الصغيرة منها في حياتها.
تستيقظ من النوم باكراً كعادتها كل يوم، فتتذكر كيف كانت تحييه صباحاً: «صبحك الله بالخير أبا جميل» ، وكيف كان يرد عليها برقته المعتادة: «صبحك الله بالخير حبيبتي»... تفتح خزانة الملابس لتجد ملابسه مختلطة بملابسها، وعمامته ملفوفة كما تركها تماماً. تجهز الفطور لأهل المنزل، فتسترجع اليوم الذي لم يتمكن أن ينهي فطوره فيه قبل اعتقاله. تتجه إلى المسجد القريب من منزلها، والذي لم يكن يتخلف عن أية صلاة فيه، فتتذكر إمامته الناسَ في الصلاة، وتتذكر أيامه الأخيرة التي قضاها في المنزل مريضاً حين انقطعت عن زيارة المسجد لجلوسها بقربه.
ولكن أم جميل راضية بالقضاء، فوضت أمرها لله وهي تعرف أن بعد كل اجتماع فرقة، وأن هذا هو قدرها، فرحيل أبي جميل قدر لا يمكن أن تعترض عليه، وما مر عليه في حياته قدرٌ آخرُ لم يكن بالإمكان الاعتراض عليه أيضاً، وبَيْد أنها تنظر بألم إلى شريط الذكريات، وتسترجع ما عاشه في حياته، وتتمنى لو لم يكن قد عانى كل تلك المعاناة، قبل أن يرحل.
قوية جلدة...
انعكس كل ما مرت به أم جميل من حوادث في حياتها على شخصيتها، فطبعها بطابع القوة والجلد. كل من حولها يعرف أنها صبورة، لا تنزعج أو تقلق بسرعة، فقد تعودت على الخوف والمعاناة حتى على... الموت، فصارت قادرةً على مقاومة أي شيء كان، ولكن شيئاً واحداً لم تتمكن من مقاومته أو الصمود في وجهه، كان ذاك لحظة اكتشفت رحيل رفيق دربها أبوجميل عنها. تقول: «في ذلك اليوم لم أستطع السيطرة على نفسي ولا أعرف لماذا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها الأموات، فقد تعودت هذه المواقف، ولكني عندما اكتشفت وفاته لم أتمكن من استجماع قوتي، انهرت وفقدت القدرة حتى على الرؤية، لم أتمكن حتى من رؤية الأرقام لكي أتصل بأبنائي بالهاتف. شعرت بنفسي سأموت، وابتعدت عن السرير لأجلس على الكرسي، كنت أحاول أن أجبر نفسي على أن أستفيق لأتصل، لم أكن أستوعب بعد أني غير قادرة على النظر. لم أبكِ، ولكني كنت أرتجف, عرفت أن ضغط دمي ارتفع كثيراً. أخذوني بعدها إلى المستشفى وحقنوني بإبرة مهدئ لم أتمكن معها من الحركة، كنت في منزل أختي عندما استيقظت فجراً بعد أن انتهى كل شيء، كان قد غسلوه ودفنوه، أما أنا فعدت إلى منزلي، وشعرت به خالياً موحشاً من دون أبي جميل».
بعد الرحيل...
رحل الشيخ إذاًَ، ولكنه لم يرحل من ذاكرة أم جميل، فذكراه حاضرة معها في كل لحظة، تقول: «لم أتمكن من احتمال الحزن في البداية بعد فراقه، وخصوصاً أن شهر محرم الحرام جاء سريعاً وكان يذكّرني به كثيراً، وكلما كنت أستمع إلى القراءة في شهر محرم، كنت أبكي أبا جميل، كنت عندما أشاهد مكتبه أو الجامع خالياً أتذكره، وكلما مررت بالقرب من خزانة الملابس، أخرجت أوراقه التي كان يحتفظ بها في جيوب ملابسه؛ لأقرأ بعضاً من مذكراته وأتذكره. أما الناس فلم ينسوه أبداً، لايزالون يزورونني ويواسونني ويذكّروني به. أشعر بالفخر عندما يقولون إنهم لم يجدوا شبيهاً له أو بديلاً بعد. وكأني به لامس حياتهم بقوة مثلما لامس حياتي فأصبح مسيطراً عليها حتى بعد رحيله، حتى صرت أقوم بما كنت أقوم به نفسه أيام كان بيننا، حتى في أدق تفاصيل يومي».
الحصار
تخيل نفسك تعيش محصوراً بين جدران منزلك لفترة تتجاوز أسبوعين، يمنع عليك الخروج، أو الاطلاع على أي مما يجري خارج عالمك! تخيل أن تسحب منك جميع أجهزة التلفزيون والراديو التي تربطك بالعالم الخارجي، ويمنع عنك أن تلتقي أحداً أو تخرج من دائرة تلك الجدران المحيطة بك. ويمنع عنك أن تفعل ما تحب، أو تأكل ما تحب، أو تتصرف بما تحب. وفوق ذلك كله، لا تتمتع حتى بوحدتك في سجنك «المفتعل» ذاك، فأنت محمّل بمسئولية 18 فرداً يشاركونك «سجنك» ذاك، أكثرهم من الأطفال.
تبدو تلك تجربةً خياليةً تصلح لفيلم سينمائي درامي، غير أن أم جميل عاشتها في واقع الأمر، وحُفِرت في ذاكرتها عميقاً، حتى صار بدنها يقشعر كلما تذكرتها. تقول: «كانت مرحلة الحصار الذي فُرِض علينا في المنزل من أكثر المراحل التي مررت بها مرارةً، كنا لوحدنا ليس معنا من يقوم بأمورنا غير ابني صادق، ولا أعرف لماذا تجمع أبنائي وأحفادي في ذلك اليوم في منزلنا بالمصادفة، كان بعضهم لا يداوم على الحضور، غير أنهم كانوا جميعاً في المنزل عندما تعرضنا للهجوم المباغت الذي أعقبه الحصار. ولم يوافق الشرطة الذين حاصروا منزلنا على خروج أيٍّ من الموجودين في الداخل، حتى أختي التي كانت تزورنا بالمصادفة وتسكن قريباً من منزلنا. بقينا جميعاً في المنزل نشعر بالاختناق، كنا 19 فرداً غالبيتنا نساء وأطفال، كنا نشعر بأننا في سجن حقيقي، فقد كان الشرطة يحاصرون كل المداخل والمخارج حتى سطح المنزل، وأعتقد أن عددهم فاق الخمسين. وقمنا بتعليق البطانيات على النوافذ حتى نحافظ على خصوصيتنا على الأقل في قاعة المنزل، فغرق المنزل في الظلام. لم تكن لدينا أية وسيلة للتسلية وكانت السيطرة على الأطفال في هذا الوضع شبه مستحيلة، إذ لم تكن شقاوتهم محتملة. كان ابني صادق يضطر أحياناً لحمل بعض الأطفال لردهة باب المنزل علهم يهدأون، وكان هذا الأمر مدعاة لرفض الشرطة الذين انزعجوا من شقاوة الأطفال، فقد كان الصبية منهم يتسلقون سور المنزل ويقفزون خارجه، فكان الشرطة يركضون خلفهم ليمسكوا بهم، ويهددونهم بوضع الأصفاد في أيديهم، غير أن الوضع لم يكن يمكن السيطرة عليه في تلك الفترة».
19 مجرماً
لم تكن مشكلة التعامل مع «شقاوة الأطفال» هي الوحيدة التي واجهت أهل المنزل المحاصر، فالأكل كان مشكلة أخرى أكثر أهميةً، تقول أم جميل: «كانوا يحضرون الوجبات الثلاث لنا في صناديق كرتونية كتب عليها 19 مجرماً. مازلت أتذكر هذه العبارة على الصندوق. ولكن الأدهى أننا لم نكن قادرين على تناول هذا الطعام، فقد كان فعلاً أكل مساجين، وكان الأطفال بالذات معتادين على نمط معين من الأكل لم يكن بالإمكان إجبارهم على غيره».
تستطرد أم جميل مستذكرة: «حاولنا التفاوض مع الشرطة بهذا الشأن، أخبرناهم أننا سنعطيهم نقوداً على أن يشتروا لنا قائمة بما نحتاج إليه حتى نطبخ بأنفسنا ما نريد، وبصعوبة قبلوا بالأمر في وقت لاحق».
بدائل عملية للاتصال بالخارج
كان الاتصال بالخارج والتعرف إلى ما يحدث فيه من أصعب ما واجه المحاصرين في ذاك المنزل، إذ لم يكن أيٌّ منهم يعرف ما يجري في الخارج. غير أن البدائل لهذا الاتصال كانت - على رغم صعوبة الظروف - موجودةً ومنطقيةً.
تقول أم جميل: «جاءت إلى منزلنا إحدى الجارات يوماً بحجة إحضارها بعض الحاجيات، كانت تخاطبهم بصوت عالٍ وتصرخ وكنا نصغي بدقة لما تقوله، كانت تخبرنا بما جرى للقرية أثناء حصارنا في تلك الأيام».
أما البديل «الأكثر فعاليةً» لسماع أخبار الدنيا فكان «اكتشافاً» خطيراً لأهل المنزل، الذين عثروا على جهاز تلفزيون وراديو صغير قديم لم تنتبه الشرطة لوجوده فلم تصادره، وكان هذا الجهاز «كالكنز» على رغم صعوبة أن يلتقط أياً من الذبذبات الإذاعية والتلفزيونية. عن ذلك تحكي أم جميل بقولها: «كنا نبحث عن قناة لندن بفارغ الصبر، وبذلنا مجهودات كبيرة في محاولتنا تلك. كانت ابنتي عفاف تجلس وتغطي نفسها ببطانية ثقيلة حتى لا يخرج أي صوت من الجهاز، وتبدأ تحريك مؤشره علها تلتقط شيئاً يعرّفها بما يجري في الخارج. وكان لها ما أرادت في أحد الأيام، إذ تمكنت من التقاط موجة إذاعة لندن، لتستمع إلى أخيها منصور يتحدث عن الوضع في البحرين، طارت هي من الفرحة وطرنا معها. وعلى رغم أنها لم تتمكن من التقاط الصوت بشكل واضح، غير أنها استطاعت سماع بعض الأخبار على الأقل»!
الابنة الوسطى منصورة كانت وسيلة اتصال أخرى للعائلة المحاصرة بالخارج من دون قصدها، إذ أصيبت بوعكة صحية؛ لأنها وضعت للتو مولوداً جديداً بعملية قيصرية، هنا بدأت المفاوضات لإخراجها من ذلك الحصار بدعوى وضعها الصحي. تقول أم جميل: «تفاوض ابني صادق مع الشرطة كثيراً على إخراجها؛ نظراً إلى وضعها الصحي الحرج، فما كان منهم في البداية إلا أن اتجهوا إلى المستشفى ليحضروا الطبيبة لتكشف عليها. جاءتنا الطبيبة مرعوبة، ثم أعلنت أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً في المنزل فمن الضروري نقلها إلى المستشفى. كان الأمر صعباً عليّ وعلى أبي جميل أن نراها خارجةً وخلفها المدرعات وسيارات الشرطة من منزلنا حتى المستشفى. استطاعت منصورة الاتصال بخالتها في المستشفى لتحضر لها بعض الحاجيات، وبعد يومين تماثلت للشفاء فطلبت أن تعود إلى المنزل لتحضر بعض حاجياتها، وكان هدفها أن تطلعنا على بعض الأخبار من الخارج. جاءت على عجل وكان الشرطة خلفها، منعوني من الاقتراب منها غير أنني أصررت، احتضنتها فهمست في أذني ببعض المعلومات، قبل أن تخرج بسرعة».
لم تغفل أم جميل في حديثها الأعباء الكبيرة التي حملها ابنها محمد حسين الذي كان له دور كبير جداً في مساندتها طوال سنوات المحنة، إذ إنه كان في واجهة الحدث، وخصوصاً أثناء المفاوضات مع نقاط التفتيش المحاصرة للمنزل، ناهيك عن أنه كان يتحمّل المشقة لرعاية شئون الأسرة في جميع الأوقات الحرجة، وخصوصاً بعد اعتقال الشيخ الجمري، إذ كان يتابع بنفسه تنسيق المقابلات ويأخذ الأسرة إليها، ويتابع توصيل الأطفال إلى المدارس وغيرها من أعباء تحمّلها وحده فترةً طويلةً.
فكوا الحصار... وأخذوا الشيخ
بقي جميع سكان ذلك المنزل المحاصر في قلق مستمر، يتساءلون جميعهم إلى متى يستمر الأمر؟ وجاءت خيبة أملهم على دفعات. ففي أحد الأيام جاءهم قرار من الشرطة بإمكان خروج من يريد من المنزل المحاصر ما عدا الشيخ وزوجته. بدأ الجميع يجهز أغراضه للخروج، بل إن أخت أم جميل خرجت فعلاً فأغراضها كانت جاهزةً، غير أن الوقت لم يمهلهم حتى جاء أمر آخر يمنعهم من الخروج ويجبرهم على البقاء.
بعد أيام بدأت الهجمة على المنزل المحاصر صباحاً، تستذكر أم جميل هذا اليوم بدقة كأنه البارحة: «كان أبوجميل قد استيقظ للتو ولم يكن قد تناول فطوره بعد. صنعت له كوباً من الشاي لم يستطع أن ينهيه، ثم أخذوه معهم، وفكوا عنا الحصار». تم تركيب التوصيلات الكهربائية للهاتف والتلفزيون، فسارعت أم جميل لتتصل بأختها وتقول وهي ترتجف: «فكوا عنا الحصار ولكنهم أخذوا أبا جميل». عن تلك اللحظات تقول: «بدأ الناس يتوافدون إلى منزلنا زرافاتٍ ووحدانَ قبل أن يخرج الشرطة من المنزل، ولكني أصبت بحالة غير طبيعية من الاكتئاب والحزن لم أعرف لها سبباً، ربما كانت لأني كنت أحاول الصمود طوال الأيام الخمسة عشرة التي حوصرنا فيها لأشجع أبا جميل وأداريه وأرفه عن نفسيته، فجمعت حزن الدنيا كله في قلبي فخرج كله في تلك اللحظة. صرت أبكي بحرقة وأنا مرتجفة، تذكرت من سُجن من الأبناء ومن تشرد منهم، وما حل بأبي جميل، وأبكي... لم نعرف أين سجنوه إلى أن أطلق سراحه لاحقاً».
قصص ما قبل الرحيل...
«تمنيت لو لم يعاني الشيخ ما عاناه قبل رحيله، فهل كان عليه أن يتكبد كل تلك المشقة قبل أن يرحل؟»... بحسرة قالتها أم جميل، مختلطةً بنبرة الرضا بما حل من قضاء الله سبحانه وقدره. عادت أم جميل بذاكرتها إلى الوراء تستذكر تلك الأيام الباردة في ألمانياً، والتي حفرت عميقاً في حياتها بالكامل، تقول: «كنت معه وحيدةً في ألمانياً عندما ذهبنا للعلاج. كان يتحدث كثيراً في تلك الفترة، لم أجد أبا جميل محباً للحديث كتلك الأيام، كان يحدثني في موضوعات شتى، لم يبقِ موضوعاً إلا وتحدث عنه، حتى ذكرياته في العراق وما شاهده أخذ حيزاً كبيراً من أحاديثه، كنت أستغرب كيف احتفظ في ذاكرته بكل تلك الأحاديث، ولم أكن أعلم أنه كان يودع الدنيا بها».
ويفتح حديث ألمانيا شجوناً لدى أم جميل فتقول: «مازلت أتذكر يوم عمليته في ألمانيا، استيقظ صباحاً وكان يريد أن يقوم للصلاة، ولكن الممرضة دخلت لتعطيه الإبرة، رفض أن يأخذها لأنه يعرف أنه لن يتمكن من الصلاة بعدها، غير أني أجبرته على أخذها قائلةً: إن الوقت لابد سيسعفه للصلاة قبل مفعول الإبرة. كان محقاً... فقد تخدر تماماً بعد الإبرة ولم يعد قادراً على الحركة، بدأ يلومني على إقناعي له بأخذ الإبرة، حاولت أن أطمأنه ودفعته للنوم حتى يستيقظ لاحقاً للصلاة. ولكنه لم يستيقظ. حاولت إيقاظه ولكنه لم يتمكن من النهوض. مازلت أتذكر ذلك اليوم كثيراً... كان متعباً جداً ووجلاً من العملية. قال لي: (انذري علي، أنا وجل جداً من العملية)، رددت عليه قائلة: (إن شاء الله). ارتدى ملابس العملية بعدها، وبالكاد صلى صلاة الصبح، ثم ساقوه لغرفة العمليات».
وحيدة، غريبة، خائفة وقلقة... هكذا كانت أم جميل طوال الساعات التي استغرقها مبضع الجراح في جسد أبي جميل داخل غرفة العمليات. تقول: «كنت أظن الأمر بسيطاً، ولكن الوقت تأخر من دون أن يخبروني بالنتيجة، اتصلت بشخص عراقي في السفارة ليساعدني على التفاهم معهم فقد قلقت لتأخره في العملية، وبعد ساعات أخذني إليه، كان قد خرج من العملية ولكنه كان بحالة صعبة جداً. كانت الممرضة هناك تسألني هل اسمك: زهراء، فأجبتها بنعم، فقالت إنه كان ينادي باسمك طوال الوقت منذ أن استيقظ. جلست بقربه وكان يمسك يديّ طوال الوقت، لم يكن الأطباء يقبلون ببقائي هناك طويلاً فكانوا يخرجونني عندما يغفو، ولا يلبث أن يستيقظ ليصرخ منادياً باسمي؛ لكي أبقى بقربه».
كانت أم جميل أول من تنبأ بالجلطة التي أصيب بها الشيخ الجمري، حتى قبل أن يتنبأ بها الأطباء، شعرت بأن حديثه غير واضح، فطلبت من ابنها الذي وصل إلى ألمانيا آنذاك أن يشرح الأمر للطبيب، واستجابةً لذلك أخذه الأطباء لبعض الفحوصات والأشعة، التي تبيّنوا بعدها أنه أصيب بجلطة في النطق، عن تلك اللحظة تقول أم جميل: «كنت أنتظر الرد بفارغ الصبر، حتى جاءني طبيب عربي يخبرني أن ما توقعته صحيح، وأنه أصيب بجلطة في النطق. في تلك اللحظة حل بي اليأس تماماً، وشعرت بأنه مفارق لا محالة، وأن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر».
تحسن الشيخ الجمري بعد هذه العملية، وخصوصاً أثناء فترة بقائه في المصحة في المملكة العربية السعودية، وتحسن أكثر عندما عاد أخيراً إلى منزله بعد رحلة عناء طويلة مع المرض، تقول أم جميل: «كان يجلس معنا ويتحدث، ويتابع ما نقرأه له من أدعية، كان قادراً على قراءة العناوين الكبيرة في الصحف، بل إنه التقى كثيراً من الوفود التي زارته في المنزل، وألقى خطبة لبعضها، حتى أصيب بجلطة أخرى».
مرة أخرى كانت أم جميل أول من تنبأ بما حل بشريك حياتها ورفيق دربها قبل أن يشخص الأطباء حالته، كان الجميع ينكر إمكان أن يصاب بجلطة أخرى، بَيْد أنها وحدها شعرت بما حل به، وأكد الطبيب ما قالته لاحقاً، ليدخل الشيخ الجمري في مرحلة أصعب من المرض لم يتحسن منها حتى رحيله.
مشروعات لتخليد الذكرى
بناء قبر الشيخ الجمري، إنشاء مكتبة شاملة لمؤلفات الشيخ، جمع مؤلفاته ومحاضراته ومخطوطاته وأشعاره وطباعتها... كلها مشروعات فكر فيها كثيرون وعلى رأسهم أفراد عائلة الشيخ الجمري، واتخذت فيها بعض الخطوات، غير أنها لم تأخذ حيز التنفيذ بعدُ. ولعل أم جميل من أول الحريصين على تنفيذ هذه المشروعات لعلمها بأهميتها في تخليد ذكرى رفيق دربها الراحل. تقول: «مازلنا نحاول أن ننهي موضوع بناء قبر الشيخ بعد أن واجهتنا عدة مشكلات، في البداية قيل لنا إنه لا يجوز البناء على القبر؛ لأن الناس تأتي لتصلي في المقبرة، ثم أخذنا إجازة من مراجع الدين الذين أكدوا أن لا بأس في ذلك محددين المساحة الملائمة، ورفض البعض وضع منارات على القبر حتى لا يتحول إلى مزار، على حين قال البعض إن الجميع سيود بناء القبور القريبة لو قررنا البناء. لقد واجه هذا الموضوع عراقيلَ كثيرةً ومعارضةً من قِبل البعض ولا نعرف لماذا، ولكننا الآن في مرحلة وضع الخريطة النهائية وتجهيزها، وخصوصاً أن الأمر أصبح بالفعل ملحاً فقد اشتعلت الأقمشة القريبة من القبر مرتين من قبلُ؛ بسبب إشعال بعض الشموع؛ ولذلك أصبح البناء ضرورةً ملحةً».
ولا يقل مشروع مكتبة الشيخ أهميةً عن موضوع بناء القبر، غير أنها تختلف قليلاً في أن لا خطوات جادةً تمت بشأنها فعلاً، تقول أم جميل: «لاتزال مخطوطات الشيخ محفوظةً، وقد أخذ كل ابن من أبناء الشيخ بعضاً منها ليقوم كلٌّ منهم بجمعها، كما أخذ أحد طلبة الشيخ بعضاً من دفاتره ليصفّ المحاضرات على جهاز الحاسوب، ولكني لم أجد شيئاً قد تم جمعه حتى الآن من كل ذلك».
وتضيف «هناك الكثير من المخطوطات، إلى جانب الكتب والمؤلفات المعروفة له، والمحاضرات الصوتية والكتابية، وقد قمت بنقل مكتبته بكامل محتوياتها إلى داخل غرفته حتى أضمن ألا تتشتت محتوياتها. أعرف ضرورة جمع كتبه ومؤلفاته ومخطوطاته لتخليد ذكراه، ناهيك عن القصائد التي كان ينظمها في فترات مرضه والتي كنا ندونها له باستمرار. كل ذلك يحتاج فعلاً إلى وقت لجمعه وترتيبه».
قائد ورمز
«أحببت دفاعه عن المستضعفين، ووقفت بجانبه في كل ذلك، ولكني تمنيت لو لم يتعذب كل هذا العذاب في حياته... أكثر ما يحزنني هو وفاته من دون أن يشاهد عصر الانفتاح السياسي في البحرين. تمنيت لو كان موجوداً بيننا ليرى جني ثمر ما زرعه من بذور».
على رغم بساطة كلماتها وعفويتها، ضربت أم جميل على جروح حساسة تعاني منها الساحة السياسية بعد رحيل الشيخ الجمري، تقول: «لو كان الشيخ موجوداً بيننا اليوم لكانت كثير من الأمور مختلفة، أشعر أن الناس ضائعون لا يجدون من يحسم لهم موقفهم، أشعر أن الشارع مشتت، وطالما أتذكر أبا جميل وأقول: إنه لو كان هنا لما رضي بهذا الوضع، تفرق الناس في كل شيء هذه الأيام حتى في تحديد هلال العيد، وكان أبوجميل يرفض أي تشتت أو فرقة. كان يصر على القيادات الدينية أن تحدد مواقفها وتتوحد بقرار تجمع عليه للناس، هذا ما فعله في قرار التصويت على ميثاق العمل الوطني، وهذا ما فعله في كثير من مواقفه. كثيرون يخبرونني بأنهم لم يجدوا بديلاً للجمري بعد رحيله، وأن لا رمز في الساحة يمكن أن يحل محله، وأعرف أنهم صائبون، أعرفه لأني أعرف الشيخ الجمري تماماً، أعرف جرأته وشجاعته، وأعرف أنه لم يكن يستطيع أن يمسك لسانه عن قول الحق. لطالما أوصيته أن يمسك لسانه في خطبه، ولكنه كان يرفض تحذيري، كنت أطلب أن أقرأ خطبه قبل أن يلقيها، فيعطيني الورقة التي لا تحوي على كل شيء سيقوله، وكنت أعرف أنه لم يلتزم قط ما كتبه في الورقة، وأن حماسة المنبر تأخذ بلسانه الى الموضوعات الحساسة، لسانه الذي جرّ عليه كل ما عاناه من عذابات».
هل تعبت معه يا أم جميل؟ تجيب: «كنت أشعر بأن واجبي أن أقف إلى جانبه، وكنت أقدّر كل ما يقوم به من أجل الناس. ولذلك كنت غالباً ما أصر على البقاء معه وأرفض السفر على رغم أنه كان يدفعني إليه دفعاً. كنت أشعر بأنه يقوم بدور لا يمكن أن يقوم به غيره. ولكنه رحل الآن وتركني... ولا شك في أنه ارتاح من أضداده، حتى من أقرب الأقربين».
خاتمة
عامٌ كاملٌ مضى على رحيل الشيخ الجمري، والساحة السياسية تضج بحوادثَ جسام، والتغيير الحاصل في تركيبة المجتمع فكرياً وسياسياً ودينياً لا يستهان به، تبدلت مراكز القوى، وتغيرت المواقف والنفوس. وحدها أم جميل بقيت هناك، في منزلها في بني جمرة، تتنفس ذكرى الشيخ وتعيش على ذلك الإرث الضخم من المحبة والألم والشجن... والذكريات.
Subscribe to:
Posts (Atom)