Sunday, November 16, 2008

اقرأ الحلقة السادسة من ملف "تسعينات البحرين" (2):قصة «المبادرة» والحوار بين المعارضة والحكومة في البحرين (أغسطس 1995 - يناير 1996) كما كتبها منصور الجمري في العام 1996






في منتصف أغسطس/آب 1995 انهالت علينا التقارير من داخل البحرين تتحدث عن إطلاق عدد من الرموز القيادية في التحرك الشعبي المطالب بعودة الحياة الدستورية للبلاد. وما هي الا فترة وجيزة حتى اتصل حسن مشيمع ـ احد القياديين الذين أفرج عنهم ـ بنا في لندن يعلمنا انه عازم على السفر إلى الخارج لتبادل وجهات النظر حول المحادثات التي بدأت في السجن بين القيادة الأمنية (ممثلة في المدير العام ايان هندرسون، ووزير الداخلية) وبين خمسة من قياديي التحرك الشعبي (الشيخ عبدالأمير الجمري، حسن مشيمع، عبدالوهاب حسين، الشيخ خليل سلطان والشيخ حسن سلطان).

وهكذا دخلت الانتفاضة مرحلة جديدة اتسمت بالأفراح الشعبية ومظاهر الزينة للاحتفال بمئات من المفرج عنهم بعد أن وصلت الأوضاع إلى حال من الاختناق.

بدا وكأن البحرين تدشن مرحلة حرية التعبير عن الرأي والحوار بين المعارضة والحكومة. الشكوك والظنون كثيرة وكذلك الآلام والآمال. وهكذا بدأنا في لندن نترقب مجيئ مشيمع والشيخ خليل سلطان إلى لندن للاطلاع على ما دار مع القيادة الأمنية.

وصل الوفد إلى لندن يوم 26 أغسطس 1995، في ختام أسبوع حافل للمعارضة عقدت خلاله مؤتمرا صحافيا وندوة سياسية وخرجت مظاهرة جماهيرية في شوارع لندن. كان في وداع الوفد في مطار البحرين الدولي فريق امني برئاسة عادل فليفل، لتسهيل سفر الوفد (ذلك لأن من يعتقل ويفرج عنه لا يسمح له بالسفر مباشرة).

قام مشيمع بتسليم «أحرار البحرين» رسالة كتبها الشيخ الجمري في السجن بتاريخ 24/8/1995، أي قبل يومين من سفر الوفد إلى لندن. لخصت الحوار الجاري بالقول: «فإنني قد اطلعت على البيان الصحفي الصادر عن حركة أحرار البحرين الإسلامية بتاريخ 21 أغسطس 1995، والذي تـناول فيما تـناول موضوع الاتفاق بيننا وبين الحكومة، والذي جاء فيه التزام الحركة مشكورة بما جاء في لاتفاق، وإنني أرجو منكم جميعا التعاون معنا لإتاحة الفرصة الكافية لإنجاحه، وتجنب كل ما يعيق تنفيذه ويطيل زمن محنة شعبنا، وان تتكرس الجهود في البحث عن أفضل السبل بتعزيز الحوار مع الحكومة التي أعربت عن رغبتها فيه، مؤكدا الحاجة القصوى للتعاون من اجل إخراج البلاد من محنتها بأسلوب حضاري حكيم وراق يتناسب مع تراثنا التاريخي والثقافي وقيم ومبادئ شعبنا المسلم وطبائعه الإنسانية النبيلة، ومؤكدا رفض الإسلام لاستخدام العنف مادام يوجد للحوار سبيل، ومؤكدا أيضا أن عودة الأمن والاستقرار إلى البلاد مع المحافظة على الحقوق والواجبات المتبادلة بين الشعب والحكومة تمثل الأساس الأقوى والأفضل لنمو البلاد وازدهارها وتحقيق آمال وطموحات شعبنا والمحافظة على مكتسباته، وإنني على ثقة بأنكم سوف تهتدون بفضل الله تعالى وتسديده لأفضل السبل السلمية الدستورية الحكيمة التي تمر عبر الحوار لتحقيق ذلك، وعدم تضييع الفرص التاريخية الثمينة لاسيما هذه الفرصة التي تمثل منعطفا خطيرا في تاريخ شعبنا».

عبرت هذه الرسالة عن الأجواء التي يعيشها قادة المعارضة الذين تحاوروا مع وزارة الداخلية. فلقد كانت الأخيرة توصل المنشورات التي نوزعها داخل البلاد ونعبر فيها عن مواقفنا إلى داخل السجن. وكانت حركة أحرار البحرين قد أصدرت بيانا رحبت فيه بمبادرة الحوار مع الحكومة للخروج من الأزمة. لقد حاز قادة المعارضة في السجن على ثقة الجماهير وكان الجميع بانتظار التعرف على التفاصيل وعلى كيفية التفاهم مع الحكومة للخروج من الأزمة السياسية.

الحوار بين مشيمع والشيخ سلطان وبين شخصيات المعارضة المتواجدين في لندن تطرق إلى جميع الأمور المنظورة، وكان النقاش حاداً وصريحاً إلى الدرجة التي كان الوفد (الضيف) يشعر وكأنه خرج من سجون البحرين والمشادات مع المخابرات إلى سجون منازل لندن ومشادات المعارضة. ولكن مثل هذا النقاش كان ضروريا لأن المصلحة العامة للأمة تتطلب الابتعاد عن الجانب العاطفي والشخصي كل البعد للتأكد من سلامة الطريق.

وبينما كنا نتحاور مع الوفد القادم إلى لندن، كان وزير الإعلام الجديد، محمد المطوع يصرح لإذاعة لندن أن الإفراج عن المعتقلين ما هو إلا «مكرمة أميرية» لتوفير الفرصة للمفرج عنهم لكي يعودوا إلى الصراط المستقيم. لعبت هذه الكلمات الجارحة دورها لاحقا في عدم عودة احد أفراد الوفد إلى البحرين بعد انتهاء الزيارة. وبالرغم من ذلك شعرنا بضرورة المتابعة لمجريات الأمور بصبر وحذر شديدين مع الإمساك بقدرة التحرك الجماهيري عندما تتراجع الحكومة عن ما تم الاتفاق عليه. أمام هذه المعادلة، كان علينا أن نبتعد عن الجوانب النظرية البحتة ونتعامل مع الواقع وظروفه، وكيفية معالجة السلبيات التي تصاحب مثل هذه التجربة.

وكان مشيمع قد بدأ حواره بالإشارة إلى أن مثل هذا الحوار لم يكن ليحصل لو أن القادة كانوا على انفراد في زنزانات متفرقة. وكانت الخطوة الأولى التي سعوا إليها هي إقناع وزارة الداخلية بسجنهم في مكان مشترك لأجل التداول في جميع القضايا. وفي مقابل هذا الطلب، كانت المخابرات تريد الحصول على ورقة مكتوبة وموقعة من القادة الخمسة يعتذرون فيها عما جرى. ومن اجل هذا الأمر تُرك الخمسة في غرفة خاصة ومجهزة بأجهزة التنصت للاستماع لما يتم الاتفاق عليه.

وكان القرار الذي اتخذه الخمسة كتابة رسالة تحمل جملة «شرطية» يقول فيها الموقعون عليها أنهم يعتذرون «إذا» كان قد صدر منهم خطأ. وذكر مشيمع أن كلمة «إذا» وضعت في منتصف الكتابة لكي لا يتم حذفها بعد ذلك عندما تقوم الحكومة بنشرها فيما لو تراجعت عن الحوار. وهكذا كتبت الرسـالة الموجهة إلى أمير البلاد بتاريخ 24 ابريل/نيسان 1995 (أي بعد ثلاثة أسابيع من اعتقال الشيخ الجمري) متضمنة الجملة الشرطية التالية: «وإزاء الأحداث المؤلمة التي شهدتها البحرين في الأشهر القليلة الماضية نعرب عن أسفنا الشديد لسموكم «إذا» كانت قد تسببت تصرفاتنا والأعمال التي قمنا بها وأدت إلى الاضطرابات في البلاد».

لقد كانت خطـورة الرسـالة واضحة أمام الخمسة ولكنهم فضلوا أن يقدموا على المخاطرة لكي يتمكنوا من الاجتماع مع بعضهم البعض بصورة مستمرة والخروج بمشروع مشتـرك استمر الحوار فيه لإخراجه قرابة الأربعة اشهـر داخل السجن مع قيادة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية.

ملخص الحوار في لندن

أشار الوفد الزائر إلى أن جذور المبادرة بدأت بعد أيام قلائل من الاعتقال، وخرج عدد من القيادات بصورة مستقلة أثناء اعتقالهم الانفرادي بفكرة لتهدئة الأوضاع مقابل الدخول في حوار مع الحكومة.

بعد عدة جلسات من التحقيق المنفرد مع المخابرات بدا واضحا أن هناك رأي مشترك بين عدد من القياديين، ولهذا تم تقديم طلب بالسماح لخمسة منهم بالاشتراك في سجن واحد لكي يخرجوا بمشروع مشترك. ولكن وزارة الداخلية كانت تصر على كتابة رسالة إلى الأمير قبل السماح بذلك. وقال مشيمع: «إلا أن البند الرابع حُذف بطلب من السلطات العليا في الحكومة حسب ما قاله هندرسون.

البند الأول: هو الدعوة للهدوء والاستقرار مقابل إطلاق سراح جميع الموقوفين (غير المحكومين) وتم الاتفاق على أن يطلق سراح ثلاثة من المحاورين مع 150 شخص في 16 أغسطس، ثم يتم الإفراج عن عبدالوهاب حسين مع 150 معتقل آخرين، وفي 30 سبتمبر/أيلول يتم الإفراج عن الشيخ الجمري مع 500 ـ 600 موقوف.

البند الثاني: معالجة آثار الأزمة. فقد خلفت آثارا مختلفة، ولكي يتحقق استقرار دائم فلا بد من الإفراج عن الذين حُكم عليهم وإرجاع المبعدين ومناقشة عودة البرلمان المنتخب.

البند الثالث: تعزيز العلاقة الطيبة بين الشعب والحكومة. وكان الطرف الحكومي قد أصرّ على كلمة تعزيز بدلا من الكلمة الأصلية «خلق».

البعد الرابع: (الذي لم توافق عليه السلطات العليا): كان ينص على تصحيح العلاقة بين المعارضة في الخارج والحكومة.

ملاحظات ذكرها الوفد الزائر

1 - قال رئيس المخابرات هندرسون في إحدى جلسات الحوار: «لقد استطعتم هز الكأس فلا تكسروه. لقد وصلنا إلى قناعة بأن القمع لن يخمد الشارع العام بالصورة التي نحب، كما أن الوجهاء الذين اعتمدنا عليهم لم يستطيعوا حل المشكلة».

2 - عندما طلبت المعارضة توثيق الاتفاق قبل بدء الإفراجات تم ترتيب لقاء مع وزير الداخلية بتاريخ 14اغسطس (قبل يومين من الإفراج عن الدفعة الأولى) حضره وزير العمل والشئون الاجتماعية عبدالنبي الشعلة، وقضاة المحكمة الجعفرية الشيخ سليمان المدني والشيخ احمد العصفور والشيخ منصور الستري، بالإضافة إلى الوجيه الحاج احمد منصور العالي. وقام الشيخ الجمري بقراءة المبادرة المكتوبة أمام الحضور الذين استمعوا إلى ما قيل عن الحوار الدائر.

3 - قال هندرسون إن زيارة لندن وإقناع المعارضة هناك سوف يكون له الأثر الكبير في الإسراع بحلحلة الأوضاع. خصوصا بعد ذهاب العلماء الثلاثة الذين تم إبعادهم في يناير/كانون الثاني 1995 إلى لندن لأن ذلك قلب الموازين على الحكومة.

4 - تم إخبار وزارة الداخلية أن المحاورين لن يطلبوا من المعارضة ومن الجماهير التوقف وإنما سيطلبون إعطاء فرصة للحوار.

ملاحظات ذكرها أفراد المعارضة في لندن

1 - الحكومة رفضت أن توثق الاتفاق من جانبها كتابيا ورفضت وضع جدولة واضحة للفترة الأمنية من الحوار. كما أن المرحلة الأساسية للحوار غامضة بالنسبة للآلية. فالمعارضة طرحت مطالب دستورية تعتمد على الإجماع الوطني وأي آلية للحوار لا بد أن تحتوي على ممثلين من الأطراف المشاركة في العريضة الشعبية ومن الأطراف الأخرى المؤثرة في الساحة.

2 - إن الحكومة طلبت كتابة رسالة اعتذار كمقدمة للحوار، وبالرغم أن الرسالة كتبت بلغة «شرطية» فإن الابتزاز واضح ولن تتوانى وزارة الداخلية عن استخدام هذه الورقة ونكران الحوار لأنها لم تقدم شيئاً مكتوباً.

3 - إن تكرار وزير الإعلام الجديد لوصف خروج القياديين بأنه مكرمة أميرية من أجل العودة للصراط القويم أمر آخر لا ينبئ بالخير.

4 - الحكومة تريد معالجة عوارض الأزمة وليس جذورها، ولا يبدو أن تغييرا حقيقيا في النهج السياسي قد حصل. فالحديث لا زال عن مجلس الشورى المعيّن وهناك محاولة لتغيير تركيبة الحكم بحيث تستعصي عودة الحياة الدستورية والبرلمان المنتخب.

رجوع مشيمع إلى البحرين

رجع مشيمع إلى البحرين والتقى مع الشيخ الجمري وحسين داخل السجن ليخبرهما بنتيجة الحوار مع المعارضة في الخارج. ولكن سرعان ما بدأت الحوادث تأخذ منحى آخر عندما جاء موعد الإفراج عن حسين في 7 سبتمبر 1995. فالسلطة لم تفرج عنه في اليوم المحدد، كما لم تفرج عن العدد الكامل المتفق عليه احتجاجا على مظاهر الفرح الجماهيرية التي بدأت تتسع مع الأيام. وعندما أفرج عن الشيخ الجمري في أواخر سبتمبر، وخرجت الجماهير من كل مكان لاستقباله، انزعجت الحكومة من دون سبب وامتنعت عن الإفراج عن باقي الموقوفين المتفق عليهم ويقدر عددهم بـ 500 شخص. ينبغي ان نذكر هنا ان الشيخ خليل سلطان الذي خرج من السجن وسافر الى لندن مع مشيمع لم يرجع الى البحرين، وانما بقي في الخارج وتنقل بين عدة بلدان وانتهى به الأمر في سنوات لاحقة الى تقديم اللجوء السياسي في هولندا.

وكان شهر أكتوبر/تشرين الأول 1995 حافلا بالمساجلات والاتهامات بين القيادة الأمنية والمعارضة في الوقت الذي بدا واضحا أن الحكومة لم تكن جادة في فتح باب الحوار بل الالتفاف على المطالب الجوهرية للتحرك الشعبي، وهو إعادة الحياة الدستورية واحترام حقوق المواطن. وهكذا بدأت الحوادث في التصاعد وبدأت تختفي مظاهر الفرح وتعود حالة اللا أمن واللا استقرار والاعتقالات العشوائية والمحاكمات الجائرة والتصريحات غير المسئولة.

تسارع الأحداث

لقد تسارعت الحوادث في يناير/كانون الثاني 1996 بصورة خاطفة، وبدا الارتباك واضحا في ردود فعل الحكومة، وهذا ملخص ما جرى:

25 سبتمبر 1995: الإفراج عن الشيخ الجمري.

23 أكتوبر 1995: اعتصام سبعة قياديين وإضرابهم عن الطعام في منزل الشيخ الجمري، احتجاجا على عدم وفاء الحكومة بالاتفاق المبرم معها.

1 نوفمبر/تشرين الثاني 1995: انتهاء الاعتصام واحتشاد اكبر تجمع في تاريخ البحرين (قدر العدد بما بين 60 - 70 ألف شخص) أمام منزل الشيخ الجمري للاستماع للبيان الختامي للمعتصمين.

3 يناير 1996: بعثت قيادة امن المنامة إلى الحاج علي عبدالله الابريق مسئول جامع الصادق بالقفول (المنامة) وأنذروه بمنع الشيخ الجمري من الصلاة مساء الجمعة كل أسبوع. وعندما اتصل الإبريق بدائرة الأوقاف الجعفرية قيل له انه ليس من مسئوليتهم منع أو تحديد من يصلي جماعة في المسجد. فاتصل مدير مركز امن القرى العقيد (ع.م) بالأوقاف ليأمرهم، لكن دائرة الأوقاف اعتذرت عن ذلك. بعدها اتصل العقيد (ع.م) بالشيخ الجمري وقال له: «انك ممنوع من الصلاة والخطبة في مسجد الصادق» وكررها ثلاث مرات. فرد عليه الشيخ الجمري انه يرفض المنع.

4 يناير 1996: هجمت قوات الأمن على جامع الامام زين العابدين حيث كان الشيخ الجمري مع جمهور من المصلين يقرؤون الدعاء (دعاء كميل). واستخدمت مسيلات الدموع بكثافة وتم الاعتداء على المارة بصورة عشوائية وفرض حصار حول منزل الشيخ الجمري. بعد فترة انسحبت قرابة عشرين سيارة جيب من المنطقة وبقيت السيارات المدنية وأربع شاحنات مملوءة بالقوات. وبعد فترة تجمعت أعداد غفيرة حول منزل الشيخ الجمري وخرج الشيخ وخطب فيهم قائلا: «إن هذه الحركة الصبيانية المراهقة قد فعلها هؤلاء بدون سبب. وارى انها قد أرهقتهم وحدة الشعب وإصراره على مطالبه، وأرهقتهم الجماهير الهائلة التي تجتمع لصلاة يوم الجمعة في جامع الصادق ولا نستغرب مثل هذه الحركة، ونحن صامدون لن نتراجع، والذي أراه أن هذا الانسحاب تكتيكي لكي تتجمعوا بسبب هذه المكيدة ثم يأتوا مرة أخرى للهجوم زاعمين أن هناك فوضى وتجمعا غير مشروع، إننا سوف نظل متمسكين بسلوكنا الذي هزمهم وجعلنا نستـقطب الرأي العـام في الداخل والخارج وهو السلوك السلمي، وأرى أن نفوّت عليهم الفرصة ونحبط هذه المكيدة بالتفرق والانصراف من هذا المكان، شكر الله مساعيكم، على أن الانصراف لا يعني التخـلي عـن المسـئولية، بل هـو انصراف مع التحسـب للطوارئ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

الجمعة 5 يناير 1996: صلى الشيخ الجمري الظهر في جامع الصادق بالدراز، بينما كانت مداخل الدراز تتواجد فيها القوات ولكن الجماهير انهالت من كل حدب وصوب. أما صلاة المغرب فيصليها الشيخ في جامع الصادق بالقفول. وعندما توجه الناس إلى القفول كانت القوات قد حاصرت الجامع منذ الثالثة بعد الظهر بـ 250 مسلحاً وأغلقت جميع الطرق إلى الجامع. وقامت هذه القوات باستخدام مسيلات الدموع والرصاص المطاطي وأصبحت الأجواء مكفهرة، وأصيب عدد غير قليل من النساء والرجال والأطفال. وقد شاهد هذا الحادث السواح الأجانب الذين كانوا متواجدين في الحديقة المائية القريبة من الجامع.

مساء الجمعة 5 يناير 1996: أقيم حفل ديني في منطقة النعيم بالمنامة وكان من بين الحضور الشيخ الجمري. وبينما كان مشيمع يلقي كلمته أمام الحضور هجمت قوات الشغب بالقنابل الخانقة على الحضور. فانفض الجمهور وسقط عدد كبير على الأرض من بينهم الشيخ الجمري، فحمله الشباب إلى بيت صغير ملاصق لمكان الاجتماع. وقد التجأ إلى هذا المنزل حوالي مئة شخص، وبقوا هناك ما لا يقل عن ساعة ونصف لا يستطيعون النزول ويتكلمون بالهمس، لأن البيت مطوق والمنطقة كذلك. بعد ذلك هجمت قوات الشغب على المنزل وكسروا أبوابه ودخلوا واقتادوا الشباب بصورة وحشية ضربا ورفسا وشتما. وقيدوا أيدي الشباب من الخلف. وتعرض الشيخ الجمري لضربة على ظهره من احد أفراد قوات الشغب، بعدها واجه الشيخ الشخص الذي قام بالهجوم واسمه الملازم (ع.ق)، وحمّله مسئولية ما حدث. ثم طالب بالإفراج عن الشباب الذين قيدوا، وتم ذلك بعد فترة من النقاش الحاد. وقام الشيخ والشباب بتفقد الجرحى الذين سقطوا على الأرض ونقل بعضهم إلى المستشفى.

8 يناير 1996: الشيخ الجمري يصلي في جامع الصادق رغم التهديد له قبل الصلاة والجماهير تجتمع من كل مكان. بعد ذلك توجه الشيخ الجمري للدراز وحضر احتفالا جماهيريا ضخما رددت فيه هتافات الصمود.

12 يناير 1996: طوقت قوات الأمن جامع الصادق بالقفول، وعندما جاء عدد كبير من الناس واغلبهم من الشباب للصلاة وجدوا شرطة مكافحة الشغب قد أغلقت المنافذ المؤدية للجامع من الجهات الأربع مما أدى لامتداد طوابير السيارات القادمة من كل جهة لأكثر من كيلومتر واحد. وحدث إرباك في الحركة المرورية وعم التذمر العام من تصرفات قوات الأمن. ثم قامت الأخيرة بملاحقة القادمين للصلاة باستخدام الرصاص المطاطي الذي تسبب في إتلاف عدد من السيارات والممتلكات. كما أطلقت قوات الأمن قنابل غازية ذات لون احمر لخلق حالة من الفزع.

13 يناير 1996: استدعت وزارة الداخلية الشيخ الجمري وسبعة من رفاقه وأدخلوهم واحداً بعد الآخر في مكتب وزارة الداخلية الذي كان يتوسطه 14 من قوات الأمن. وكان وكان يحاورهم وكيل وزارة الداخلية. وطالب قادة المعارضة بحضور محامي الدفاع إلا أن ضباط الداخلية قالوا إن الهدف هو إبلاغ رسالة، إن الحكومة قررت منع الصلاة جماعة وإلقاء الخطب أمام الناس. وكان جواب الشيخ الجمري ورفاقه، إنهم لا يعتبرون بهذا القرار لأنه غير دستوري.

14 يناير 1996: اعتقل الناشط عبد الوهاب حسين من منزله الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان حسين قد ألقى كلمة أمام حفل جماهيري في عراد مساء 13 يناير شرح فيه ما جرى مع ضباط وزارة الداخلية وموقف قادة المعارضة الرافض لمثل هذه التهديدات.

15 يناير 1996: بدأت حملة اعتقالات واسعة شملت جميع الذين ظهرت أسماؤهم للعلن خلال الأشهر المنصرمة من علماء دين وأساتذة وخطباء ووجهاء ومسئولي مساجد، من مختلف مناطق البلاد.

16 يناير 1996: الشيخ الجمري يلقي كلمة أمام جمهور غفير في مدينة حمد ويتعرض للحوادث الجارية ويدعو لوحدة الشعب ويؤكد المطالب العادلة.

17 يناير 1996: استدعي الشيخ الجمري لمقابلة رئيس اللجنة الأمنية التي انشئت لقمع الانتفاضة. وكان اللقاء مختلفا عما قبله. إذ قدم الاعتذار لإساءة الخُلق في الاجتماع السابق (13 يناير). طالب الشيخ الجمري بالإفراج عن حسين وإيقاف الهجوم على المساجد والتجمعات العامة لكيلا ينفلت الوضع الأمني وتعود الاضطرابات. طلب رئيس اللجنة الأمنية بعدم رفع الشعارات السياسية، إلا أن الشيخ قال إن المطالب سلمية ودستورية وليس من شأنها الإضرار بالأمن، بل على العكس. ولكن الاجتماع انتهى دون معرفة الهدف الأساسي من اللقاء.

19 يناير 1996: استدعي الشيخ الجمري للقاء رئيس اللجنة الأمنية مرة أخرى، وكان هذا اللقاء عكس اللقاء الذي سبقه. احتدم الخلاف بين الطرفين بعد أن اتهم رئيس اللجنة الأمنية الشيخ الجمري بالتحريض ضد الحكومة، وطالب بإيقاف النشاطات والتجمعات والصلاة وعدم الإدلاء بأي تصريح لوكالات الأنباء العالمية، إلا أن الشيخ الجمري رفض كل ذلك.

20 يناير 1996: فرض الحصار المنزلي الثاني (الأول كان في ابريل 1995) على الشيخ الجمري ابتداء من الساعة الثالثة فجرا. الإحتجاجات تعم مناطق البحرين وتعود مظاهر الاشتباكات مرة أخرى للساحة. اعتقالات واسعة شملت جميع أعضاء «المبادرة» ومعظم العلماء والخطباء والوجهاء الذين وقفوا بحزم أمام هجوم قوات الشغب على المساجد والتجمعات العامة.

21 يناير 1996: اعتقال الشيخ الجمري من منزله والعودة الكاملة لحالة الانتفاضة التي سبقت الإفراج عن قادة المبادرة في أغسطس وسبتمبر 1995. بل إن الأوضاع ازدادت حدة ودخلت البحرين مرحلة صراع أخرى كان بالإمكان تفاديها لولا تجنب السلطة من الحوار مع المعارضة.

وقبل اعتقاله بساعات قليلة، كتب الشيخ الجمري رسالة أرسلها لي بالفاكس قائلا: «أنا والعائلة نعيش الحصار داخل البيت وقد طوقنا بعشرات الجنود وعدد من السيارات، بل حوصر جيراننا في بيوتهم وهم الذين بجانبنا وخلفنا حتى المغتسل، وشرقا حتى بيت طه جاسم، ويمتد غربا إلى بيت ميرزا آدم، ولم يسمح لأحد منا بالخروج إلا الأطفال إلى المدرسة ويفتشون في خروجهم ودخولهم تفتيشا دقيقا. نحن في حال سيئة جدا . . . لا أدري ما سيجري بالنسبة لنا وللشعب من تطور وتصعيد للعنف... هذا وإذاعتهم وتلفزيونهم وصحفهم تتكلم ضدنا وتربط الأحداث (حوادث العنف) التي استدرجوا الناس إليها بنا وبالمساجد وتزعم أننا استغلينا المساجد. الآن يحاولون إسكات الأمة من خلال اعتقال عدد من العلماء وجميع الشيالين (خطباء المواكب الحسينية) وأعداد كبيرة من الشباب... وتعتبر هذه الأصـوات قـد أخمـدت، ولم يبـق إلا الأمـل فـي الله والرجـاء منه».


العدد 2258 الثلثاء 11 نوفمبر 2008 الموافق 13 ذو القعدة 1429 هــ

منقول

اقرأ الحلقة السادسة من ملف "تسعينات البحرين" (1): أبريل 1995... بني جمرة و15 يوماً من طوق الحصار



الوسط - حيدر محمد



لم يكن نبأ حصار المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري (1 - 15 أبريل/ نيسان 1995) ومن ثم إيداعه السجن خبراً اعتيادياً، فقد كان محطة محورية في طريق تفاقم الوضع الأمني في عشرات المناطق، وقد مثل هذا الحدث علامة فارقة منذ انطلاق شرارة الانتفاضة في العام 1994.

الأول من أبريل أو «السبت الأسود» كما يسميه الأهالي هنا... كان يوماً مأساوياً ببني جمرة، فقد شهد سقوط شابين من أبناء القرية وبتر رِجْلِ ثالث، فضلاً عن نحو خمسين جريحاً آخر.

بني جمرة طوت النهار على وقع سيل من الرصاص واقتحام عشرات المنازل، وغابت عنها الشمس بصوت طلقات الرصاص ومسيلات الدموع لم تفارق القرية حتى مطلع الفجر!

فقد كانت بني جمرة ساحة لأحداث دموية ومرعبة... وعاش أهلها 15 يوماً من الحصار المحكم و15 يوماً من المعاناة، ولكن ما ميزها أنها 15 يوماً من التضامن بين الأهالي الذين هبوا احتجاجاً على الإجراءات غير الإنسانية في تعامل السلطات مع كل من في القرية.

فالحصار القاسي الذي فرضته قوات الأمن المدججة في السلاح على الشيخ عبدالأمير الجمري شمل القرية بأكملها...القرية مغلقة بالكامل ومحاطة من كل جانب، ولا يدخلها أحدٌ إلا بعد المرور بتفتيش دقيق عند المنافذ التي نصبتها قوات الأمن التي طوقت القرية.

كثيرة هي القصص وكثيرة هي الروايات وكثيرة هي الجراحات أيضاً، فكل أبناء بني جمرة يتذكرون ذلك اليوم الطويل، كل من في القرية شمله العذاب، ولكن ماذا يقول شهود العيان عن شريط دامٍ عاصروه ولا يزال محفوراً بالذاكرة... لكنه مقرون بطعم تحرك شعبي غير مسبوق، لذلك فإن الحصار كان كفيلاً لاكتشاف صلابة الناس.

حصار قبل مطلع الفجر

ويروي سلمان عطية (شاهد عيان من أبناء بني جمرة) ما واجهه من أحداث خلال هذه الفترة قائلاً: «يمكنني القول إن السلطات الأمنية اختارت الوقت غير المناسب لبدء الحصار على قرية بني جمرة ، لأنه كان قبل أذان الفجر، ففي هذه الفترة كل الناس كانت تتوجه للمساجد، ولذلك فإن قوات الأمن كانت مدهوشة من الجموع الآتية من كل القرية قاصدة جامع الإمام زين العابدين (ع) (القريب من بيت الشيخ الجمري) عن طريقين هما: طريق المقبرة وطريق البر».

ويوضح عطية أن قوات الأمن الكثيفة التي كانت تحاصر الجامع استغربت من هذه الجموع الغفيرة، فتصورت أن ما حدث هو ردة فعل شعبية على قرار الحصار، مع أن الناس كانت تجهل ما كان يحدث أساساً، وكان التصور هو مجرد عملية اعتقال، لأن مسألة الحصار لم تكن معتادة، فظن الناس أنها مجرد اعتقالات.

الطلقات في وجه الجماهير

ويعتقد عطية أن ردة الفعل المباشرة من قبل قوات الأمن كانت هي الأخرى غير متوقعة... فقوات الشغب بادرت بإطلاق الرصاص الحي في كل مكان، وقد لاذ الناس بالفرار وهم مأسورون بهول الصدمة، كما قامت قوات الأمن بإبعاد كل الموجودين في البيوت المجاورة لمنزل الشيخ الجمري حتى تضمن أن يسير مخططها لمحاصرة الشيخ كما خططت له.

ويروي عطية ما شاهده بأم عينيه قائلاً: « لم يكن نبأ اعتقال الشيخ الجمري حدثاً طبيعياً، ولذلك فإن الناس لم تفر إلى بيوتها كما توقعت الشرطة، بيتي كان قريباً من الحدث ولذا فإن أصوات الرصاص كانت تسمع فيه بقوة، لقد وقفت الجماهير محتارة، وتجمّع الناس في منطقة البر (المنطقة القديمة من بني جمرة)، لم تتوقف أصوات الرصاص فأردنا الخروج من المنزل، إلا أن الوالدة وقفت على الباب لتحول بيننا وبين الخروج».

قتلى وجرحى يتساقطون

ويبيّن عطية أن «إطلاق الرصاص استمر لعشر دقائق، وكنا نسمع صوت طلقات مختلفة، وبعد مضي خمس دقائق، سمعنا صوت امرأة تصرخ بقوة... وكانت زوجة محمد صادق العرب الذي بترت رجله في ذلك اليوم... اقتربنا من مزرعتنا القريبة من المنزل، فجاء شخص وجهه مغطى بالدماء، وبالكاد كان قادراً على المشي (جعفر طالب)... أدخلناه في بيتنا ولكننا لم نكن نعلم حتى ذلك الوقت سبب صراخ المرأة».

لم يتمالك عطية نفسه وهو يقص دقائق من الأحداث المؤلمة: «بعد لحظات وجدنا شخصاً آخر ملقياً على الأرض فوق عينيه دائرة سوداء تحوطها نقاط داكنة اللون، كان الجميع في حيرة لمعرفة هذا الشخص، لأن رأسه كان - بفعل النزيف الداخلي - أكبر من كرة قدم، ولاحقاً تعرفنا عليه وكان هو الشهيد محمد جعفر الذي كان يتنفس بشدة، بعدها سرنا خطوات ورأينا شخصاً ملقياً على بطنه وثوبه مسحوبة وكان يئن».

وقد شاهدنا الطلقة التي أصيب بها وكان مضروباً أيضاً، إنه الشهيد محمد علي عبدالرزاق الذي كان مضروباً بعدة طلقات مباشرة... فكان يشتكي من شدة الألم، فالطلقة دمرته لأنها أصابته في موضع حساس، علماً أن الطلقات كانت توجه عن قرب، وبعد إدخاله إلى البيت كان يردد «أسعد، أسعد...»، وكان تشخيص جميع الموجودين انه كان فاقداً للوعي (ولكن عرفنا لاحقاً أنه يردد اسم ابنه)». وبحسب عطية فإن الشرطة كانت قد ضربت هذه المجموعة بصورة مفاجئة، وقد ابتعد الشهيد محمد علي عن هذه المجموعة، إلا أنه بعد إطلاق الرصاص على الشهيد محمد جعفر قرر أن يرجع إليه مرة أخرى، وسرعان ما قد ازدادت جموع الشرطة التي ظهرت بين النخيل فجاءت قوات أمن كثيفة فأطلقت عليه الرصاص، فأردته أرضاً.

مصاب ملقىً وسط نخلة!

ويعود عطية إلى حديث الذكريات بقوله: «بعد عشرين دقيقة عرفنا سبب صراخ المرأة، فزوجها (محمد صادق العرب)... تجمّع الشباب وجرت عملية بحث عن محمد صادق، وبعد ثلث ساعة رأينا زوجها ملقياً في وسط نخلة قرب مزرعتنا، ورأيت تحته بقعة كبيرة من الدم. قمت بالتدقيق في إصابته، إلا أن كسور العظم لمحنا فيها زوايا حادة، حاولت أن أحلل وظننت أنها ضربة أداة حادة، فرأيت أن أطلع على حجم الإصابة... وكانت عدنا سجادة قديمة سميكة فدحرجناه عليها، وهناك شخصان حملهما أحد الأشخاص، وهما الشهيد محمد جعفر وجعفر طالب، بينما الاثنان الآخرين فقد حملتهما في سيارتي «البيكب»، وهما محمد صادق العرب والشهيد محمد علي».

الطريق إلى المستشفى

تحيّرنا إلى أي طريق نسلك - يضيف عطية - بسبب الكثافة الأمنية وكان في نيّتنا أن نذهب إلى المستشفى الدولي، غير أن الرصاص لا يزال يطلق في بني جمرة، وخرجنا إلى قرية المرخ وقد أوقفنا أهالي المرخ وسألونا عما يجري، فشرحنا لهم الوضع، وطلبوا منا التقاط صور للتوثيق، ولكننا رفضنا لشدة الإصابات التي لا تتحمل أي نوع من التأخير، وكان ذلك على الأرجح بعد أذان الفجر ولكن المؤكد أن الشمس لم تظهر بعد...

ويمضي قائلاً: «دخلنا قرية سار واتجهنا نحو دوار سار، إلا أن دوريتي شرطة كانتا واقفتين أيضاً ولكن لحسن الحظ انهما تحركتا بعد قليل وقد، واصلنا السير قاصدين المستشفى الدولي، وعند وصولنا المستشفى استقبلنا رجل أمن مدني كان يسجل أرقام السيارات، وبعد فترة بسيطة وصل الشخص الآخر الذي حمل مصابين آخرين وقد سلك طريقاً آخر».

ولكن ماذا بعد الوصول إلى المستشفى؟ يجيب عطية: « قمنا بإدخال الجرحى الواحد بعد الآخر، وأدخلنا محمد صادق العرب الغرفة ووضعناه على السرير، لحد الآن لم يئنّ، لأنه مازال لا يعلم حجم إصابته، ثوبه كانت مرفوعة... كان واعياً ولكنه في حالة صدمة، عندما وضعناه طلب مني أن يرى مدى إصابته، فأبيت أن أريه إلا انه أصرّ عليَّ ورفع رأسه فساعدته، ورأى رجله فأغمي عليه مباشرة من شدة صدمته من حجم الإصابة.

ويضيف «وعند إدخال جعفر طالب أتت زوجة الشهيد محمد جعفر وكانت موجودة في المستشفى بسبب الاعتداء عليها بالضرب المبرح هي ووالدتها فسمعت صوتنا، وبادرتنا بالسؤال عن زوجها... ارتبكنا، ولكنها أصرت علينا، فقلت لها: «اطمئني، هو تعرض لإصابة كالآخرين»، مردفاً «بعد ذلك، حاولنا أن نرجَع بني جمرة مرة أخرى ولكن «البيكيب» كان مملوءاً بالدماء، لم نتمكن من ذلك، فقد حوصرنا لثلاثة أيام خارج بني جمرة حتى قلَّ التشديد الأمني على كل منافذ القرية فاستطعنا الدخول لبني جمرة من منفذ ثانوي».

«إنهم يريدون أن يعتقلوا الشيخ الجمري»

أما فيصل الخباز (شاهد عيان ومصاب) فيقول: بالنسبة إلى اعتقال الشيخ الجمري فقد كان أمراً متوقعاً، فقد كان الشباب يتوقعون ذلك في أية لحظة، وكانوا يتواصون بالدفاع عن الشيخ الجمري، وفي ليلة السبت كنت عند والدتي إلى وقت متأخرٍ من الليل ومن ثم رجعت إلى حجرتي وألقيت بنفسي. وقبل نحو نصف ساعة من الأذان انتبهت على صوتٍ غريب: «إنهم يريدون أن يعتقلوا الشيخ الجمري».

ويضيف الخباز «كان الصوت حلماً بالنسبة لي، فبادرت ولبست ثوبي للصلاة، وايقظت زوجتي، وقلت لها: إنني أتوقع عدم رجوعي إلى المنزل، فقالت: ولم؟ فأخبرتها أنني أسمع صوتاً يقولون «إنهم سيعتقلون الشيخ الجمري»، نزلت زوجتي خلفي ونزل خلفنا ولدي مهدي وكان صغيراً حينها، وتوجهت إلى الشخص، وكان عبدالأمير عبدالوهاب هو من ينادي في المأذنة».

المقبرة تتحول إلى ثكنة أمنية

ويواصل الخباز حديثه قائلاً: «جاء أستاذ عمران حسين للمنزل، وأخبرنا أن الشيخ الجمري محاصر وأن المنازل تم الاستيلاء عليها وإخراج أهلها، وقد بادرت إلى الخروج رغم معارضة البعض خوفاً علَيَّ، إلا أنني أصريت وذهبت إلى بيت الشيخ الجمري وأثناء مروري بجانب المقبرة متجهاً لمنزل الشيخ، توقفت لأتامّل، وكنت أدقق النظر عند الزاوية للتأمل إلى المقبرة فرأيت حركة غريبة في المقبرة فدققت النظر وإذا بالمقبرة كلها تحوّلت إلى ثكنة أمنية، فتوقفت عن الرواح، وصرت أفكر «ماذا نفعل»؟، فكان القرار أن نكبّر في كل المساجد، فطلبت من أحد الإخوة تشغيل المبكرات الصوتية في جميع المساجد، وبدأنا نتنقل من مسجدٍ إلى آخر للتكبير.

التكبير يصدح من مآذن بني جمرة

وكانت البداية من مسجد الوسطة (أبا ذر الغفاري حالياً) وبدأنا التكبير وتجمع الناس شيئاً فشيئاً، وأخذت المسيرة تتجه إلى المسجد الآخر وهو مسجد الإمام علي(ع)، وفي طريقنا كان بعض الأشخاص يطرقون المنازل ليخبرونهم عن اعتقال الشيخ، والمسيرة يزيد عددها بشكل واسع، وقامت جماعة بالتكبير في مسجد الإمام علي، وعندما وصلنا إلى قرب بيت علي محمد، ونحن متجهين إلى مسجد الخضر، وهنا المسيرة بلغت ذروتها من كثرة المشاركين، الذين وصل عددهم في هذا التجمع العفوي إلى نحو 500 شخص، وكان هذا العدد كبيراً، رغم أنه في وقت الفجر، وعندما وصلنا مسجد الخضر بدأ بعض الأشخاص في المسيرة بترديد بعض الشعارات، إلا أن البعض نهاهم، وأفهمهم أن هدفنا أكبر من مجرد شعارات!

المسيرة تتفرق إلى اتجاهات شتى

ويضيف «عندما وصلنا مسجد الخضر سمعنا أصوات الطلق بكثافة، وبدأت المسيرة تتراجع إلا أن الشهيد محمد علي عبدالرزاق وهو من شهداء يوم السبت الأسود كان مرابطاً، وطلبت منه الخروج من مسجد الخضر، ومسيلات الدموع كانت تضرب فوق المسجد، وهنا تفرقت المسيرة إلى مناطق مختلفة، ولكن القسم الأكبر بقي معنا، ودخلنا إلى الممر القريب من مأتم الانثيعشرية ، وعندما وصلنا زاوية المأتم (الشرقية الجنوبية) هنا أصيب «أسعد» ابن الشهيد محمد علي عبدالرزاق برصاصة في ظهره، ولكن أباه كان قوي الجأش، وحاول أن يهدئه، فأخذ ولده إلى مكان آخر، فاتجهنا إلى البر، وهنا فوجئنا أن كل شبر في القرية تحوّل إلى (معسكر)، ولم يبقَ محل في القرية يمكن الاختباء فيه، الكل بدا محتاراً وهو يبحث عن الوجهة الأنسب».

ولكن عندما رجعت إلى السدرة (سدرة الشيخ كما يعرفها أهالي بني جمرة) حاولت أن أركض فضربوني بالرصاص، ومن حرارة الضربة، لم أتوقف بل سرت مهرولاً إلى أن وصلت بالقرب من مأتم الخضر، فوجدت كراجاً بجانبه سيارة وزحفت ودخلت تحت السيارة، وقد كنت أنزف إلى أن بلغت نفسي الموت، وكان رجائي أن أرى الشيخ الجمري... بعد هذه الخاطرة كأنما ذهب عني كل شيء وكأنني لم أصَبْ فنهضت وذهبت أجري بسرعة».

ويشرح الخباز اللحظات الأخيرة التي رآها في القرية بقوله «تفاجأت مرة أخرى بأن سيارة الشغب نازلة وكنت آتياً من مسجد الخضر متجهاً لمأتم الاثنيعشرية. وكان أمامي برميل للقمامة في الطريق وأنا من سرعتي ضربت البرميل، وهذا المنظر أرهب الشرطي، وأنا لم ألتفت إلى الخلف وواصلت المسير إلى أحد البيوت و طرقت الباب، إلا أن بعض الأبواب لم تفتح خوفاً من ملاحقة الشرطة. فالتفتُّ للخلف ورأيت أن قوات الأمن قد غادرت، وصارت عندي طمأنينة وجئت مسجد الوسطة وتفاجأت بوجود أحد الأشخاص الذي أوصلني إلى منزلي... وقعت على الباب، بينما زوجتي وولدي كانا في المسيرة ولكن لم أكن أعلم عنهما شيئاً، وقد غبت عن الوعي وما أتذكره هو أنني في المستشفى الدولي وانتبهت على السرير، وعندما تقيأت دماً خفّ عني الوجع كثيراً، وصرت في وعيي الكامل، وكنا نسمع أصوات الطلق في محيط المستشفى».

استيقظنا على أصوات الحواجز

أمام منزل الشيخ الجمري

أما جعفر عبدالحسين منصور (جار الشيخ الجمري من جهة الشرق) فيروي لقطات من الحصار المحكم على منزل الشيخ قائلاً: «لقد استيقظنا في يوم السبت الأسود (1 أبريل 1995) في الساعة الثانية والنصف صباحاً على أصوات الحواجز التي ألقتها قوات الأمن في الأرض، وكان ذلك مثار استغراب، ففي بادئ الأمر كانت هناك مضايقات مختلفة للشيخ، نظرت من غرفة السلّم (الدرج) فرأيت قوات الأمن يطوقون بيت الشيخ الجمري، كما داهموا غالبية البيوت الملاصقة لبيت الشيخ، أرادوا عزل الشيخ الجمري، وبدأوا إخراج أبناء الشيخ، كانت قوات الأمن ترصد كل شي، في بادئ الأمر اعتقدنا أنها إجراءات سريعة، ولكن الحواجز جعلتني متيقناً أن الهدف هو فرض إقامة جبرية على الشيخ الجمري وأن المسألة ستطول كثيراً».

يوم استثنائي في تاريخ البحرين

كل شيء كان ممنوعاً، لأنه يوم استثنائي لم يمر ليس فقط على بني جمرة وإنما البحرين من قبل. يضيف منصور «في السادسة صباحاً سمعنا صوت الرصاص عن بعد، وسمعنا التكبيرات أيضاً، وسمعت أحد المسئولين الأمنيين أمام منزل الشيخ يوجه الشرطة إلى ملاحقة الخارجين في القرية، وكنت مستعداً لأن أنقل بناتي إلى المدرسة، وجعلتهن يفتحن الباب أولاً لأختبر رد قوات الأمن الذين طلبوا من بناتي الرجوع إلى المنزل، فخرجت لهم فقال لي أحد المسئولين الأمنيين: ارجع بيتك لا يوجد أي شيء اليوم!».

ويضيف «رجعنا البيت، وكنا نريد الاطمئنان على وضع الشيخ الجمري، لم أذهب الدوام إلا عند الساعة الواحدة عندما طلبت من الشرطة أن أذهب لعملي في أمرٍ شديد الأهمية، وفي العمل تم إخباري عما جرى في القرية».

ويشير منصور إلى أن الطوق الأمني قد أحكم على مجمع المنطقة 539، فقد نصبت العديد من نقاط التفتيش، كانت في البداية نقطتين للخروج والدخول، ولاحقاً اقتصروا على نقطة واحدة، فإذا كان العنوان على المجمع المذكور يسمح لصاحبه بالدخول ويرفض ما سواه، ولا يسمح الدخول إلا في فترات محدودة فضلاً عن تفتيش دقيق للسيارة، فأحياناً بعض المفتشين لا يعرف البطاقة، فيطلب مني جلب تصريح من مركز البديع للدخول إلى القرية. تم التضييق على المنطقة، والتفتيش لم يقتصر على السائق بل شمل جميع ركاب السيارة.

كنا نرى بعض التحركات وقد انقطعت الأخبار عن الشيخ الجمري «لقد كان هاتف منزل الشيخ مقطوعاً، ولم نكن نعرف شيئاً سوى أن منزل الشيخ كان مطوَّقاً بشدة، ومنعوا أيَّ اتصال للشيخ بالعالم الخارجي، والأمر الأكثر غرابة أننا كنا نتلقى الأخبار عن وضع الشيخ الجمري من إذاعة البي بي سي، واستمر الحصار الأول لمدة أسبوعين، وحسب ما كنا نعرفه أن الشيخ رفض أن يتنازل عن كل شيء في مقابل رفع الحصار».

قوات الأمن تسيطر على منزل الشيخ

إلى ذلك يقول مهدي عبدالأمير الجمري: كنت صغيراً، إلا انني بعدما استيقظت من النوم، رأيت قوات الشغب داخل المنزل، في الطابق الأرضي، وفي الطابق العلوي كانت شقة أخي جميل فيها شرفة (بلكونة) وثلاثة من قوات الشغب، وحتى فوق السطح كانوا يقفون مدججين في السلاح ليراقبوا محيط المنزل، فهذا الطوق كان موجوداً في الداخل والخارج، كما أزيلت من المنزل كل الأجهزة والكتب.

وكانوا يحاولون الدخول إلى داخل القاعة التي يوجد فيها الشيخ، كنا لا نستطيع الخروج إلى داخل المنزل، ما أتذكره أن أختي كانت حاملاً وأتوا بممرضة، وكانت خالتي معنا فانحجزت لأسبوعين في داخل المنزل، كنا نسمع طلقات الرصاص، وكانت النافذة مفتوحة، فتألم الوالد من الأخبار السيئة المتوالية من القرية.

ولكن الأخبار السيئة لم تنتهِ برفع الحصار!


العدد 2258 الثلثاء 11 نوفمبر 2008 الموافق 13 ذو القعدة 1429 هــ