رئيس كتلة الوفاق النيابية الشيخ علي سلمان:
أمامنا طريق طويل من المحطات لتحقيق البرلمـان الـذي طالـب به الشيخ الجـمري
الوسط - حيدر محمد
أكد الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية ورئيس كتلتها البرلمانية النائب الشيخ علي سلمان أن «البحرين أمامها طريق طويل من المحطات لتحقيق البرلمان الذي طالب به المرحوم العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري».
وأضاف سلمان في حوار مع «الوسط» بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الشيخ الجمري: «من الواضح أن البرلمان الحالي ليس هو المجلس الذي ناضل من أجله الشيخ الجمري ومن خلفه الناس، لأن ما هو موجود حاليا هو أدنى مراتب هذا المطلب».
وتابع سلمان قائلا: «مطلب الشيخ ومن خلفه جماهير الشعب هو برلمان يتمتع بصلاحيات أكبر، لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكوين علاقة مستقرة بين النظام والشعب من خلال دولة مؤسسات وقانون، ولكن ما تحقق هو خطوة في طريق طويل أمام وصول البحرين إلى هذه الرؤى الإصلاحية المتقدمة»... وهنا نص الحوار:
* ما الذي تتذكره من الشيخ الجمري، وخصوصا في البعد الإنساني؟
- إن سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري رحمه الله كان رمزا دينيا واجتماعيا من قبل أن أدرك الأمور بلحاظ العمر، لأنني من مواليد العام 1965 والشيخ الجمري دخل المجلس الوطني (في العام 1973) وكان عمري حينها 8 سنوات، فنحن في ذهننا أن الشيخ الجمري والشيخ عيسى أحمد قاسم منذ أن كنا صغارا كانا رمزين بالنسبة إلينا.
الصورة الأولى التي ارتبطت في ذهني بسماحة الشيخ عبدالامير الجمري هو العالم العادل الذي يعيش هموم أمته، ويعيش معها آلامها وآمالها، ولاحقا في العام 1986 عندما كان سماحة الشيخ رحمه الله يتواجد في منطقة البلاد القديم كخطيب حسيني في مسجد ناصر الدين، وهذا السبب جعل سماحته قريبا مع مجموعة من الشباب، فمنطقة البلاد في تلك الفترة كانت تتميز بوجود حراك ثقافي واجتماعي.
كان جزء من هذا النشاط يتمحور حول سماحة الشيخ عيسى قاسم وسماحة الشيخ عبدالأمير الجمري اللذين كانا يرعيان هذا الحراك، كما أن هذا التيار كانت لديه مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية مشروعة، ولكنها كانت تتمحور حول المسجد والمأتم والاحتفالات الدينية، وهذا أول التقاء مباشر في ذاكرتي مع سماحة الشيخ، وربما صليت خلفه قبل هذا التاريخ أيضا.
ولكن اللقاء المباشر المتواصل جاء لاحقا في العام 1992 عندما نزلنا من قم، تشرفت أكثر من مرة بزيارة سماحة الشيخ في منزله، وصارت اللقاءات متكررة مع سماحته، وبعد سفر الشيخ عيسى قاسم كانت وصيته لي: «لا تحسم أمرا من غير الشيخ عبدالأمير»، وهذا الرابط أضيف إلى الرابط الديني السابق، وفي الأمور العملية كان الشيخ معبرا لأية فكرة في الأبعاد الدينية والسياسية والاجتماعية.
واللقاءت مع سماحته أصبحت شبه يومية وبيتهم كان المكان الأكثر احتضاناَ لهذه اللقاءات، وإذا كانت المضايقات الأمنية تزيد كنا نضطر لتغيير المكان، ولكننا لا نستطيع أن نتجنب اللقاءات في بيت الشيخ سواء كانت القرارات التي تحتاج إلى استشارة الشيخ الشخصية وكذلك العلاجات التي تحتاج إلى مشورة موسعة وأكثر من علاجات سريعة.
* ولماذا كان هذا التنسيق الكبير مع الشيخ عبدالأمير الجمري؟
- لم تكن هناك شخصيات بارزة مثل الشيخ عيسى قاسم والشيخ عبدالأمير تتصدى لقضايا الناس في أبعادها المختلفة، فسماحة الشيخ كان صاحب رؤية بشأن كثير من القضايا وعلى رأسها إصلاح الأوضاع وساهم في تأصيل هذه الرؤية السياسية ورؤية تحمل المسئولية في البعد الجماهيري عبر الندوات والزيارات ومعايشة الناس في مختلف المناطق. وهذا الأمر كوّن خصوصية لهاتين الشخصيتين، فالشيخ عيسى والشيخ عبدالامير كانا متفرغين لخدمة المجتمع في بعدها الديني والاجتماعي والسياسي وجل وقتهما كان منصبا في هذا الاتجاه، وفي هاتين الشخصيتين عناصر تخصص ديني كامل، فهما كانا يخصصان جزءا من وقتهما صباحا إلى الحوزة الدينية والبعد الخيري والاجتماعي، وكان محور الانطلاق على هذا الصعيد هو بيت الشيخ عبدالامير. وعندما اعتقلت للمرة الأولى في العام 1993 وكان بمناسبة تجمع عدد من الشباب العاطلين دعيت فيه إلى التعبير عن حاجتهم الى العمل، وكانت هذه تمثل سابقة في بداية التعبير السياسي.
* تقصد أنها كانت شرارة الانتفاضة؟
- البحرين مرت بظروف مختلفة، ومثل هذه القضايا تتحكم فيها التوازنات الإقليمية والدولية، وأي خطاب لا يمكن أن يكون ردة فعل، ولكن الظرف التاريخي ساعد على ذلك الحراك... الشيخ عبدالأمير بادر إلى الذهاب المباشر إلى وزارة الداخلية وطالب بالإفراج عني في اليوم نفسه، وأفرج عني بعد أن قضيت ليلة في الاعتقال.
وعندما اعتقلت مدة شهر ونصف في بداية الانتفاضة كان الشيخ الجمري هو الشخص الذي كان مكان الوالد والمعيل، ومن يحمل على عاتقه تسيير الأمور المالية وكان يتصل بالوالدة ويسدد حاجاتهم المادية ويرعاههم(...) من الطبيعي أن الإنسان يتكل على الله ولكن إذا وجد مثل الشيخ عبدالامير لا يحتاج الإنسان أن يقلق على أسرته، فهو كان يساعد كل الناس ويسعى لقضايا حوائجهم، ولكن حالة القرب الدائم تجعل به أعلم وأسبق فيه، وحتى قبل المعتقل كان يصرف علينا، وعندما دخلت المجلس النيابي طلبت إيقاف هذه المساعدة، وحتى من العام 1992 بعدما رجعنا من لندن كان سماحة الشيخ يريد تيسير الأمور المعاشية، كان يريد أن يكون الشيخ علي سلمان والمعممين الآخرين خدمة للدين ومبلغين ومحاضرين وأئمة جماعة.
* و لكن بعد مرور عام من وفاة الشيخ... هل تعتقد أن حلمه قد تحقق؟
- إن مطلب سماحة الشيخ الجمري منذ التسعينات بل وقبل التسعينات كان مطلب الإصلاح السياسي الذي يجعل من مشاركة الناس فاعلة وحقيقية، وفي الإيقاع الحالي متحقق هذا المطلب في صيغته الدنيا جدا، وهذا البرلمان اقل من الصيغ المطروحة في السابق سواء في برلمان 73 أو في مطلب التسعينات.
وكلمة سماحة الشيخ بأن «ليس هذا هو البرلمان الذي طالب به شعب البحرين» كانت كلمة حق وصدق، فمطلب الشيخ ومن خلفه جماهير هذا الشعب هو برلمان يتمتع بصلاحيات اكبر، وليس فقط الإصلاح في الجانب البرلماني إنما العمل على مواطن الإصلاح الأخرى وتكوين علاقة مستقرة بين النظام والشعب من خلال دولة مؤسسات وقانون، وكان الشيخ صادقا وسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل هذه الرؤية.
لاتزال أمامنا طريق من المحطات لتحقيق رؤية الشيخ... رؤية الشعب، فالبحرين تقدمت في جوانب كثيرة مثل الاستقرار الأمني والحريات الدينية والسياسية وعدم التضييق على الناس في الأبعاد المختلفة، ولكن ما تحقق هو خطوة في طريق طويل أمام وصول البحرين إلى هذه الرؤى الإصلاحية المتقدمة.
Saturday, February 13, 2010
ملف الجمري
رئيس كتلة الوفاق النيابية الشيخ علي سلمان:
أمامنا طريق طويل من المحطات لتحقيق البرلمـان الـذي طالـب به الشيخ الجـمري
الوسط - حيدر محمد
أكد الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية ورئيس كتلتها البرلمانية النائب الشيخ علي سلمان أن «البحرين أمامها طريق طويل من المحطات لتحقيق البرلمان الذي طالب به المرحوم العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري».
وأضاف سلمان في حوار مع «الوسط» بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الشيخ الجمري: «من الواضح أن البرلمان الحالي ليس هو المجلس الذي ناضل من أجله الشيخ الجمري ومن خلفه الناس، لأن ما هو موجود حاليا هو أدنى مراتب هذا المطلب».
وتابع سلمان قائلا: «مطلب الشيخ ومن خلفه جماهير الشعب هو برلمان يتمتع بصلاحيات أكبر، لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكوين علاقة مستقرة بين النظام والشعب من خلال دولة مؤسسات وقانون، ولكن ما تحقق هو خطوة في طريق طويل أمام وصول البحرين إلى هذه الرؤى الإصلاحية المتقدمة»... وهنا نص الحوار:
* ما الذي تتذكره من الشيخ الجمري، وخصوصا في البعد الإنساني؟
- إن سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري رحمه الله كان رمزا دينيا واجتماعيا من قبل أن أدرك الأمور بلحاظ العمر، لأنني من مواليد العام 1965 والشيخ الجمري دخل المجلس الوطني (في العام 1973) وكان عمري حينها 8 سنوات، فنحن في ذهننا أن الشيخ الجمري والشيخ عيسى أحمد قاسم منذ أن كنا صغارا كانا رمزين بالنسبة إلينا.
الصورة الأولى التي ارتبطت في ذهني بسماحة الشيخ عبدالامير الجمري هو العالم العادل الذي يعيش هموم أمته، ويعيش معها آلامها وآمالها، ولاحقا في العام 1986 عندما كان سماحة الشيخ رحمه الله يتواجد في منطقة البلاد القديم كخطيب حسيني في مسجد ناصر الدين، وهذا السبب جعل سماحته قريبا مع مجموعة من الشباب، فمنطقة البلاد في تلك الفترة كانت تتميز بوجود حراك ثقافي واجتماعي.
كان جزء من هذا النشاط يتمحور حول سماحة الشيخ عيسى قاسم وسماحة الشيخ عبدالأمير الجمري اللذين كانا يرعيان هذا الحراك، كما أن هذا التيار كانت لديه مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية مشروعة، ولكنها كانت تتمحور حول المسجد والمأتم والاحتفالات الدينية، وهذا أول التقاء مباشر في ذاكرتي مع سماحة الشيخ، وربما صليت خلفه قبل هذا التاريخ أيضا.
ولكن اللقاء المباشر المتواصل جاء لاحقا في العام 1992 عندما نزلنا من قم، تشرفت أكثر من مرة بزيارة سماحة الشيخ في منزله، وصارت اللقاءات متكررة مع سماحته، وبعد سفر الشيخ عيسى قاسم كانت وصيته لي: «لا تحسم أمرا من غير الشيخ عبدالأمير»، وهذا الرابط أضيف إلى الرابط الديني السابق، وفي الأمور العملية كان الشيخ معبرا لأية فكرة في الأبعاد الدينية والسياسية والاجتماعية.
واللقاءت مع سماحته أصبحت شبه يومية وبيتهم كان المكان الأكثر احتضاناَ لهذه اللقاءات، وإذا كانت المضايقات الأمنية تزيد كنا نضطر لتغيير المكان، ولكننا لا نستطيع أن نتجنب اللقاءات في بيت الشيخ سواء كانت القرارات التي تحتاج إلى استشارة الشيخ الشخصية وكذلك العلاجات التي تحتاج إلى مشورة موسعة وأكثر من علاجات سريعة.
* ولماذا كان هذا التنسيق الكبير مع الشيخ عبدالأمير الجمري؟
- لم تكن هناك شخصيات بارزة مثل الشيخ عيسى قاسم والشيخ عبدالأمير تتصدى لقضايا الناس في أبعادها المختلفة، فسماحة الشيخ كان صاحب رؤية بشأن كثير من القضايا وعلى رأسها إصلاح الأوضاع وساهم في تأصيل هذه الرؤية السياسية ورؤية تحمل المسئولية في البعد الجماهيري عبر الندوات والزيارات ومعايشة الناس في مختلف المناطق. وهذا الأمر كوّن خصوصية لهاتين الشخصيتين، فالشيخ عيسى والشيخ عبدالامير كانا متفرغين لخدمة المجتمع في بعدها الديني والاجتماعي والسياسي وجل وقتهما كان منصبا في هذا الاتجاه، وفي هاتين الشخصيتين عناصر تخصص ديني كامل، فهما كانا يخصصان جزءا من وقتهما صباحا إلى الحوزة الدينية والبعد الخيري والاجتماعي، وكان محور الانطلاق على هذا الصعيد هو بيت الشيخ عبدالامير. وعندما اعتقلت للمرة الأولى في العام 1993 وكان بمناسبة تجمع عدد من الشباب العاطلين دعيت فيه إلى التعبير عن حاجتهم الى العمل، وكانت هذه تمثل سابقة في بداية التعبير السياسي.
* تقصد أنها كانت شرارة الانتفاضة؟
- البحرين مرت بظروف مختلفة، ومثل هذه القضايا تتحكم فيها التوازنات الإقليمية والدولية، وأي خطاب لا يمكن أن يكون ردة فعل، ولكن الظرف التاريخي ساعد على ذلك الحراك... الشيخ عبدالأمير بادر إلى الذهاب المباشر إلى وزارة الداخلية وطالب بالإفراج عني في اليوم نفسه، وأفرج عني بعد أن قضيت ليلة في الاعتقال.
وعندما اعتقلت مدة شهر ونصف في بداية الانتفاضة كان الشيخ الجمري هو الشخص الذي كان مكان الوالد والمعيل، ومن يحمل على عاتقه تسيير الأمور المالية وكان يتصل بالوالدة ويسدد حاجاتهم المادية ويرعاههم(...) من الطبيعي أن الإنسان يتكل على الله ولكن إذا وجد مثل الشيخ عبدالامير لا يحتاج الإنسان أن يقلق على أسرته، فهو كان يساعد كل الناس ويسعى لقضايا حوائجهم، ولكن حالة القرب الدائم تجعل به أعلم وأسبق فيه، وحتى قبل المعتقل كان يصرف علينا، وعندما دخلت المجلس النيابي طلبت إيقاف هذه المساعدة، وحتى من العام 1992 بعدما رجعنا من لندن كان سماحة الشيخ يريد تيسير الأمور المعاشية، كان يريد أن يكون الشيخ علي سلمان والمعممين الآخرين خدمة للدين ومبلغين ومحاضرين وأئمة جماعة.
* و لكن بعد مرور عام من وفاة الشيخ... هل تعتقد أن حلمه قد تحقق؟
- إن مطلب سماحة الشيخ الجمري منذ التسعينات بل وقبل التسعينات كان مطلب الإصلاح السياسي الذي يجعل من مشاركة الناس فاعلة وحقيقية، وفي الإيقاع الحالي متحقق هذا المطلب في صيغته الدنيا جدا، وهذا البرلمان اقل من الصيغ المطروحة في السابق سواء في برلمان 73 أو في مطلب التسعينات.
وكلمة سماحة الشيخ بأن «ليس هذا هو البرلمان الذي طالب به شعب البحرين» كانت كلمة حق وصدق، فمطلب الشيخ ومن خلفه جماهير هذا الشعب هو برلمان يتمتع بصلاحيات اكبر، وليس فقط الإصلاح في الجانب البرلماني إنما العمل على مواطن الإصلاح الأخرى وتكوين علاقة مستقرة بين النظام والشعب من خلال دولة مؤسسات وقانون، وكان الشيخ صادقا وسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل هذه الرؤية.
لاتزال أمامنا طريق من المحطات لتحقيق رؤية الشيخ... رؤية الشعب، فالبحرين تقدمت في جوانب كثيرة مثل الاستقرار الأمني والحريات الدينية والسياسية وعدم التضييق على الناس في الأبعاد المختلفة، ولكن ما تحقق هو خطوة في طريق طويل أمام وصول البحرين إلى هذه الرؤى الإصلاحية المتقدمة.
أمامنا طريق طويل من المحطات لتحقيق البرلمـان الـذي طالـب به الشيخ الجـمري
الوسط - حيدر محمد
أكد الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية ورئيس كتلتها البرلمانية النائب الشيخ علي سلمان أن «البحرين أمامها طريق طويل من المحطات لتحقيق البرلمان الذي طالب به المرحوم العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري».
وأضاف سلمان في حوار مع «الوسط» بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الشيخ الجمري: «من الواضح أن البرلمان الحالي ليس هو المجلس الذي ناضل من أجله الشيخ الجمري ومن خلفه الناس، لأن ما هو موجود حاليا هو أدنى مراتب هذا المطلب».
وتابع سلمان قائلا: «مطلب الشيخ ومن خلفه جماهير الشعب هو برلمان يتمتع بصلاحيات أكبر، لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكوين علاقة مستقرة بين النظام والشعب من خلال دولة مؤسسات وقانون، ولكن ما تحقق هو خطوة في طريق طويل أمام وصول البحرين إلى هذه الرؤى الإصلاحية المتقدمة»... وهنا نص الحوار:
* ما الذي تتذكره من الشيخ الجمري، وخصوصا في البعد الإنساني؟
- إن سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري رحمه الله كان رمزا دينيا واجتماعيا من قبل أن أدرك الأمور بلحاظ العمر، لأنني من مواليد العام 1965 والشيخ الجمري دخل المجلس الوطني (في العام 1973) وكان عمري حينها 8 سنوات، فنحن في ذهننا أن الشيخ الجمري والشيخ عيسى أحمد قاسم منذ أن كنا صغارا كانا رمزين بالنسبة إلينا.
الصورة الأولى التي ارتبطت في ذهني بسماحة الشيخ عبدالامير الجمري هو العالم العادل الذي يعيش هموم أمته، ويعيش معها آلامها وآمالها، ولاحقا في العام 1986 عندما كان سماحة الشيخ رحمه الله يتواجد في منطقة البلاد القديم كخطيب حسيني في مسجد ناصر الدين، وهذا السبب جعل سماحته قريبا مع مجموعة من الشباب، فمنطقة البلاد في تلك الفترة كانت تتميز بوجود حراك ثقافي واجتماعي.
كان جزء من هذا النشاط يتمحور حول سماحة الشيخ عيسى قاسم وسماحة الشيخ عبدالأمير الجمري اللذين كانا يرعيان هذا الحراك، كما أن هذا التيار كانت لديه مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية مشروعة، ولكنها كانت تتمحور حول المسجد والمأتم والاحتفالات الدينية، وهذا أول التقاء مباشر في ذاكرتي مع سماحة الشيخ، وربما صليت خلفه قبل هذا التاريخ أيضا.
ولكن اللقاء المباشر المتواصل جاء لاحقا في العام 1992 عندما نزلنا من قم، تشرفت أكثر من مرة بزيارة سماحة الشيخ في منزله، وصارت اللقاءات متكررة مع سماحته، وبعد سفر الشيخ عيسى قاسم كانت وصيته لي: «لا تحسم أمرا من غير الشيخ عبدالأمير»، وهذا الرابط أضيف إلى الرابط الديني السابق، وفي الأمور العملية كان الشيخ معبرا لأية فكرة في الأبعاد الدينية والسياسية والاجتماعية.
واللقاءت مع سماحته أصبحت شبه يومية وبيتهم كان المكان الأكثر احتضاناَ لهذه اللقاءات، وإذا كانت المضايقات الأمنية تزيد كنا نضطر لتغيير المكان، ولكننا لا نستطيع أن نتجنب اللقاءات في بيت الشيخ سواء كانت القرارات التي تحتاج إلى استشارة الشيخ الشخصية وكذلك العلاجات التي تحتاج إلى مشورة موسعة وأكثر من علاجات سريعة.
* ولماذا كان هذا التنسيق الكبير مع الشيخ عبدالأمير الجمري؟
- لم تكن هناك شخصيات بارزة مثل الشيخ عيسى قاسم والشيخ عبدالأمير تتصدى لقضايا الناس في أبعادها المختلفة، فسماحة الشيخ كان صاحب رؤية بشأن كثير من القضايا وعلى رأسها إصلاح الأوضاع وساهم في تأصيل هذه الرؤية السياسية ورؤية تحمل المسئولية في البعد الجماهيري عبر الندوات والزيارات ومعايشة الناس في مختلف المناطق. وهذا الأمر كوّن خصوصية لهاتين الشخصيتين، فالشيخ عيسى والشيخ عبدالامير كانا متفرغين لخدمة المجتمع في بعدها الديني والاجتماعي والسياسي وجل وقتهما كان منصبا في هذا الاتجاه، وفي هاتين الشخصيتين عناصر تخصص ديني كامل، فهما كانا يخصصان جزءا من وقتهما صباحا إلى الحوزة الدينية والبعد الخيري والاجتماعي، وكان محور الانطلاق على هذا الصعيد هو بيت الشيخ عبدالامير. وعندما اعتقلت للمرة الأولى في العام 1993 وكان بمناسبة تجمع عدد من الشباب العاطلين دعيت فيه إلى التعبير عن حاجتهم الى العمل، وكانت هذه تمثل سابقة في بداية التعبير السياسي.
* تقصد أنها كانت شرارة الانتفاضة؟
- البحرين مرت بظروف مختلفة، ومثل هذه القضايا تتحكم فيها التوازنات الإقليمية والدولية، وأي خطاب لا يمكن أن يكون ردة فعل، ولكن الظرف التاريخي ساعد على ذلك الحراك... الشيخ عبدالأمير بادر إلى الذهاب المباشر إلى وزارة الداخلية وطالب بالإفراج عني في اليوم نفسه، وأفرج عني بعد أن قضيت ليلة في الاعتقال.
وعندما اعتقلت مدة شهر ونصف في بداية الانتفاضة كان الشيخ الجمري هو الشخص الذي كان مكان الوالد والمعيل، ومن يحمل على عاتقه تسيير الأمور المالية وكان يتصل بالوالدة ويسدد حاجاتهم المادية ويرعاههم(...) من الطبيعي أن الإنسان يتكل على الله ولكن إذا وجد مثل الشيخ عبدالامير لا يحتاج الإنسان أن يقلق على أسرته، فهو كان يساعد كل الناس ويسعى لقضايا حوائجهم، ولكن حالة القرب الدائم تجعل به أعلم وأسبق فيه، وحتى قبل المعتقل كان يصرف علينا، وعندما دخلت المجلس النيابي طلبت إيقاف هذه المساعدة، وحتى من العام 1992 بعدما رجعنا من لندن كان سماحة الشيخ يريد تيسير الأمور المعاشية، كان يريد أن يكون الشيخ علي سلمان والمعممين الآخرين خدمة للدين ومبلغين ومحاضرين وأئمة جماعة.
* و لكن بعد مرور عام من وفاة الشيخ... هل تعتقد أن حلمه قد تحقق؟
- إن مطلب سماحة الشيخ الجمري منذ التسعينات بل وقبل التسعينات كان مطلب الإصلاح السياسي الذي يجعل من مشاركة الناس فاعلة وحقيقية، وفي الإيقاع الحالي متحقق هذا المطلب في صيغته الدنيا جدا، وهذا البرلمان اقل من الصيغ المطروحة في السابق سواء في برلمان 73 أو في مطلب التسعينات.
وكلمة سماحة الشيخ بأن «ليس هذا هو البرلمان الذي طالب به شعب البحرين» كانت كلمة حق وصدق، فمطلب الشيخ ومن خلفه جماهير هذا الشعب هو برلمان يتمتع بصلاحيات اكبر، وليس فقط الإصلاح في الجانب البرلماني إنما العمل على مواطن الإصلاح الأخرى وتكوين علاقة مستقرة بين النظام والشعب من خلال دولة مؤسسات وقانون، وكان الشيخ صادقا وسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل هذه الرؤية.
لاتزال أمامنا طريق من المحطات لتحقيق رؤية الشيخ... رؤية الشعب، فالبحرين تقدمت في جوانب كثيرة مثل الاستقرار الأمني والحريات الدينية والسياسية وعدم التضييق على الناس في الأبعاد المختلفة، ولكن ما تحقق هو خطوة في طريق طويل أمام وصول البحرين إلى هذه الرؤى الإصلاحية المتقدمة.
ملف الجمري
صادق الجمري يروي حواريات والده مع القيادة السياسية
الوسط - حيدر محمد
بدأ صادق بن الشيخ عبدالأمير الجمري يرافق والده منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وشهد لقاءات للشيخ مع عدد من المسئولين وبعض أطراف المعارضة التي كانت تعقد في بداية التسعينيات، ثم في مرحلة الانفتاح عندما كثرت اللقاءات بدءا من 17 يناير/ كانون الأول 2001 إلى أبريل/ نيسان 2002، وذلك قبل سفر الشيخ الجمري لألمانيا.
ويروي صادق لـ «الوسط» شريط الذكريات، موضحا أن اللقاء الأكثر أهمية الذي يتذكره وكان بعد إصابة الشيخ عبدالأمير بالذبحة الصدرية في العام 2000 وكان الوضع الأمني سيئا حول البيت، والأمور كانت جدا صعبة... وكانت تتمثل في زيارة سمو الأمير (جلالة الملك) إلى الوالد في المستشفى العسكري، وقال عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حينها: إن شاء الله الأيام المقبلة ستكون سعيدة، وستسمع الأخبار الطيبة».
ويضيف صادق: «الوالد كان دائما متفائلا حتى في أيام السجن الانفرادي، وكان يقول الوضع سيئ ولا توجد غرف ولكن يجب أن نستحمل هذا الوضع... لأننا اخترنا هذا الطريق، والوالدة كانت شديدة بأس. وفي العام 2000 أيضا زار سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الوالد في المستشفى العسكري، وكان سموه يتكلم عن علاقته بالوالد في المجلس الوطني».
يقول صادق إنه «بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول 2000 تفاجأنا ببعض الأمور، والمفاجأة الأكبر أن بعض أطراف المخابرات لم تكن تعلمها، وجرى اتصال من شخصية رفيعة المستوى وطلبوا مني ترتيب لقاء في نهاية أغسطس/ آب، كما طلبوا مني أن أدعو الوالد إلى اللقاء، وهو بدوره لم يرفض، وأخذت الوالد، وكانت مشكلتنا أن المخابرات لم تكن تسمح له بالخروج إلا في أماكن معينة لا تتجاوز أربعة بيوت».
فعلا ذهبنا إلى بيت هذا الشخص رفيع المستوى، وعندما حضر كان الترحاب عاليا، وهذا الشخص كانت تربطه بالوالد علاقة قديمة سبقت الحوادث الأمنية، وكانا يكنان الاحترام لبعضهما البعض، وذكر للوالد أن «سمو الأمير سيبدأ خطوات ايجابية للإصلاح وهو يأمل في تفاعلكم مع هذه الخطوات»... وكان رد الوالد «سأخدم البلد بما يتناسب مع وضعي».
ويوضح الجمري أنه «في بداية النصف الأخير من العام 2000 أعلن حينها عن إجراء انتخابات بلدية مباشرة، وهنا بدأت أول مبادرة من قبل الوالد، فصاغ رسالة إلى سمو الأمير مباشرة، وشاور فيها مجموعة من الأشخاص، حيا فيها سموه على هذه الخطوة وشكر القيادة وتمنى أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى، ولكن واجهتنا عقبة إيصال هذه الرسالة»، ووجدنا الحل عند مستشار جلالة الملك حسن فخرو الذي تردد في المرة الأولى حينما أخبرناه بالموضوع مع الاستشاري علي العرادي، ولكنه قبل في النهاية، وسلمناه الرسالة في منزله بعالي، وهو بدوره أوصلها لسمو الأمير».
ولم يمر يوم واحد حتى اتصل بنا حسن فخرو، وأبلغنا أن سمو الأمير كان مسرورا بالرسالة، وقرأها في الطائرة أثناء توجهه للدوحة في نهاية الأسبوع، ووجه لنا فخرو دعوة للقاء سمو الأمير في يوم العيد الذي كان في صبيحة اليوم الذي تلا العطلة مباشرة.
المخابرات لم تبارح الوالد حتى أثناء توجهنا إلى القصر لمقابلة سمو الأمير، وعند وصولنا القصر تفاجأ الجميع بالاستقبال الكبير الذي قابل به سمو الأمير الوالد، والتلفزيون لم يكن يبث كل اللقطات، وكان الترحيب عاليا، وقال «أهنيك يا سمو الأمير بالعيد وأشكرك على هذه المبادرة وأتوسم فيك الخير، وشعب البحرين يستحق أكثر»، وكان جوابه سموه: «سترون أياما أجمل في الطريق».
وبخلاف الفترة السابقة مر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 ولم يحدث أي تطور ايجابي، ولم تحدث أية مبادرات في هذه الفترة، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه جرى تحرك من بعض الشخصيات المحسوبة على السلطة التي لم يرتح الوالد لأسلوبها، وتأزمت الأمور أكثر، وفي هذه المرحلة كان الوضع أوشك على الانهيار، وبدأ الوالد يتخذ موقفا متصلبا بعكس المرونة الكبيرة التي أبداها في التفاعل سابقا.
ومن ضمن المحطات المهمة في هذه الفترة طلب وزير الداخلية مقابلة الوالد، مضيفا: «استجاب الوالد فعلا، فزار وزير الداخلية الذي كان مع عدد من كبار مسئولي الوزارة، وكانت معاملتهم طيبة». وقال الوزير للوالد: «إن سمو الأمير طرح مشروع ميثاق العمل الوطني (...) الوالد قابلهم بأخلاق طيبة ولكن لم يكن متجاوبا مع ما طرحوه، لقناعته بأن الحوار يجب أن يكون مع رجال السياسة وليس رجال الأمن، وكان يكرر أنه لا يحب تكرار ما حدث في فترة المبادرة».
ويضيف الجمري مستذكرا تلك المرحلة: «الجو السياسي أصبح متلبدا بالغيوم، بسبب وجود بعض التأزم أو لنسمِّه عدم اندفاع الأمور إلى الأمام، وعمت حالة من عدم الارتياح مصحوبة بالتوجس العام بهذا الركود، والوالد كان يفكر في الخروج من هذا المنعطف بسلام من أجل المضي قدما في مشروع التوافق الوطني والإصلاح السياسي».
ويشير صادق إلى أن الشيخ الجمري اتصل في هذه الفترة بمستشار سمو الأمير حسن فخرو مرة أخرى لمعرفة حقيقة التحركات، واجتمع مع الوالد فعلا، مردفا: «زارنا فخرو في المنزل وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة (قبل صلاة الظهر)، ونقل للوالد تحيات سمو الأمير، وكان هذا اللقاء الأول في منتصف يناير 2001، وكان في قمة الايجابية، وبشّر بخطوات مقبلة، وفخرو ترك انطباعا طيبا عند الوالد، وارتاح معه كثيرا، لكن الوالد كان يحبذ التعامل عبر قناة حسن فخرو، لأنه شعر فيه الصدق».
واللقاء الآخر بين سمو الأمير والوالد كان يوم السبت في أواخر شهر يناير، والتقى سمو الأمير في قصر الصافرية، وكان الأمير جالسا في النصف، وكان على يساره وزير العدل والشئون الإسلامية حينها الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة والوزير جواد العريض وقضاة محكمة الاستئناف العليا الجعفرية، الشيخ سليمان المدني والشيخ أحمد العصفور بالإضافة إلى محمدعلي الستري ورئيس محكمة الاستئناف العليا السنية الشيخ يوسف الصديقي، وأثنى سمو الأمير على دور علماء الدين في خدمة المجتمع، وعقّب كل من الشيخ سليمان والوالد بكلام عام».
عند خروجنا من القصر تحدث الوالد لسمو الأمير، وقال له: «سموكم تعرفون انني رجل صريح»، ورد عليه سمو الأمير: «شيخ عبدالامير أنا استمعت لكل خطبك منذ السبعينيات حتى الآن، وأعرف اعتدالك وحكمتك»، فتابع الوالد: «نحن محتاجون إلى خطوات لتهيئة الأجواء»، وسأل الشيخ سمو الأمير: «هل سيتم الإفراج عن المسجونين؟»، وأجابه سموه بـ «نعم»، وعقب الشيخ «وحتى المحكومين؟»، فقال سموه «نعم»، وقال «حتى أستاذ حسن مشيمع وأستاذ عبدالوهاب»، فقال سموه: «شيخ عبدالأمير كلهم سيخرجون في 5 فبراير»... خرج الوالد مستبشرا من اللقاء، ولم يكن يصدق هذا الحلم، لأنه كان يحمل هم المعتقلين، وأراد أن يخبر الناس بما جرى.
وقد لا يصدق أحد أنه حتى بعد هذا اللقاء تفاجأنا بأن المخابرات لم تتحرك من محيط البيت على رغم اللقاء بسمو الأمير (...) اتصلنا بحسن فخرو وذكرنا له أن المخابرات مازالت موجودة، وبعد الاتصالات خف تواجدهم بعد أن جرت اتصالات مع الديوان مباشرة.
ومنذ لقائه سمو الأمير صلى الشيخ الجمري ثلاث صلوات جمعة في جامع الإمام زين العابدين (ع) قبل خروج المسجونين، وتميزت الصلوات بحضور جماهيري واسع لم يسبق له مثيل بني جمرة، وكنا نفرش الشوارع المحيطة بالمسجد... لقد كان منظرا رهيبا، وبدأت تتكثف الاتصالات لتذليل بعض العقبات بسبب تصرفات رجال الأمن، وقال الشيخ عبدالأمير لحسن فخرو سأخطب بعد 5 فبراير، وكان يتحدث عن جهة التشريع، فأجاب فخرو بأنها ستكون للسلطة المنتخبة.
ويضيف الجمري أنه في هذه الفترة برزت شخصيات أصبح لها حضور مهم، وهي شخصيات وسطية ولها اتصالات ببعض رجالات السلطة، وكانت تحاول تذليل الصعاب مثل الشيخ علي العريبي بدرجة أولى ثم المستشار القانوني حسن رضي والناشط عبدالعزيز أبل، وكانوا يحاولون دفع الأمور قدما إلى الأمام، وهؤلاء الثلاثة كانوا يبدون آراءهم للوالد، وبفضل هذه الجهود أزيلت القيود الأمنية بنسبة 90 في المئة، وكان الوالد يكثر من لقاء الناس أكثر بشكل واسع وملفت جدا.
ويشير الجمري إلى دور السيد عبدالله الغريفي في هذه الفترة في دعم مواقف الوالد، بل عقد اجتماعا موسعا مع عدد كبير من رجال الدين في بيتنا قبل خطبة الشيخ التاريخية، والغريفي أطلعهم على مشروع الميثاق، وكان بحضور مجموعة واسعة من علماء الدين العائدين من قم وبعض من كانوا يصلون الجماعة، واتفق معهم على أن «القول ما قال الجمري».
وأتذكر أن هذا الاجتماع كان في صبيحة الخميس، بعد يوم من الإفراج عن الناشطين حسن مشيمع وعبدالوهاب حسين، وفي الوقت نفسه كانت للوالد اتصالاته بلجنة العريضة وجماعة المبادرة وجماعة لندن وجماعة قم، وكان ذلك اليوم طويلا جدا أكثر من أي يوم آخر، وبعضهم كان يبدي موقفا متصلبا.
وقبل صلاة المغرب بخمس دقائق، اتصل بي الشيخ علي العريبي، وقال: «صادق تعال ضروري»، وذهبت إلى بيت الوالد وكان السيد عبدالله الغريفي موجودا وعلي العريبي وعبدالوهاب حسين بالإضافة إلى الوالد الذي طلب مني ترتيب لقاء عاجل مع سمو الأمير، واتصلت بحسن فخرو، وأخبرته بطلب الوالد (...) وبعد خمس دقائق اتصل حسن فخرو، وقال «صادق تعالوا فورا».
بعد الصلاة ذهب الأربعة إلى قصر الصافرية وكان حاضرا في اللقاء سمو الأمير والوزير جواد العريض، وتحدث الوالد موجها خطابه لسمو الأمير: «تدارسنا الميثاق، والصورة أصبحت واضحة، ونحن مطمئنون»، وفي هذه الأثناء تدخل السيد عبدالله الغريفي قائلا: «يا سمو الأمير بقيت نافذتان نحب إغلاقهما ليكتمل البناء»، وكانت نبرة السيد الغريفي هادئة وايجابية، وكان يرمز بالنوافذ والبيت إلى التوافق الوطني، وطلب توثيق ما تم الاتفاق عليه، وفعلا خرج التصريح الشهير لرئيس لجنة الميثاق الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة بأن «مجلس الشورى سيكون لإبداء الرأي ولكن التشريع سيكون لمجلس النواب»، وتصدر هذا التصريح المهم الصفحات الأولى في الصحف.
وفي ظهر اليوم الثاني خطب المرحوم الوالد خطبته الشهيرة في جامع الإمام الصادق(ع) الدراز، والتي خاطب فيها الجموع المحتشدة من آلاف المصلين بعبارته التاريخية: «يشهد الله لقد اشتقت لكم اشتياق يعقوب إلى يوسف»، وكان الجو مشحونا بين الألم والأمل، ثم طلب الوالد من الأستاذ عبدالوهاب تلاوة موقفه من الميثاق، وبعد هذا الخطاب تسارعت الأمور والاتصالات، وكانت السلطة تتجاوب مع مطالب الناس الحياتية.
وينوه الجمري إلى حدث مهم آخر في تلك الفترة تمثل في زيارة الشيخ الجمري إلى سمو رئيس الوزراء في دار الحكومة وحضر اللقاء السيد عبدالله الغريفي والشيخ علي العريبي والأستاذ عبدالوهاب حسين، وأذكر أنه حتى هذه الفترة لم تتوقف محكمة أمن الدولة قانونا على الأقل.
كان اللقاء مع سمو رئيس الوزراء وديا وجديا، وتحدث بحضور الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة عن ذكرياته مع الوالد في المجلس الوطني، وقال سموه «أحب أبشرك أبوجميل أننا سنتخذ اليوم قرارا بإنهاء قانون أمن الدولة»، ومعروف عن الوالد أنه كان يتحكم بانفعالاته عدا هذه المرة، فأمام رئيس الوزراء استبشر الوالد خيرا ورفع يديه بالدعاء، ووعد سموه بمنح الجنسية لكل البدون، وكان صدى اللقاء ايجابيا جدا، واتصل ببعض الوجهاء المهتمين بشأن الجوازات... ويختتم صادق قائلا: «كان الشيخ محبوبا ومقدرا لأنه كان صادقا مع نفسه ومع السلطة ومع الناس».
الوسط - حيدر محمد
بدأ صادق بن الشيخ عبدالأمير الجمري يرافق والده منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وشهد لقاءات للشيخ مع عدد من المسئولين وبعض أطراف المعارضة التي كانت تعقد في بداية التسعينيات، ثم في مرحلة الانفتاح عندما كثرت اللقاءات بدءا من 17 يناير/ كانون الأول 2001 إلى أبريل/ نيسان 2002، وذلك قبل سفر الشيخ الجمري لألمانيا.
ويروي صادق لـ «الوسط» شريط الذكريات، موضحا أن اللقاء الأكثر أهمية الذي يتذكره وكان بعد إصابة الشيخ عبدالأمير بالذبحة الصدرية في العام 2000 وكان الوضع الأمني سيئا حول البيت، والأمور كانت جدا صعبة... وكانت تتمثل في زيارة سمو الأمير (جلالة الملك) إلى الوالد في المستشفى العسكري، وقال عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حينها: إن شاء الله الأيام المقبلة ستكون سعيدة، وستسمع الأخبار الطيبة».
ويضيف صادق: «الوالد كان دائما متفائلا حتى في أيام السجن الانفرادي، وكان يقول الوضع سيئ ولا توجد غرف ولكن يجب أن نستحمل هذا الوضع... لأننا اخترنا هذا الطريق، والوالدة كانت شديدة بأس. وفي العام 2000 أيضا زار سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الوالد في المستشفى العسكري، وكان سموه يتكلم عن علاقته بالوالد في المجلس الوطني».
يقول صادق إنه «بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول 2000 تفاجأنا ببعض الأمور، والمفاجأة الأكبر أن بعض أطراف المخابرات لم تكن تعلمها، وجرى اتصال من شخصية رفيعة المستوى وطلبوا مني ترتيب لقاء في نهاية أغسطس/ آب، كما طلبوا مني أن أدعو الوالد إلى اللقاء، وهو بدوره لم يرفض، وأخذت الوالد، وكانت مشكلتنا أن المخابرات لم تكن تسمح له بالخروج إلا في أماكن معينة لا تتجاوز أربعة بيوت».
فعلا ذهبنا إلى بيت هذا الشخص رفيع المستوى، وعندما حضر كان الترحاب عاليا، وهذا الشخص كانت تربطه بالوالد علاقة قديمة سبقت الحوادث الأمنية، وكانا يكنان الاحترام لبعضهما البعض، وذكر للوالد أن «سمو الأمير سيبدأ خطوات ايجابية للإصلاح وهو يأمل في تفاعلكم مع هذه الخطوات»... وكان رد الوالد «سأخدم البلد بما يتناسب مع وضعي».
ويوضح الجمري أنه «في بداية النصف الأخير من العام 2000 أعلن حينها عن إجراء انتخابات بلدية مباشرة، وهنا بدأت أول مبادرة من قبل الوالد، فصاغ رسالة إلى سمو الأمير مباشرة، وشاور فيها مجموعة من الأشخاص، حيا فيها سموه على هذه الخطوة وشكر القيادة وتمنى أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى، ولكن واجهتنا عقبة إيصال هذه الرسالة»، ووجدنا الحل عند مستشار جلالة الملك حسن فخرو الذي تردد في المرة الأولى حينما أخبرناه بالموضوع مع الاستشاري علي العرادي، ولكنه قبل في النهاية، وسلمناه الرسالة في منزله بعالي، وهو بدوره أوصلها لسمو الأمير».
ولم يمر يوم واحد حتى اتصل بنا حسن فخرو، وأبلغنا أن سمو الأمير كان مسرورا بالرسالة، وقرأها في الطائرة أثناء توجهه للدوحة في نهاية الأسبوع، ووجه لنا فخرو دعوة للقاء سمو الأمير في يوم العيد الذي كان في صبيحة اليوم الذي تلا العطلة مباشرة.
المخابرات لم تبارح الوالد حتى أثناء توجهنا إلى القصر لمقابلة سمو الأمير، وعند وصولنا القصر تفاجأ الجميع بالاستقبال الكبير الذي قابل به سمو الأمير الوالد، والتلفزيون لم يكن يبث كل اللقطات، وكان الترحيب عاليا، وقال «أهنيك يا سمو الأمير بالعيد وأشكرك على هذه المبادرة وأتوسم فيك الخير، وشعب البحرين يستحق أكثر»، وكان جوابه سموه: «سترون أياما أجمل في الطريق».
وبخلاف الفترة السابقة مر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 ولم يحدث أي تطور ايجابي، ولم تحدث أية مبادرات في هذه الفترة، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه جرى تحرك من بعض الشخصيات المحسوبة على السلطة التي لم يرتح الوالد لأسلوبها، وتأزمت الأمور أكثر، وفي هذه المرحلة كان الوضع أوشك على الانهيار، وبدأ الوالد يتخذ موقفا متصلبا بعكس المرونة الكبيرة التي أبداها في التفاعل سابقا.
ومن ضمن المحطات المهمة في هذه الفترة طلب وزير الداخلية مقابلة الوالد، مضيفا: «استجاب الوالد فعلا، فزار وزير الداخلية الذي كان مع عدد من كبار مسئولي الوزارة، وكانت معاملتهم طيبة». وقال الوزير للوالد: «إن سمو الأمير طرح مشروع ميثاق العمل الوطني (...) الوالد قابلهم بأخلاق طيبة ولكن لم يكن متجاوبا مع ما طرحوه، لقناعته بأن الحوار يجب أن يكون مع رجال السياسة وليس رجال الأمن، وكان يكرر أنه لا يحب تكرار ما حدث في فترة المبادرة».
ويضيف الجمري مستذكرا تلك المرحلة: «الجو السياسي أصبح متلبدا بالغيوم، بسبب وجود بعض التأزم أو لنسمِّه عدم اندفاع الأمور إلى الأمام، وعمت حالة من عدم الارتياح مصحوبة بالتوجس العام بهذا الركود، والوالد كان يفكر في الخروج من هذا المنعطف بسلام من أجل المضي قدما في مشروع التوافق الوطني والإصلاح السياسي».
ويشير صادق إلى أن الشيخ الجمري اتصل في هذه الفترة بمستشار سمو الأمير حسن فخرو مرة أخرى لمعرفة حقيقة التحركات، واجتمع مع الوالد فعلا، مردفا: «زارنا فخرو في المنزل وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة (قبل صلاة الظهر)، ونقل للوالد تحيات سمو الأمير، وكان هذا اللقاء الأول في منتصف يناير 2001، وكان في قمة الايجابية، وبشّر بخطوات مقبلة، وفخرو ترك انطباعا طيبا عند الوالد، وارتاح معه كثيرا، لكن الوالد كان يحبذ التعامل عبر قناة حسن فخرو، لأنه شعر فيه الصدق».
واللقاء الآخر بين سمو الأمير والوالد كان يوم السبت في أواخر شهر يناير، والتقى سمو الأمير في قصر الصافرية، وكان الأمير جالسا في النصف، وكان على يساره وزير العدل والشئون الإسلامية حينها الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة والوزير جواد العريض وقضاة محكمة الاستئناف العليا الجعفرية، الشيخ سليمان المدني والشيخ أحمد العصفور بالإضافة إلى محمدعلي الستري ورئيس محكمة الاستئناف العليا السنية الشيخ يوسف الصديقي، وأثنى سمو الأمير على دور علماء الدين في خدمة المجتمع، وعقّب كل من الشيخ سليمان والوالد بكلام عام».
عند خروجنا من القصر تحدث الوالد لسمو الأمير، وقال له: «سموكم تعرفون انني رجل صريح»، ورد عليه سمو الأمير: «شيخ عبدالامير أنا استمعت لكل خطبك منذ السبعينيات حتى الآن، وأعرف اعتدالك وحكمتك»، فتابع الوالد: «نحن محتاجون إلى خطوات لتهيئة الأجواء»، وسأل الشيخ سمو الأمير: «هل سيتم الإفراج عن المسجونين؟»، وأجابه سموه بـ «نعم»، وعقب الشيخ «وحتى المحكومين؟»، فقال سموه «نعم»، وقال «حتى أستاذ حسن مشيمع وأستاذ عبدالوهاب»، فقال سموه: «شيخ عبدالأمير كلهم سيخرجون في 5 فبراير»... خرج الوالد مستبشرا من اللقاء، ولم يكن يصدق هذا الحلم، لأنه كان يحمل هم المعتقلين، وأراد أن يخبر الناس بما جرى.
وقد لا يصدق أحد أنه حتى بعد هذا اللقاء تفاجأنا بأن المخابرات لم تتحرك من محيط البيت على رغم اللقاء بسمو الأمير (...) اتصلنا بحسن فخرو وذكرنا له أن المخابرات مازالت موجودة، وبعد الاتصالات خف تواجدهم بعد أن جرت اتصالات مع الديوان مباشرة.
ومنذ لقائه سمو الأمير صلى الشيخ الجمري ثلاث صلوات جمعة في جامع الإمام زين العابدين (ع) قبل خروج المسجونين، وتميزت الصلوات بحضور جماهيري واسع لم يسبق له مثيل بني جمرة، وكنا نفرش الشوارع المحيطة بالمسجد... لقد كان منظرا رهيبا، وبدأت تتكثف الاتصالات لتذليل بعض العقبات بسبب تصرفات رجال الأمن، وقال الشيخ عبدالأمير لحسن فخرو سأخطب بعد 5 فبراير، وكان يتحدث عن جهة التشريع، فأجاب فخرو بأنها ستكون للسلطة المنتخبة.
ويضيف الجمري أنه في هذه الفترة برزت شخصيات أصبح لها حضور مهم، وهي شخصيات وسطية ولها اتصالات ببعض رجالات السلطة، وكانت تحاول تذليل الصعاب مثل الشيخ علي العريبي بدرجة أولى ثم المستشار القانوني حسن رضي والناشط عبدالعزيز أبل، وكانوا يحاولون دفع الأمور قدما إلى الأمام، وهؤلاء الثلاثة كانوا يبدون آراءهم للوالد، وبفضل هذه الجهود أزيلت القيود الأمنية بنسبة 90 في المئة، وكان الوالد يكثر من لقاء الناس أكثر بشكل واسع وملفت جدا.
ويشير الجمري إلى دور السيد عبدالله الغريفي في هذه الفترة في دعم مواقف الوالد، بل عقد اجتماعا موسعا مع عدد كبير من رجال الدين في بيتنا قبل خطبة الشيخ التاريخية، والغريفي أطلعهم على مشروع الميثاق، وكان بحضور مجموعة واسعة من علماء الدين العائدين من قم وبعض من كانوا يصلون الجماعة، واتفق معهم على أن «القول ما قال الجمري».
وأتذكر أن هذا الاجتماع كان في صبيحة الخميس، بعد يوم من الإفراج عن الناشطين حسن مشيمع وعبدالوهاب حسين، وفي الوقت نفسه كانت للوالد اتصالاته بلجنة العريضة وجماعة المبادرة وجماعة لندن وجماعة قم، وكان ذلك اليوم طويلا جدا أكثر من أي يوم آخر، وبعضهم كان يبدي موقفا متصلبا.
وقبل صلاة المغرب بخمس دقائق، اتصل بي الشيخ علي العريبي، وقال: «صادق تعال ضروري»، وذهبت إلى بيت الوالد وكان السيد عبدالله الغريفي موجودا وعلي العريبي وعبدالوهاب حسين بالإضافة إلى الوالد الذي طلب مني ترتيب لقاء عاجل مع سمو الأمير، واتصلت بحسن فخرو، وأخبرته بطلب الوالد (...) وبعد خمس دقائق اتصل حسن فخرو، وقال «صادق تعالوا فورا».
بعد الصلاة ذهب الأربعة إلى قصر الصافرية وكان حاضرا في اللقاء سمو الأمير والوزير جواد العريض، وتحدث الوالد موجها خطابه لسمو الأمير: «تدارسنا الميثاق، والصورة أصبحت واضحة، ونحن مطمئنون»، وفي هذه الأثناء تدخل السيد عبدالله الغريفي قائلا: «يا سمو الأمير بقيت نافذتان نحب إغلاقهما ليكتمل البناء»، وكانت نبرة السيد الغريفي هادئة وايجابية، وكان يرمز بالنوافذ والبيت إلى التوافق الوطني، وطلب توثيق ما تم الاتفاق عليه، وفعلا خرج التصريح الشهير لرئيس لجنة الميثاق الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة بأن «مجلس الشورى سيكون لإبداء الرأي ولكن التشريع سيكون لمجلس النواب»، وتصدر هذا التصريح المهم الصفحات الأولى في الصحف.
وفي ظهر اليوم الثاني خطب المرحوم الوالد خطبته الشهيرة في جامع الإمام الصادق(ع) الدراز، والتي خاطب فيها الجموع المحتشدة من آلاف المصلين بعبارته التاريخية: «يشهد الله لقد اشتقت لكم اشتياق يعقوب إلى يوسف»، وكان الجو مشحونا بين الألم والأمل، ثم طلب الوالد من الأستاذ عبدالوهاب تلاوة موقفه من الميثاق، وبعد هذا الخطاب تسارعت الأمور والاتصالات، وكانت السلطة تتجاوب مع مطالب الناس الحياتية.
وينوه الجمري إلى حدث مهم آخر في تلك الفترة تمثل في زيارة الشيخ الجمري إلى سمو رئيس الوزراء في دار الحكومة وحضر اللقاء السيد عبدالله الغريفي والشيخ علي العريبي والأستاذ عبدالوهاب حسين، وأذكر أنه حتى هذه الفترة لم تتوقف محكمة أمن الدولة قانونا على الأقل.
كان اللقاء مع سمو رئيس الوزراء وديا وجديا، وتحدث بحضور الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة عن ذكرياته مع الوالد في المجلس الوطني، وقال سموه «أحب أبشرك أبوجميل أننا سنتخذ اليوم قرارا بإنهاء قانون أمن الدولة»، ومعروف عن الوالد أنه كان يتحكم بانفعالاته عدا هذه المرة، فأمام رئيس الوزراء استبشر الوالد خيرا ورفع يديه بالدعاء، ووعد سموه بمنح الجنسية لكل البدون، وكان صدى اللقاء ايجابيا جدا، واتصل ببعض الوجهاء المهتمين بشأن الجوازات... ويختتم صادق قائلا: «كان الشيخ محبوبا ومقدرا لأنه كان صادقا مع نفسه ومع السلطة ومع الناس».
ملف الجمري
كان موجودا في كل زاوية... في رأي واحد لا يقبل أن يكون اثنين
المواطنون: الشيخ الجمري كان قريبا من الفقراء يتحسس آلامهم وينتصر لهم
الوسط - مالك عبدالله
لم يترك زاوية إلا ووضع بصماته فيها، البشاشة والابتسامة وحزم العمل وقت الجد، والحب والحنان والاحترام والتواضع والأخلاق والوطنية ظل ينثرها في كل زاوية كان يزورها، ينثرها من دون ان يترك ركنا دون الآخر... هو كالمطر الذي يتساقط على الأرض القاحلة فيجعلها خضراء تسر كل من ينظر إليها، يصنع تاريخا بما ينثره من صفات حميدة وجهادية قل نظيرها، يبعث بنظراته الحياة في نفوس قتلها التمييز والقهر والتعذيب، ابتسامته هي رسالة حب، وحزمه رسالة جد، وعطفه رسالة حنان، وشعره رسالة فكر وأدب، وخطبه حياة لشعب وانتصار لمظلوم وتطبيق لشرع الله في أرضه، إنه بلا شك العلامة الفقيد الشيخ عبدالأمير الجمري الذي لم يترك ركنا في البحرين إلا وحفر اسمه فيه بشتى الأشكال والطرق. لم يتأخر يوما عن الفقراء، كان منهم وبينهم، يزورهم، يساعدهم، يتحسس آلامهم، يطالب برفع الظلم عنهم وعن جميع أبناء الشعب.
«الوسط» حاولت أن تجمع من كل بستان زهرة لها رائحة المسك والعنبر التي وضعها الجمري في تلك البساتين التي حولها الإهمال الحكومي إلى أراض قاحلة من الخدمات، إلا أن أهلها كانوا نورا يشع بالحب والسلام والخير، وكانوا زهورا على رغم أنف من أراد لهم الموت تحت وطأة أجهزة أمن الدولة، لأن هناك من كان يبث فيهم الحياة.
من قرية سماهيج إلى البلاد القديم وصولا إلى جزيرة سترة وحتى غرب البحرين في كرزكان كان الرأي واحدا لا يقبل أن يكون اثنين أبدا، فالجميع يؤكد أن «سماحته كان شخصية عظيمة قريبة من الجميع»، منوهين إلى أنه «كان قريبا من الناس ويتحسس آلامهم، ولم يكن ينسى الفقراء أبدا وكان بينهم دائما ويسأل عنهم باستمرار، ويمد لهم يد العون»، مستطردين «كان سماحته لا يترك زيارة القرى والمناطق في الأفراح والأتراح، ليكون قريبا منا».
«سماهيج»: زيارة الفقراء كانت ضمن أجندته
كانت لنا وقفة مع أحد شخصيات قرية سماهيج وهو الحاج أحمد حسن علي بوصفوان الذي أكد أن «الشيخ الجمري كان مهتما بجميع ابناء البحرين، وذلك بحكم موقعه وكان يحمل هموم الأمة كلها»، مشيرا إلى ان «الشيخ الجمري رحمة الله عليه كان يصلي ليلة الأحد من كل اسبوع في سماهيج لمدة 13 عاما منذ العام 1982 وحتى الانتفاضة وكنت في غالب الاحيان اقوم بتوصيله»، منوها إلى أن «الشيخ كان في طريق العودة دائما يقوم بزيارة بعض الأشخاص سواء العلماء أو المرضى أو حتى المحتاجين، فمثلا كان يزور أي شخص يعلم انه محتاج إلى المساعدة فمنهم مثلا أشخاص تحترق منازلهم فيقوم بزيارتهم ومساعدتهم من أجل إعادة بناء منازلهم وهذه أشياء كنت شاهدا عليها»، معتبرا ان «علاقته بالفقراء كانت قوية للغاية وقديمة»، مضيفا ان «الشيخ كان متواضعا للجميع وعلى رغم مرضه إلا أنه كان يصر على الوقوف لأي شخص سواء كان صغيرا او كبيرا للترحيب به». مختتما حديثه بالقول: «كان يرحمه الله بشوشا ولكنه حازم في وقت الجد».
«سترة»: كان يهتم بالبحريني بصفته بحرينيا
من جهته نوه احد أهالي سترة وهو ابراهيم يوسف إلى أن «شخصية الشيخ الجمري كانت فريدة من نوعها وعطاءها وافر جدا من كل النواحي، كان يهتم بالبحريني بصفته بحرينيا سواء في سترة أو غير سترة، مشيرا إلى أنه «كان يحب سترة، حتى انه صرح بلسانه في احدى الزيارات أن سترة عزيزة على قلبه، كما ان له علاقات مع علماء وأهالي سترة»، مستدركا «وهناك الكثير من المعونات التي كانت تصل عن طريق مكتب الشيخ الجمري إلى الفقراء»، مؤكدا ان «الشيخ رحمة الله عليه كان يستقبل الوفود القادمة من سترة استقبالا خاصا حتى في أيام مرضه».
أما السيدرضا أحمد الذي ينتمي إلى سترة فاعتبر أن «الشيخ الجمري رمزا وطنيا لا نزاع عليه وكان متصلا بالجمهور اتصالا لصيقا، وكان متلمسا لهمومهم الاجتماعية والسياسية والدينية، وكان قائدا ونعم القائد، والساحة تفتقر اليوم لشخصية بمثله»، مبينا أن «المرحوم كانت له زيارات دورية لقرى سترة، كما ان الاتصالات بين الأهالي وبينه لم تنقطع»، مضيفا «كان سماحته حنونا ومتواضعا ولا تشعر من حديثه أنه انسان صعب بل يخاطب الجميع بما يتناسب مع مستواهم».
«كرزكان»: علاقتنا مع الشيخ الجمري تاريخية
وإلى منطقة أخرى رحلنا إلى المنطقة الغربية وتحديدا قرية كرزكان، وتحدثنا مع جاسم المطوع الذي قال: «الشيخ الجمري كان خطيبا في كرزكان في العام 1994 كما أن العلاقة التاريخية بين سماحته وكرزكان تمتد لسنين طويلة منذ أن كان المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين في كرزكان»، معتبرا أن «سماحته كان شخصية عظيمة وصاحب هيبة وعلم، كما انني عملت في المحكمة الشرعية في الوقت الذي كان يعمل هو في القضاء الشرعي وذلك في العام 1984 وكان يعاملنا معاملة الأب لأبنائه وكان لا يتردد في تلبية حاجاتنا».
وقال جاسم مهدي ان «علاقة الشيخ بأهالي كرزكان كانت علاقة القائد بمن أحبوه، وكانت علاقة مبنية على اساس ان الرجل اخلص لله واخلص له الناس، وعلى اساس أن الشيخ قدم مشروعا يتفاعل مع مشاعرهم وهمومهم وأحاسيسهم»، مشيرا إلى أن «دعوته كانت مبنية على اسس واضحة وكانت حركته تمثل التنفيذ لهذه الدعوة، وأهالي كرزكان أعطوا الشيخ مكانته التي يستحقها باعتباره قدم رؤية للواقع الذين يعيشونه وكان يريد انتشال الناس من الواقع المؤلم»، موضحا ان «سماحة الشيخ كان يعيش مفاصل حياتهم، إذ كان حاضرا في الأفراح والأتراح»، وأكد ان «الشيخ الجمري لايزال حاضرا حتى اليوم إذ يتم تشكيل الوفود لزيارة قبره للتعبير عن العرفان، وكان أعيان كرزكان وفقراؤهم والعلماء والشباب والأكاديميون يكنون الاحترام والمحبة لهذا الرجل الذي قدم التضحيات في سبيل مطالبهم، كما انه ضحى بنفسه وعائلته من اجل الوصول إلى هدفه وهو حقق جزء من هذا الهدف ولكن الظروف لم تكن في متناوله والأهم أنه كان صادقا ومخلصا في عمله».
من جانب آخر اعتبر احمد جابر العباس أن «الشيخ لا يحتاج إلى تعريف لأن تعريفه هو توضيح الواضح، إذ انه من الشخصيات المرموقة وهو شخصية نموذجية إلى مناطق عدة في البحرين ويحتذى به ويشار إليه بالبنان، كان يتمتع بشخصية ذات أبعاد دينية وسياسية واجتماعية، والعلاقة التي كانت تربط سماحة الشيخ بالأهالي هي علاقة حميمة وكانت علاقة أب مع ابناء، وما زاد الارتباط بين أهالي كرزكان وسماحته هو أنه كان وكيل المرحوم المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين وكان معظم أهالي القرية يرجعون إليه في الأمور الدينية».
ونوه العباس إلى أن «انتفاضة التسعينات زادت تعلق أهالي كرزكان بسماحة الشيخ وخصوصا الشباب»، مبينا أن «المرحوم كان من بين الأوائل الذين يحضرون عند الشيخ زين الدين»، مؤكدا ان «الشيخ الجمري كان مهتما بالفقراء ودائم السؤال عنهم كما أنه لا يتوانى في مساعدة أي منهم كما أنه كان يزور القرية باستمرار ويتواصل مع الأهالي وله علاقات وطيدة مع الكثير من العوائل والأشخاص في كرزكان».
«البلاد القديم»: علاقتنا بالشيخ كانت وطيدة وقوية
وفي سياق متصل بين السيدعلي سيدجمعة من منطقة البلاد القديم أن «سماحة الشيخ الجمري كانت له علاقة وطيدة مع اهالي البلاد القديم كما انه تتلمذ الخطابة الحسينية على يدي أحد خطباء البلاد القديم»، مشيرا إلى أن «سماحته كان يرتبط بعلاقات قديمة ووثيقة مع بعض شخصيات اهالي البلاد القديم ومنهم الحاج كاظم والحاج موسى البزاز»، منوها إلى أن «الشيخ الجمري كان من الداعمين لموكب النساء الذي كان فكرة رائعة أفشلتها أجهزة الأمن والقمع آنذاك»، معتبرا أنه «كان شخصية عظيمة في نفسه، كما انه كان قريبا من الجميع واستطيع أن أقول انه كان قريبا جدا جدا منهم، وأي متحدث معه لا يحس أن بينه وبين سماحته رحمة الله عليه أي حاجز أو فرق».
المواطنون: الشيخ الجمري كان قريبا من الفقراء يتحسس آلامهم وينتصر لهم
الوسط - مالك عبدالله
لم يترك زاوية إلا ووضع بصماته فيها، البشاشة والابتسامة وحزم العمل وقت الجد، والحب والحنان والاحترام والتواضع والأخلاق والوطنية ظل ينثرها في كل زاوية كان يزورها، ينثرها من دون ان يترك ركنا دون الآخر... هو كالمطر الذي يتساقط على الأرض القاحلة فيجعلها خضراء تسر كل من ينظر إليها، يصنع تاريخا بما ينثره من صفات حميدة وجهادية قل نظيرها، يبعث بنظراته الحياة في نفوس قتلها التمييز والقهر والتعذيب، ابتسامته هي رسالة حب، وحزمه رسالة جد، وعطفه رسالة حنان، وشعره رسالة فكر وأدب، وخطبه حياة لشعب وانتصار لمظلوم وتطبيق لشرع الله في أرضه، إنه بلا شك العلامة الفقيد الشيخ عبدالأمير الجمري الذي لم يترك ركنا في البحرين إلا وحفر اسمه فيه بشتى الأشكال والطرق. لم يتأخر يوما عن الفقراء، كان منهم وبينهم، يزورهم، يساعدهم، يتحسس آلامهم، يطالب برفع الظلم عنهم وعن جميع أبناء الشعب.
«الوسط» حاولت أن تجمع من كل بستان زهرة لها رائحة المسك والعنبر التي وضعها الجمري في تلك البساتين التي حولها الإهمال الحكومي إلى أراض قاحلة من الخدمات، إلا أن أهلها كانوا نورا يشع بالحب والسلام والخير، وكانوا زهورا على رغم أنف من أراد لهم الموت تحت وطأة أجهزة أمن الدولة، لأن هناك من كان يبث فيهم الحياة.
من قرية سماهيج إلى البلاد القديم وصولا إلى جزيرة سترة وحتى غرب البحرين في كرزكان كان الرأي واحدا لا يقبل أن يكون اثنين أبدا، فالجميع يؤكد أن «سماحته كان شخصية عظيمة قريبة من الجميع»، منوهين إلى أنه «كان قريبا من الناس ويتحسس آلامهم، ولم يكن ينسى الفقراء أبدا وكان بينهم دائما ويسأل عنهم باستمرار، ويمد لهم يد العون»، مستطردين «كان سماحته لا يترك زيارة القرى والمناطق في الأفراح والأتراح، ليكون قريبا منا».
«سماهيج»: زيارة الفقراء كانت ضمن أجندته
كانت لنا وقفة مع أحد شخصيات قرية سماهيج وهو الحاج أحمد حسن علي بوصفوان الذي أكد أن «الشيخ الجمري كان مهتما بجميع ابناء البحرين، وذلك بحكم موقعه وكان يحمل هموم الأمة كلها»، مشيرا إلى ان «الشيخ الجمري رحمة الله عليه كان يصلي ليلة الأحد من كل اسبوع في سماهيج لمدة 13 عاما منذ العام 1982 وحتى الانتفاضة وكنت في غالب الاحيان اقوم بتوصيله»، منوها إلى أن «الشيخ كان في طريق العودة دائما يقوم بزيارة بعض الأشخاص سواء العلماء أو المرضى أو حتى المحتاجين، فمثلا كان يزور أي شخص يعلم انه محتاج إلى المساعدة فمنهم مثلا أشخاص تحترق منازلهم فيقوم بزيارتهم ومساعدتهم من أجل إعادة بناء منازلهم وهذه أشياء كنت شاهدا عليها»، معتبرا ان «علاقته بالفقراء كانت قوية للغاية وقديمة»، مضيفا ان «الشيخ كان متواضعا للجميع وعلى رغم مرضه إلا أنه كان يصر على الوقوف لأي شخص سواء كان صغيرا او كبيرا للترحيب به». مختتما حديثه بالقول: «كان يرحمه الله بشوشا ولكنه حازم في وقت الجد».
«سترة»: كان يهتم بالبحريني بصفته بحرينيا
من جهته نوه احد أهالي سترة وهو ابراهيم يوسف إلى أن «شخصية الشيخ الجمري كانت فريدة من نوعها وعطاءها وافر جدا من كل النواحي، كان يهتم بالبحريني بصفته بحرينيا سواء في سترة أو غير سترة، مشيرا إلى أنه «كان يحب سترة، حتى انه صرح بلسانه في احدى الزيارات أن سترة عزيزة على قلبه، كما ان له علاقات مع علماء وأهالي سترة»، مستدركا «وهناك الكثير من المعونات التي كانت تصل عن طريق مكتب الشيخ الجمري إلى الفقراء»، مؤكدا ان «الشيخ رحمة الله عليه كان يستقبل الوفود القادمة من سترة استقبالا خاصا حتى في أيام مرضه».
أما السيدرضا أحمد الذي ينتمي إلى سترة فاعتبر أن «الشيخ الجمري رمزا وطنيا لا نزاع عليه وكان متصلا بالجمهور اتصالا لصيقا، وكان متلمسا لهمومهم الاجتماعية والسياسية والدينية، وكان قائدا ونعم القائد، والساحة تفتقر اليوم لشخصية بمثله»، مبينا أن «المرحوم كانت له زيارات دورية لقرى سترة، كما ان الاتصالات بين الأهالي وبينه لم تنقطع»، مضيفا «كان سماحته حنونا ومتواضعا ولا تشعر من حديثه أنه انسان صعب بل يخاطب الجميع بما يتناسب مع مستواهم».
«كرزكان»: علاقتنا مع الشيخ الجمري تاريخية
وإلى منطقة أخرى رحلنا إلى المنطقة الغربية وتحديدا قرية كرزكان، وتحدثنا مع جاسم المطوع الذي قال: «الشيخ الجمري كان خطيبا في كرزكان في العام 1994 كما أن العلاقة التاريخية بين سماحته وكرزكان تمتد لسنين طويلة منذ أن كان المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين في كرزكان»، معتبرا أن «سماحته كان شخصية عظيمة وصاحب هيبة وعلم، كما انني عملت في المحكمة الشرعية في الوقت الذي كان يعمل هو في القضاء الشرعي وذلك في العام 1984 وكان يعاملنا معاملة الأب لأبنائه وكان لا يتردد في تلبية حاجاتنا».
وقال جاسم مهدي ان «علاقة الشيخ بأهالي كرزكان كانت علاقة القائد بمن أحبوه، وكانت علاقة مبنية على اساس ان الرجل اخلص لله واخلص له الناس، وعلى اساس أن الشيخ قدم مشروعا يتفاعل مع مشاعرهم وهمومهم وأحاسيسهم»، مشيرا إلى أن «دعوته كانت مبنية على اسس واضحة وكانت حركته تمثل التنفيذ لهذه الدعوة، وأهالي كرزكان أعطوا الشيخ مكانته التي يستحقها باعتباره قدم رؤية للواقع الذين يعيشونه وكان يريد انتشال الناس من الواقع المؤلم»، موضحا ان «سماحة الشيخ كان يعيش مفاصل حياتهم، إذ كان حاضرا في الأفراح والأتراح»، وأكد ان «الشيخ الجمري لايزال حاضرا حتى اليوم إذ يتم تشكيل الوفود لزيارة قبره للتعبير عن العرفان، وكان أعيان كرزكان وفقراؤهم والعلماء والشباب والأكاديميون يكنون الاحترام والمحبة لهذا الرجل الذي قدم التضحيات في سبيل مطالبهم، كما انه ضحى بنفسه وعائلته من اجل الوصول إلى هدفه وهو حقق جزء من هذا الهدف ولكن الظروف لم تكن في متناوله والأهم أنه كان صادقا ومخلصا في عمله».
من جانب آخر اعتبر احمد جابر العباس أن «الشيخ لا يحتاج إلى تعريف لأن تعريفه هو توضيح الواضح، إذ انه من الشخصيات المرموقة وهو شخصية نموذجية إلى مناطق عدة في البحرين ويحتذى به ويشار إليه بالبنان، كان يتمتع بشخصية ذات أبعاد دينية وسياسية واجتماعية، والعلاقة التي كانت تربط سماحة الشيخ بالأهالي هي علاقة حميمة وكانت علاقة أب مع ابناء، وما زاد الارتباط بين أهالي كرزكان وسماحته هو أنه كان وكيل المرحوم المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين وكان معظم أهالي القرية يرجعون إليه في الأمور الدينية».
ونوه العباس إلى أن «انتفاضة التسعينات زادت تعلق أهالي كرزكان بسماحة الشيخ وخصوصا الشباب»، مبينا أن «المرحوم كان من بين الأوائل الذين يحضرون عند الشيخ زين الدين»، مؤكدا ان «الشيخ الجمري كان مهتما بالفقراء ودائم السؤال عنهم كما أنه لا يتوانى في مساعدة أي منهم كما أنه كان يزور القرية باستمرار ويتواصل مع الأهالي وله علاقات وطيدة مع الكثير من العوائل والأشخاص في كرزكان».
«البلاد القديم»: علاقتنا بالشيخ كانت وطيدة وقوية
وفي سياق متصل بين السيدعلي سيدجمعة من منطقة البلاد القديم أن «سماحة الشيخ الجمري كانت له علاقة وطيدة مع اهالي البلاد القديم كما انه تتلمذ الخطابة الحسينية على يدي أحد خطباء البلاد القديم»، مشيرا إلى أن «سماحته كان يرتبط بعلاقات قديمة ووثيقة مع بعض شخصيات اهالي البلاد القديم ومنهم الحاج كاظم والحاج موسى البزاز»، منوها إلى أن «الشيخ الجمري كان من الداعمين لموكب النساء الذي كان فكرة رائعة أفشلتها أجهزة الأمن والقمع آنذاك»، معتبرا أنه «كان شخصية عظيمة في نفسه، كما انه كان قريبا من الجميع واستطيع أن أقول انه كان قريبا جدا جدا منهم، وأي متحدث معه لا يحس أن بينه وبين سماحته رحمة الله عليه أي حاجز أو فرق».
العدناني (ره) يرثي الجمري(ره)
الخطيب العدناني يرثي الشيخ الجمري
هذه القصيدة نظمها الخطيب العدناني السيدمحمد صالح عدنان الموسوي في رثاء القائد الحكيم والعالم الفقيه الشيخ عبدالأمير بن الحاج منصور الجمري المتوفى فجر الاثنين 26 ذوالقعدة 1427هجرية الموافق 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006. وقد انتقل الخطيب العدناني الى الرفيق الأعلى بعد شهر واحد من القائه هذه القصيدة.
عز الإبا عنكِ يا بحرين قد رحلا
والذل والبؤس في أبناك قد نزلا
وزال عن كل من فيك الخضوع هوى
ما كان يخشاه من أبنائك النبلا
وصار يشري بما يعطي ضمائرهم
ودينهم فاغتدوا رقا له خولا
الله ماذا أبومنصور من محن
لاقى وماذا من الذل الذي احتملا
مازال تحت جميل الصبر مضطهدا
حتى تفرع في جثمانه عللا
قضت على عينه والسمع فانمحقا
وأوسعت كل أعضا جسمه عطلا
حتى استجاب لأمر الله فالتمعت
أنواره تسبق الأملاك والرسلا
فارتجت الأرض في البحرين معوِلة
حزنا به كل طرف عاد مكتحلا
وأقبلت زمر التشييع طائرة
من كل فج وصوب تقطع السبلا
كادت تغسله مما له سكبت
من المدامع لولا دمعها انتقلا
وعن نسيج من الأكفان أفئدة
ودت تكفنه ممن له احتملا
وكان من حقه ألا يقام له
غسلٌ ولا كفنٌ إذ في المقام علا
بل أن يوارى مواراة الشهيد فقد
قضى شهيدا وفيه الفضل قد كملا
أبا جميل فسر نحو النعيم فما
قضيت دنياك إلا في أسى وبلا
نظرت دستورهم جورا وكنت لهم
قاض فآثرت ترك الحكم معتزلا
وصغت مما بنو فيه معارضة
نالوا كما نلت منها الضر والوجلا
فأدخلوك سجون الحبس من سجن
لآخر حيث ما من منكر حصلا
زرعت منه لتحرير البلاد نوى
أضحى نخيلا طوالا تثمر العسلا
بك اقتدت رؤسا التحرير ثائرة
في كل قطر لمن عن حقهم عدلا
مظاهرات وإضراب وبعدهما
للاعتصام ومنه تبلغ الأملا
إن غبت شخصا فعنا لم تغب كلِما
أو غبت موتا فعنا لم تغب بطلا
فبعد عبدالأمير اليوم طائفة
قامت لتعمل ما بالأمس قد عملا
هذا علي بن سلمان ويتبعه
حزب الوفاق أعاد اليوم ما انفصلا
جاءت لتشييعك الأقطار ترفع
أعلام السواد بدمع أعمش المقلا
والمركبات إذا مرت ترجلت
الركاب منها إلى التشييع كي يصلا
لو المليك بهم يجتاز جاء لهم
بعمه وولي العهد مشتملا
أما أنا فلقد والله قمت إلى
تشييعه أسبق الأقوام والمللا
لكن سقمي أعياني القيام به
فصرت أدعو لمن بالموكب اتصلا
وسقت عني جمالا فاضلا ورضا
ومعهم الروح راحت تسبق الرسلا
بالدار جسمي وروحي معهم انتقلت
تلقي على نعشه الأزهار والحللا
عفوا وعذرا بني عبدالأمير إذا
قصَّرت في شيخكم مدحا كما سألا
فالسقم مني كما أوهى الفؤاد قوى
أوهى القريحة والأفكار والنحلا
هذه القصيدة نظمها الخطيب العدناني السيدمحمد صالح عدنان الموسوي في رثاء القائد الحكيم والعالم الفقيه الشيخ عبدالأمير بن الحاج منصور الجمري المتوفى فجر الاثنين 26 ذوالقعدة 1427هجرية الموافق 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006. وقد انتقل الخطيب العدناني الى الرفيق الأعلى بعد شهر واحد من القائه هذه القصيدة.
عز الإبا عنكِ يا بحرين قد رحلا
والذل والبؤس في أبناك قد نزلا
وزال عن كل من فيك الخضوع هوى
ما كان يخشاه من أبنائك النبلا
وصار يشري بما يعطي ضمائرهم
ودينهم فاغتدوا رقا له خولا
الله ماذا أبومنصور من محن
لاقى وماذا من الذل الذي احتملا
مازال تحت جميل الصبر مضطهدا
حتى تفرع في جثمانه عللا
قضت على عينه والسمع فانمحقا
وأوسعت كل أعضا جسمه عطلا
حتى استجاب لأمر الله فالتمعت
أنواره تسبق الأملاك والرسلا
فارتجت الأرض في البحرين معوِلة
حزنا به كل طرف عاد مكتحلا
وأقبلت زمر التشييع طائرة
من كل فج وصوب تقطع السبلا
كادت تغسله مما له سكبت
من المدامع لولا دمعها انتقلا
وعن نسيج من الأكفان أفئدة
ودت تكفنه ممن له احتملا
وكان من حقه ألا يقام له
غسلٌ ولا كفنٌ إذ في المقام علا
بل أن يوارى مواراة الشهيد فقد
قضى شهيدا وفيه الفضل قد كملا
أبا جميل فسر نحو النعيم فما
قضيت دنياك إلا في أسى وبلا
نظرت دستورهم جورا وكنت لهم
قاض فآثرت ترك الحكم معتزلا
وصغت مما بنو فيه معارضة
نالوا كما نلت منها الضر والوجلا
فأدخلوك سجون الحبس من سجن
لآخر حيث ما من منكر حصلا
زرعت منه لتحرير البلاد نوى
أضحى نخيلا طوالا تثمر العسلا
بك اقتدت رؤسا التحرير ثائرة
في كل قطر لمن عن حقهم عدلا
مظاهرات وإضراب وبعدهما
للاعتصام ومنه تبلغ الأملا
إن غبت شخصا فعنا لم تغب كلِما
أو غبت موتا فعنا لم تغب بطلا
فبعد عبدالأمير اليوم طائفة
قامت لتعمل ما بالأمس قد عملا
هذا علي بن سلمان ويتبعه
حزب الوفاق أعاد اليوم ما انفصلا
جاءت لتشييعك الأقطار ترفع
أعلام السواد بدمع أعمش المقلا
والمركبات إذا مرت ترجلت
الركاب منها إلى التشييع كي يصلا
لو المليك بهم يجتاز جاء لهم
بعمه وولي العهد مشتملا
أما أنا فلقد والله قمت إلى
تشييعه أسبق الأقوام والمللا
لكن سقمي أعياني القيام به
فصرت أدعو لمن بالموكب اتصلا
وسقت عني جمالا فاضلا ورضا
ومعهم الروح راحت تسبق الرسلا
بالدار جسمي وروحي معهم انتقلت
تلقي على نعشه الأزهار والحللا
عفوا وعذرا بني عبدالأمير إذا
قصَّرت في شيخكم مدحا كما سألا
فالسقم مني كما أوهى الفؤاد قوى
أوهى القريحة والأفكار والنحلا
العدناني (ره) يرثي الجمري(ره)
الخطيب العدناني يرثي الشيخ الجمري
هذه القصيدة نظمها الخطيب العدناني السيدمحمد صالح عدنان الموسوي في رثاء القائد الحكيم والعالم الفقيه الشيخ عبدالأمير بن الحاج منصور الجمري المتوفى فجر الاثنين 26 ذوالقعدة 1427هجرية الموافق 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006. وقد انتقل الخطيب العدناني الى الرفيق الأعلى بعد شهر واحد من القائه هذه القصيدة.
عز الإبا عنكِ يا بحرين قد رحلا
والذل والبؤس في أبناك قد نزلا
وزال عن كل من فيك الخضوع هوى
ما كان يخشاه من أبنائك النبلا
وصار يشري بما يعطي ضمائرهم
ودينهم فاغتدوا رقا له خولا
الله ماذا أبومنصور من محن
لاقى وماذا من الذل الذي احتملا
مازال تحت جميل الصبر مضطهدا
حتى تفرع في جثمانه عللا
قضت على عينه والسمع فانمحقا
وأوسعت كل أعضا جسمه عطلا
حتى استجاب لأمر الله فالتمعت
أنواره تسبق الأملاك والرسلا
فارتجت الأرض في البحرين معوِلة
حزنا به كل طرف عاد مكتحلا
وأقبلت زمر التشييع طائرة
من كل فج وصوب تقطع السبلا
كادت تغسله مما له سكبت
من المدامع لولا دمعها انتقلا
وعن نسيج من الأكفان أفئدة
ودت تكفنه ممن له احتملا
وكان من حقه ألا يقام له
غسلٌ ولا كفنٌ إذ في المقام علا
بل أن يوارى مواراة الشهيد فقد
قضى شهيدا وفيه الفضل قد كملا
أبا جميل فسر نحو النعيم فما
قضيت دنياك إلا في أسى وبلا
نظرت دستورهم جورا وكنت لهم
قاض فآثرت ترك الحكم معتزلا
وصغت مما بنو فيه معارضة
نالوا كما نلت منها الضر والوجلا
فأدخلوك سجون الحبس من سجن
لآخر حيث ما من منكر حصلا
زرعت منه لتحرير البلاد نوى
أضحى نخيلا طوالا تثمر العسلا
بك اقتدت رؤسا التحرير ثائرة
في كل قطر لمن عن حقهم عدلا
مظاهرات وإضراب وبعدهما
للاعتصام ومنه تبلغ الأملا
إن غبت شخصا فعنا لم تغب كلِما
أو غبت موتا فعنا لم تغب بطلا
فبعد عبدالأمير اليوم طائفة
قامت لتعمل ما بالأمس قد عملا
هذا علي بن سلمان ويتبعه
حزب الوفاق أعاد اليوم ما انفصلا
جاءت لتشييعك الأقطار ترفع
أعلام السواد بدمع أعمش المقلا
والمركبات إذا مرت ترجلت
الركاب منها إلى التشييع كي يصلا
لو المليك بهم يجتاز جاء لهم
بعمه وولي العهد مشتملا
أما أنا فلقد والله قمت إلى
تشييعه أسبق الأقوام والمللا
لكن سقمي أعياني القيام به
فصرت أدعو لمن بالموكب اتصلا
وسقت عني جمالا فاضلا ورضا
ومعهم الروح راحت تسبق الرسلا
بالدار جسمي وروحي معهم انتقلت
تلقي على نعشه الأزهار والحللا
عفوا وعذرا بني عبدالأمير إذا
قصَّرت في شيخكم مدحا كما سألا
فالسقم مني كما أوهى الفؤاد قوى
أوهى القريحة والأفكار والنحلا
هذه القصيدة نظمها الخطيب العدناني السيدمحمد صالح عدنان الموسوي في رثاء القائد الحكيم والعالم الفقيه الشيخ عبدالأمير بن الحاج منصور الجمري المتوفى فجر الاثنين 26 ذوالقعدة 1427هجرية الموافق 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006. وقد انتقل الخطيب العدناني الى الرفيق الأعلى بعد شهر واحد من القائه هذه القصيدة.
عز الإبا عنكِ يا بحرين قد رحلا
والذل والبؤس في أبناك قد نزلا
وزال عن كل من فيك الخضوع هوى
ما كان يخشاه من أبنائك النبلا
وصار يشري بما يعطي ضمائرهم
ودينهم فاغتدوا رقا له خولا
الله ماذا أبومنصور من محن
لاقى وماذا من الذل الذي احتملا
مازال تحت جميل الصبر مضطهدا
حتى تفرع في جثمانه عللا
قضت على عينه والسمع فانمحقا
وأوسعت كل أعضا جسمه عطلا
حتى استجاب لأمر الله فالتمعت
أنواره تسبق الأملاك والرسلا
فارتجت الأرض في البحرين معوِلة
حزنا به كل طرف عاد مكتحلا
وأقبلت زمر التشييع طائرة
من كل فج وصوب تقطع السبلا
كادت تغسله مما له سكبت
من المدامع لولا دمعها انتقلا
وعن نسيج من الأكفان أفئدة
ودت تكفنه ممن له احتملا
وكان من حقه ألا يقام له
غسلٌ ولا كفنٌ إذ في المقام علا
بل أن يوارى مواراة الشهيد فقد
قضى شهيدا وفيه الفضل قد كملا
أبا جميل فسر نحو النعيم فما
قضيت دنياك إلا في أسى وبلا
نظرت دستورهم جورا وكنت لهم
قاض فآثرت ترك الحكم معتزلا
وصغت مما بنو فيه معارضة
نالوا كما نلت منها الضر والوجلا
فأدخلوك سجون الحبس من سجن
لآخر حيث ما من منكر حصلا
زرعت منه لتحرير البلاد نوى
أضحى نخيلا طوالا تثمر العسلا
بك اقتدت رؤسا التحرير ثائرة
في كل قطر لمن عن حقهم عدلا
مظاهرات وإضراب وبعدهما
للاعتصام ومنه تبلغ الأملا
إن غبت شخصا فعنا لم تغب كلِما
أو غبت موتا فعنا لم تغب بطلا
فبعد عبدالأمير اليوم طائفة
قامت لتعمل ما بالأمس قد عملا
هذا علي بن سلمان ويتبعه
حزب الوفاق أعاد اليوم ما انفصلا
جاءت لتشييعك الأقطار ترفع
أعلام السواد بدمع أعمش المقلا
والمركبات إذا مرت ترجلت
الركاب منها إلى التشييع كي يصلا
لو المليك بهم يجتاز جاء لهم
بعمه وولي العهد مشتملا
أما أنا فلقد والله قمت إلى
تشييعه أسبق الأقوام والمللا
لكن سقمي أعياني القيام به
فصرت أدعو لمن بالموكب اتصلا
وسقت عني جمالا فاضلا ورضا
ومعهم الروح راحت تسبق الرسلا
بالدار جسمي وروحي معهم انتقلت
تلقي على نعشه الأزهار والحللا
عفوا وعذرا بني عبدالأمير إذا
قصَّرت في شيخكم مدحا كما سألا
فالسقم مني كما أوهى الفؤاد قوى
أوهى القريحة والأفكار والنحلا
ملف الجمري
رافقته سنوات فوجدته كريما ومعطاء وشجاعا ولا يهمه سوى الشعب
الحاج إبراهيم: الشيخ الجمري صنع تاريخا جميلا لا يُنسى
الوسط - مالك عبدالله
ذكريات يحفرها بشخصيته القريبة من القلوب، لحظة الجلوس معه لا يمكن نسيانها، يوما تكون فيه قريبا منه لا يمكن أن تنساه وخصوصا عندما يجلس معك متحدثا وناصحا ومعلما وقائدا وأبا بكل معاني الأبوة، فكيف إذا كان ذلك اليوم أياما، واللحظة لحظات، والذكرى ذكريات؟، تصبح تلك اللحظات والأيام والذكريات تاريخا لا يمكن أن يمحوها أي شيء من ذاكرتك الوجدانية والإنسانية حتى لو كانت مسرحيات تبث على التلفزيون وتنقلها وسائل إعلام كان حبرها ممزوجا بدماء الشعب، أو وسائل إعلام أخرى لا تمتلك إلا التذكير بأنّ الجلاد مازال موجودا وأنه قد يعود، غير أنّ من صنع التاريخ بإيمانه وعلاقته وحبه ووطنيته علم الجميع أن ذلك الزمن أبدا لن يعود، مادام هناك شعب حي يمنع عودة تلك الحقب الظلامية.
«الوسط» استرجعت شيئا من الذكريات مع أحد مرافقي المرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري في سنوات مضت، هموم الدنيا لم تنسه الحب الكبير الذي كان يوليه الشيخ الجمري له ولقريته (المقشع). التقينا بالحاج إبراهيم علي أحمد نصيف، وهو سائق «تاكسي» ينتمي إلى إحدى قرى المحافظة الشمالية، قرية كباقي القرى معدمة فقيرة تنتشر فيها البطالة والمطالب المجمدة، أنقذها بعض الشيء إقامة القرية النموذجية لتصبح قرية نموذجية داخل قرية ليس فيها من النموذجية إلا أهلها الطيبين، الحاج إبراهيم يؤكد أنّ «الشيخ الجمري كان همّه الأول هو الناس، وكان يرفض أيَّ حلٍّ لقضايا أبنائه لا يشمل جميع أبناء الشعب، لأنه كان يعتبر الجميع عائلته لا يفرق بين أحد منهم»، مشيرا إلى أنّ «للشيخ الجمري ذكريات جميلة معي لا أنساها أبدا كما أنّ له علاقات متميزة مع قرية المقشع، وكان هو المأذون الشرعي لمعظم الزيجات في الفترة التي كان فيها يقوم بتحرير العقود»، منوها إلى أن «الشيخ الجمري كان لا يزعل من أحد وكان يبادر لمراضاة الجميع، وكان متواصلا مع الشاب والشيخ وحتى الصغار، ويتعامل مع الجميع بما يتناسب مع أعمارهم»... وهذا نَصُّ اللقاء الذي أجرته «الوسط» مع الحاج إبراهيم علي أحمد نصيف.
* منذ متى وأنت تقوم بإيصال الشيخ؟
- منذ سنوات، ولسنوات ظللت أوصله حتى العام 1994 إذ أصبح السيد طالب هو من يقوم بإيصال الشيخ الجمري رحمة الله عليه، ولكن لم ينقطع عني كما انني لم انقطع عنه طوال فترة حياته، حتى أثناء سجني كان يريد أن يزورني إلا أن أبناءه أقنعوه بأنّ زيارته لي قد تضرني فلم يزرني.
* ما هي العلاقة التي كانت تربطك وتربط أهالي المقشع به؟
- كانت للشيخ علاقات متميزة مع أهالي المقشع ومعي أنا شخصيّا، كان يصلّي جماعة في القرية كل ليلة خميس، كما أنه كان الخطيب الدائم لوفاة الإمام علي (ع) واستمر في ذلك حتى العام 1996 بعد خروجه من السجن، كما أنه كان يعتبرني أحد أبنائه.
وأثناء زيارته للقرية كان يحب الاستماع إلى اللهجات القديمة التي كان شباب القرية يجيدونها، كما انه لم يحصل يوما أن رفض طلبا من الأهالي للحضور والمشاركة في الاحتفالات أو أية مناسبة أخرى، كما انه لم يقطع صلاة الجماعة والتي كان يقيمها كل ليلة خميس أبدا إلا بسبب المرض والسجن.
وأذكر هنا شيئا يعبّر عن تميز علاقتنا مع سماحته وهو اننا في القرية كنّا نحيي ليلة القدر معه في بني جمرة ولكننا وبعد استشارته وتأييده لنا قمنا بإقامة إحياء ليلة القدر منذ العام 1999 في القرية بدعم وتشجيع منه، وهذا دليل على وجود سماحته في كل شئون حياتنا.
* كيف كانت ردة فعله اتجاه أي موقف لا يعجبه؟
- ما أريد أن أقوله انه كان لا يزعل من أحد، ودائما يكون المبادر لتطييب خاطر الجميع، وكانت الابتسامة هي طريقه لقلوب الناس.
* ما هي اهتماماته وهمومه؟
- أكبر همومه الشعب، وأكثر شيء يتحدث عنه مطالب الشعب وآلامه، وكان يتمنى أنْ تكون هناك وحدة بين الجميع من أجل مصلحة الشعب، كما أنه كان يحب الاطلاع والقراءة و الخطابة و الشعر، وكان متعلقا بعاشوراء الإمام الحسين (ع)، وكان يتمنى الكثير لشعب البحرين.
* ماالذي يميز شخصية الشيخ الجمري؟
- لديها الكثير من المميزات، إذ إنه كان كريما لأبعد الحدود، وأذكر هنا أنني عندما كنت أنتظره وهو يتوضأ كان يلزم أهل بيته بتقديم الضيافة لي وكان يزعل إذا لم تقدم الضيافة على الرغم من أنّ انتظاري لا يتعدى بضع دقائق، كما انه كان يحب مساعدة الجميع فكان يساعد الشباب في أمور الزواج كما كان يقدم المساعدات دون أن يعلم أحد بها.
* كيف استقبلت نبأ رحيل الشيخ الجمري؟
- كنت حينها في مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، وأخبرني صادق ابن الشيخ الجمري بالنبأ الفاجعة وقد انهرت جراء الخبر، إذ إنه كان مصيبة كبرى علينا، وأذكر هنا أنني أوصيت ابنه صادق بتقبيل جبهته نيابة عني وأن يوصل رسالتي إليه، وأقمنا حينها مجلس عزاء على روحه.
* كيف ترى الساحة بعد رحيله؟
- ضعيفة و مشتتة، كما أنّ الارتباط بين الرموز والعلماء والقيادات أصبح ضعيفا، وأحسُّ أنّ الساحة ضائعة.
* هل كان سماحته يتحدث عن ما أصابه وعائلته؟
- كان حديثه دائما عن ما يصيب الناس، وعلى رغم أنّ أبناءه فيهم السجين والمشرد فإنه كان يتحدث عن الجميع، وعلى رغم تلقيه وعودا بإطلاق سراح ابنه محمد جميل فإنه طالب بإطلاق سراح الجميع؛ لأنّ الجميع أبناؤه.
* مَنْ مِن الشخصيات التي كان سماحته يتشاور معها باستمرار؟
- كان دائم التباحث مع الشيخ عيسى قاسم، حتى أنني أتذكر تشاورا حدث بين الاثنين قبيل انتفاضة التسعينات، وكان بشأن سفر الشيخ عيسى إلى قم المقدسة.
* ما الذي يؤلمه كثيرا؟
- كان يتألم كثيرا من الهجوم الذي كان يُوَجَّه ضدَّه من قبل القريبين منه، بينما كان يواجه الهجوم من الأطراف الأخرى بكل قوة، وأذكر هنا أنه ذكر لي أنه وأثناء التحقيق كان يُهدَّد بإدخال إحدى بناته عليه وكان ذلك التحقيق بحضور (ع.ف)، وقال لي إنهم لو فعلوا ذلك لكانت ستكون لي ردة فعل لم يكن يحسبها أيٌ منهم أبدا.
* كيف كانت علاقته بالجميع؟
- كان يعامل الجميع بحسب سنه، إذ يعامل الكبير حسب سنه، والشاب كذلك والطفل كما هو، ولكنه كان قريبا للجميع.
الحاج إبراهيم: الشيخ الجمري صنع تاريخا جميلا لا يُنسى
الوسط - مالك عبدالله
ذكريات يحفرها بشخصيته القريبة من القلوب، لحظة الجلوس معه لا يمكن نسيانها، يوما تكون فيه قريبا منه لا يمكن أن تنساه وخصوصا عندما يجلس معك متحدثا وناصحا ومعلما وقائدا وأبا بكل معاني الأبوة، فكيف إذا كان ذلك اليوم أياما، واللحظة لحظات، والذكرى ذكريات؟، تصبح تلك اللحظات والأيام والذكريات تاريخا لا يمكن أن يمحوها أي شيء من ذاكرتك الوجدانية والإنسانية حتى لو كانت مسرحيات تبث على التلفزيون وتنقلها وسائل إعلام كان حبرها ممزوجا بدماء الشعب، أو وسائل إعلام أخرى لا تمتلك إلا التذكير بأنّ الجلاد مازال موجودا وأنه قد يعود، غير أنّ من صنع التاريخ بإيمانه وعلاقته وحبه ووطنيته علم الجميع أن ذلك الزمن أبدا لن يعود، مادام هناك شعب حي يمنع عودة تلك الحقب الظلامية.
«الوسط» استرجعت شيئا من الذكريات مع أحد مرافقي المرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري في سنوات مضت، هموم الدنيا لم تنسه الحب الكبير الذي كان يوليه الشيخ الجمري له ولقريته (المقشع). التقينا بالحاج إبراهيم علي أحمد نصيف، وهو سائق «تاكسي» ينتمي إلى إحدى قرى المحافظة الشمالية، قرية كباقي القرى معدمة فقيرة تنتشر فيها البطالة والمطالب المجمدة، أنقذها بعض الشيء إقامة القرية النموذجية لتصبح قرية نموذجية داخل قرية ليس فيها من النموذجية إلا أهلها الطيبين، الحاج إبراهيم يؤكد أنّ «الشيخ الجمري كان همّه الأول هو الناس، وكان يرفض أيَّ حلٍّ لقضايا أبنائه لا يشمل جميع أبناء الشعب، لأنه كان يعتبر الجميع عائلته لا يفرق بين أحد منهم»، مشيرا إلى أنّ «للشيخ الجمري ذكريات جميلة معي لا أنساها أبدا كما أنّ له علاقات متميزة مع قرية المقشع، وكان هو المأذون الشرعي لمعظم الزيجات في الفترة التي كان فيها يقوم بتحرير العقود»، منوها إلى أن «الشيخ الجمري كان لا يزعل من أحد وكان يبادر لمراضاة الجميع، وكان متواصلا مع الشاب والشيخ وحتى الصغار، ويتعامل مع الجميع بما يتناسب مع أعمارهم»... وهذا نَصُّ اللقاء الذي أجرته «الوسط» مع الحاج إبراهيم علي أحمد نصيف.
* منذ متى وأنت تقوم بإيصال الشيخ؟
- منذ سنوات، ولسنوات ظللت أوصله حتى العام 1994 إذ أصبح السيد طالب هو من يقوم بإيصال الشيخ الجمري رحمة الله عليه، ولكن لم ينقطع عني كما انني لم انقطع عنه طوال فترة حياته، حتى أثناء سجني كان يريد أن يزورني إلا أن أبناءه أقنعوه بأنّ زيارته لي قد تضرني فلم يزرني.
* ما هي العلاقة التي كانت تربطك وتربط أهالي المقشع به؟
- كانت للشيخ علاقات متميزة مع أهالي المقشع ومعي أنا شخصيّا، كان يصلّي جماعة في القرية كل ليلة خميس، كما أنه كان الخطيب الدائم لوفاة الإمام علي (ع) واستمر في ذلك حتى العام 1996 بعد خروجه من السجن، كما أنه كان يعتبرني أحد أبنائه.
وأثناء زيارته للقرية كان يحب الاستماع إلى اللهجات القديمة التي كان شباب القرية يجيدونها، كما انه لم يحصل يوما أن رفض طلبا من الأهالي للحضور والمشاركة في الاحتفالات أو أية مناسبة أخرى، كما انه لم يقطع صلاة الجماعة والتي كان يقيمها كل ليلة خميس أبدا إلا بسبب المرض والسجن.
وأذكر هنا شيئا يعبّر عن تميز علاقتنا مع سماحته وهو اننا في القرية كنّا نحيي ليلة القدر معه في بني جمرة ولكننا وبعد استشارته وتأييده لنا قمنا بإقامة إحياء ليلة القدر منذ العام 1999 في القرية بدعم وتشجيع منه، وهذا دليل على وجود سماحته في كل شئون حياتنا.
* كيف كانت ردة فعله اتجاه أي موقف لا يعجبه؟
- ما أريد أن أقوله انه كان لا يزعل من أحد، ودائما يكون المبادر لتطييب خاطر الجميع، وكانت الابتسامة هي طريقه لقلوب الناس.
* ما هي اهتماماته وهمومه؟
- أكبر همومه الشعب، وأكثر شيء يتحدث عنه مطالب الشعب وآلامه، وكان يتمنى أنْ تكون هناك وحدة بين الجميع من أجل مصلحة الشعب، كما أنه كان يحب الاطلاع والقراءة و الخطابة و الشعر، وكان متعلقا بعاشوراء الإمام الحسين (ع)، وكان يتمنى الكثير لشعب البحرين.
* ماالذي يميز شخصية الشيخ الجمري؟
- لديها الكثير من المميزات، إذ إنه كان كريما لأبعد الحدود، وأذكر هنا أنني عندما كنت أنتظره وهو يتوضأ كان يلزم أهل بيته بتقديم الضيافة لي وكان يزعل إذا لم تقدم الضيافة على الرغم من أنّ انتظاري لا يتعدى بضع دقائق، كما انه كان يحب مساعدة الجميع فكان يساعد الشباب في أمور الزواج كما كان يقدم المساعدات دون أن يعلم أحد بها.
* كيف استقبلت نبأ رحيل الشيخ الجمري؟
- كنت حينها في مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، وأخبرني صادق ابن الشيخ الجمري بالنبأ الفاجعة وقد انهرت جراء الخبر، إذ إنه كان مصيبة كبرى علينا، وأذكر هنا أنني أوصيت ابنه صادق بتقبيل جبهته نيابة عني وأن يوصل رسالتي إليه، وأقمنا حينها مجلس عزاء على روحه.
* كيف ترى الساحة بعد رحيله؟
- ضعيفة و مشتتة، كما أنّ الارتباط بين الرموز والعلماء والقيادات أصبح ضعيفا، وأحسُّ أنّ الساحة ضائعة.
* هل كان سماحته يتحدث عن ما أصابه وعائلته؟
- كان حديثه دائما عن ما يصيب الناس، وعلى رغم أنّ أبناءه فيهم السجين والمشرد فإنه كان يتحدث عن الجميع، وعلى رغم تلقيه وعودا بإطلاق سراح ابنه محمد جميل فإنه طالب بإطلاق سراح الجميع؛ لأنّ الجميع أبناؤه.
* مَنْ مِن الشخصيات التي كان سماحته يتشاور معها باستمرار؟
- كان دائم التباحث مع الشيخ عيسى قاسم، حتى أنني أتذكر تشاورا حدث بين الاثنين قبيل انتفاضة التسعينات، وكان بشأن سفر الشيخ عيسى إلى قم المقدسة.
* ما الذي يؤلمه كثيرا؟
- كان يتألم كثيرا من الهجوم الذي كان يُوَجَّه ضدَّه من قبل القريبين منه، بينما كان يواجه الهجوم من الأطراف الأخرى بكل قوة، وأذكر هنا أنه ذكر لي أنه وأثناء التحقيق كان يُهدَّد بإدخال إحدى بناته عليه وكان ذلك التحقيق بحضور (ع.ف)، وقال لي إنهم لو فعلوا ذلك لكانت ستكون لي ردة فعل لم يكن يحسبها أيٌ منهم أبدا.
* كيف كانت علاقته بالجميع؟
- كان يعامل الجميع بحسب سنه، إذ يعامل الكبير حسب سنه، والشاب كذلك والطفل كما هو، ولكنه كان قريبا للجميع.
ملف الجمري
رحيله كان أكثر ألما لي من وفاة و الدتي... لم يستسلم لـ «المرض» وظل يتواصل مع الناس
سيد طالب: تميز الشيخ الجمري بالشجاعة وعلاقاته المتميزة بجميع المناطق
بني جمرة - مالك عبدالله
يعرفه الجميع بأنه المرافق الدائم للمرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري - قدس سره، يعتبر نفسه أحد أبنائه، يعشقه أكثر من والديه، اشتهر بأنه «سائق الشيخ»، أو «سكرتير الشيخ»، خصوصا أثناء انتفاضة التسعينات إذ كان يجوب كل المناطق مع سماحة الشيخ الجمري ولم يكن يرى الشيخ الجمري إلا وهو معه.
ومن الطبيعي ونحن نفتش عمن يحدثنا عن الشيخ الجمري أن نختار شخصا كان لصيقا به، فكان هذا اللقاء مع «سكرتير الشيخ»، كما يحب البعض أن يسميه أو «سائق الشيخ»، وهو السيد طالب محمد حسن الذي ينتمي إلى منطقة القرية، وكونه لصيقا بالشيخ الجمري فلابد أن يمسه شيء من العذابات التي سلطتها أجهزة القمع على الشيخ الجمري، لذلك فإن السيد طالب حاله كحال بقية عائلة الشيخ أبت أجهزة القمع إلا أن تضع ختم الشرف و الإباء و التضحية على أسمه وجسده فلذلك تم اعتقاله.
«الوسط» سألت السيد طالب عن شعوره بعد مرور عام على رحيل المرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري فأجاب والدموع تتساقط من عينيه محاولا إيقافها إلا أنه لم ينجح في إخفائها عنا «آلام الفراق ما زالت موجودة»، ثم يصمت ويقول «أنت تذكرني بالخبر الصاعقة، لقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة، فوالدتي توفت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك الضياع».
وعن علاقة الشيخ الجمري بالجماهير، أكد أن «سماحة الشيخ كانت له علاقة مميزة مع كل شخص ومع كل منطقة، إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل و صاحب المنطقة، كما أنه يحسس الناس بحبه وأنه يعرفهم جيدا»، مضيفا «ويتبين لك أن علاقته مع هذه المنطقة متميزة و لكن عند زيارة منطقة أخرى تحس الإحساس نفسه، بمعنى أن علاقته بجميع المناطق كانت مميزة إذ إنه كان قريبا من الجميع ومحبا لهم»، وعن أبرز صفاته نوه إلى أن «سماحة الشيخ الجمري كان شجاعا شفافا و واضحا». وهذا نص لقاء «الوسط» مع سيد طالب محمد حسن:
* في أي عام بدأت العمل مع سماحة الشيخ الجمري؟
- كانت تربطني مع سماحة الشيخ - رحمة الله عليه - صلة قرابة، وفي بداية التسعينات كنت مرتبطا به أكثر كوني ألتحقت بحوزة الإمام زين العابدين(ع) التابعة لسماحته، و منذ العام 1994 كنت موجودا بصورة دائمة معه، ولم يفرقني عنه إلا السجن و المرض، غير أن غياب السجن كان أكبر.
* هل كان سماحته حازما في تعامله؟
- هو حزم في لين، إذ إنه في وقت الجد يكون جديا لأبعد الحدود، ولكن في وقت الراحة تحس أنه إنسان آخر فهو الممازح و المبتسم.
* ما نوع العلاقة التي كانت تربطه بالحوزة؟
- علاقته بالحوزة كانت مباشرة، وكان يعلم بجميع شئون الطلاب ودروسهم و مشكلاتهم، وماذا يريدون؟، وبعد التوسع قام بوضع إدارة للحوزة و نظام عام لها في بداية التسعينات، وكانت له علاقة مباشرة بجميع طلبة الحوزة، ولذلك لو بحثت مع جميع الطلبة لوجدت لكل واحد منهم قصصا مع الشيخ وجميعهم حتى اليوم يحكي هذه القصص.
وهنا اشير إلى أنه كان داعما للعمل المؤسساتي و الجماعي والدليل على ذلك تأسيسه للعمل الإداري في الحوزة ولجنة الحقوق الشرعية والتي تحتوي كفاءات ومتخصصين من غير طلبة العلوم الدينية، وكان يدعم هذا التوجه بقوة.
* هل كان من النوع الذي يخفي الكثير عن الناس؟
- لم يكن لديه ما يخفيه، غير أنه كان مضطرا في بعض الأحيان لإخفائها من أجل نجاح الأمور، لكني أؤكد أن الناس كانوا يعرفون ماذا يريد الشيخ الجمري، ولم أكن أحضر بصراحة الجلسات الخاصة التي كان يعقدها مع العلماء و السياسيين إذ إنني كنت أقوم بإيصاله ولكني لا أدخل في تلك الأماكن.
* أقرب الشخصيات له أثناء الانتفاضة و بعدها.
- أثناء المبادرة كان أصحاب المبادرة هم الأقرب إليه وكان جميعهم على مستوى واحد بالقرب منه، وبعد السجن الثاني كان قريبا من الدكتور علي العريبي إذ كان كثير التشاور معه وكان يستدعيه للتشاور أو يذهب إليه حتى بعد الثانية صباحا.
* ما الذي كان يسبب الإنزعاج لسماحته؟
- كان ينزعج كثيرا من بعض البيانات الصادرة ضده، ولكنه كان ينزعج كثيرا من تضرر قضية الشعب و مطالبه، والخلافات التي كانت بين الرموز و الناس كانت تؤذيه كثيرا لذلك لم يكن يسكت عنها بل يبادر إلى حلها، كما أن الخلافات بين الرموز أنفسهم كانت تزعجه وتؤذيه وكان لا يستقر إلا بعد حلها، إذ كان يتنقل من مكان إلى آخر في سبيل حلها.
* كيف كان يتعامل مع من يختلف معه؟
- عندما يختلف معه أحد فإنه لا ينام إلا وقد حل القضية و الإشكال الذي وقع بينهما، وأذكر أنه كانت لي قضية معه، وذلك في الإضراب عن الطعام الذي نفذه مع أصحاب المبادرة إذ إنه طلب مني إيصال رسالة معينة إلى الجمهور بشأن الشعارات و أنواعها، ولكنه تفاجأ بصمت الجماهير عن الهتاف، وبعد أن تناقشت معه واعتبرت أن الأمر انتهى، اتصل بي بعد منتصف الليل ليطيب خاطري و يطبطب عليّ ويراضيني، وهذه طبيعته مع الجميع.
* كيف تعامل سماحته مع الإضراب عن الطعام بحكم سنه ومرضه؟
- كان سماحته مقاوما لكل شيء من أجل أن يواصل مسيرته التي بدأها، وأثناء الإضراب عن الطعام كان يتعب كثيرا وننقله إلى المستشفى ولكنه كان يستمد قوته من الجماهير التي وجدت طوال الوقت حول مجلسه الذي كان هو و(أصحاب المبادرة) المضربون عن الطعام فيه، كما أنه كان يستقبل وفودا من جميع القرى وكانت أيضا تلك الزيارات تشد من عزيمته وتقويها، وأذكر هنا أنه كان منزعجا من عدم استجابة الدولة لمطالب الناس وكان يتأذى كثيرا لذلك، كما كان تفكيره منصبا على ما يعانيه الناس، ولم يكن يفكر في نفسه.
*ما هي طبيعة علاقته بأهالي القرى و المناطق؟ وهل كانت له علاقة خاصة بقرى عن غيرها؟
- كان لدى سماحته إحساس كبير أنه ينتمي إلى جميع القرى والمناطق، كما أن الناس كانت تبادله الشعور نفسه إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل والمنطقة، وكان يحسس الناس دائما أنه يعرفهم جيدا لذلك كانت له قصصا مع كل منطقة، وعند زيارة كل منطقة يتبين لك أن العلاقة نفسها في كل منطقة موجودة إذ إنه يعامل الجميع كأحباء له، لذلك فإن الجميع تجدهم قريبين منه.
* ماذا عن تعاطي الشيخ مع قضية الشهداء؟
- تعاطى الشيخ مع قضية الشهداء منذ بدايتها، إذ كان متأثرا جدا في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول من العام 1994 إذ تابع الموضوع، وأتذكر أنه عقد اجتماعا في منزل المرحوم الشيخ سليمان المدني، كما أنه كان يعيش قضية الشهيد في مناحي حياته كافة، وأكبر دليل على أنه يحمل هم الشهداء هي خطاباته التي تدل على أنه كان مستعدا للشهادة وتحركه الميادني و تحمله للضغوط الكبيرة كان دليلا على ذلك.
* ماذا عن علاقته بالشعر؟
- كان من مشجعي الشعر و الشعراء، كما أنني ألاحظه دوما يشجع الشعراء مهما كان مستوى شعرهم وبعد انتهائهم يقوم بتوجيههم وإبداء ملاحظاته بشأن الأبيات والقصيدة، وأنا لم أر شخصا يفعل ذلك أبدا، كما أنه كان يكتب الأبيات في الكثير من المناسبات حتى أنه كتب عددا من القصائد بمناسبة ذكرى ولادة عدد من أحفاده وهو على فراش المرض.
* برأيك ما هي أبرز صفات الشيخ الجمري؟
- أكثر شيء يميز الشيخ هي الشجاعة كما أنه شفاف للغاية وواضح جدا إذ إنه يقول ما في قلبه من دون أي عمليات تجميل.
* لماذا ترك الشيخ السياسة بعد الانتفاضة؟
- الشيخ لم يترك السياسة بل ترك الأمور التفصيلية وذلك بعد تأسيس الجمعيات السياسية، كما أن خطابه كان يشمل الجميع، وهنا أذكر له كلمة قالها وهي «ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين»، وهذه العبارة لا أحد يستطيع أن يحدد ما إذا كانت رفضا للمشاركة أما لا، لأنها كلمة جامعة.
* ما هي طبيعة علاقته بالفقهاء و العلماء و الحوزات العلمية؟
- كانت له علاقات مع الحوزات العلمية و المراجع و كانت تلك العلاقات مباشرة، إذ إنه مثلا كانت له علاقة وطيدة مع المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين - رحمة الله عليه، وكان هناك احترام كبير بينه وبين المراجع وكان وكيلا للكثير منهم. كما أنه كان متواصلا مع الجميع، ولم يتحرك أي حركة إلا بعد مطابقة تحركه مع الشريعة وأي شخص يدّعي غير ذلك فهو يفتري عليه.
* ماذا عن برنامجه أثناء مرضه؟
- سأتحدث هنا عن شيء من برنامجه إذ إنني أتذكر ارتباطه الوثيق بصلاة الجماعة، إذ إنه وبعد خروجه من المستشفى العسكري وعلى رغم حالته الصحية إلا أنه ظل يصلي صلاة الجماعة في غرفته بالمنزل مع بعض الحضور، وبعدها انتقل للصلاة في المجلس لأن العدد ازداد ومن ثم نقلها للسبب نفسه إلى صالة المنزل، ولم يقطع صلاة الجماعة على رغم من كل آلام المرض، كما أنه لم يقطع حضور المناسبات على رغم آلام «الديسك» فكان يحضر مجالس العزاء في المناطق و يحضر الأفراح ويزور المناطق، فكان موجودا بين الجميع ولم يجعل أحدا يحس بغيابه أبدا.
وظل برنامجه ثابتا حتى قبل سفره إلى العلاج، وحتى في سفره لم ينقطع عن الناس إذ كان يستقبل الاتصالات وذلك قبل إجراء العملية.
* رأينا شريط فيديو للشيخ وهو يتحدث.
- في فترة مرضه كان صمته طويلا لأنه لم يكن يستطيع التحدث، ولكنه تحدث في حادثتين لعشر دقائق، في المرة الأولى وهو الفيديو الذي تتحدث عنه عندما استقبل طلبة العلوم الدينية في بني جمرة، والمرة الآخرى كانت في حضور نسائي من منطقة توبلي، إذ طلب منه ابنه محمد حسين الحديث بعد تعريفه بالوفد فتفاجأنا بحديثه وتشجيعه للنساء إذ تحدث لمدة خمس دقائق.
* كيف ومن الذي أخبرك برحيل الشيخ الجمري؟
- سنرجع إلى الألم، سترجع بي إلى الخبر الصاعقة الذي أخبرني به النائب عبدالجليل خليل زوج بنت الشيخ عندما اتصل بي يخبرني، لم أكن مصدقا ولا مستوعبا للفكرة لأني أحس بوجوده في كل مكان وبين الجميع.
* هنا يتوقف السيد طالب والدموع تتساقط من عينيه، ويتكلم بغصة وحرقة.
- مجيء الناس خفف وطأة المصيبة كما أنه ساعدنا على تخفيف الألم وجعلنا نستطيع إدارة الحادث بسرعة، والحضور الجماهيري لعله كان قليلا في حقه على رغم البرد و التعب و من غاب لم يغب إلا مضطرا إلا أنني أجده قليلا في حق هذا الصرح العظيم.
* يصمت ثانية، ويكمل حديثه:
- آلام الفراق ما زالت موجودة، ولقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة إذ إنها توفيت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك.
* هل لنا بذكرى من الذكريات الجميلة مع سماحته؟
- كان سماحته مبتسما في كثير من الأحيان، في السجن كنت أقلد طريقة تنحنحه، أثناء إخراجنا من الزنزانة وكان هو في زنزانته يسمع ذلك الصوت ويعلم ما الذي أفعله، وبعد الإفراج عني وعنه كان يطلب مني أن أعيد ما كنت أفعله إلا أنني لم أستطع فعل ذلك.
* هل هناك ذكرى مؤلمة؟
- ما زالت ترن في أذني آلام الديسك، إذ أن الألم لم يكن يفارقه إلا بعد شرب المسكنات، وكان يتألم كثيرا، وهذه من الذكريات المؤلمة التي عايشتها معه.
* هل تريد إضافة أي شيء؟
- أحسد نفسي على قربي من الشيخ إذ جعلني أدخل في أوساط الناس وكانت ثقته تحملني الكثير من المسئولية ويكفيني فخرا أنني أذهب معه إلى كل مكان، وهذه ثقة غالية وأحمد الله عليها، إذ كنت معه في كل شيء حتى في تسلم الحقوق الشرعية والتصرف في بعض الحقوق. والشيخ شخصية لا تنسى لأنها تصنع كل دقيقة في حياتك وتعطيها معنى
سيد طالب: تميز الشيخ الجمري بالشجاعة وعلاقاته المتميزة بجميع المناطق
بني جمرة - مالك عبدالله
يعرفه الجميع بأنه المرافق الدائم للمرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري - قدس سره، يعتبر نفسه أحد أبنائه، يعشقه أكثر من والديه، اشتهر بأنه «سائق الشيخ»، أو «سكرتير الشيخ»، خصوصا أثناء انتفاضة التسعينات إذ كان يجوب كل المناطق مع سماحة الشيخ الجمري ولم يكن يرى الشيخ الجمري إلا وهو معه.
ومن الطبيعي ونحن نفتش عمن يحدثنا عن الشيخ الجمري أن نختار شخصا كان لصيقا به، فكان هذا اللقاء مع «سكرتير الشيخ»، كما يحب البعض أن يسميه أو «سائق الشيخ»، وهو السيد طالب محمد حسن الذي ينتمي إلى منطقة القرية، وكونه لصيقا بالشيخ الجمري فلابد أن يمسه شيء من العذابات التي سلطتها أجهزة القمع على الشيخ الجمري، لذلك فإن السيد طالب حاله كحال بقية عائلة الشيخ أبت أجهزة القمع إلا أن تضع ختم الشرف و الإباء و التضحية على أسمه وجسده فلذلك تم اعتقاله.
«الوسط» سألت السيد طالب عن شعوره بعد مرور عام على رحيل المرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري فأجاب والدموع تتساقط من عينيه محاولا إيقافها إلا أنه لم ينجح في إخفائها عنا «آلام الفراق ما زالت موجودة»، ثم يصمت ويقول «أنت تذكرني بالخبر الصاعقة، لقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة، فوالدتي توفت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك الضياع».
وعن علاقة الشيخ الجمري بالجماهير، أكد أن «سماحة الشيخ كانت له علاقة مميزة مع كل شخص ومع كل منطقة، إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل و صاحب المنطقة، كما أنه يحسس الناس بحبه وأنه يعرفهم جيدا»، مضيفا «ويتبين لك أن علاقته مع هذه المنطقة متميزة و لكن عند زيارة منطقة أخرى تحس الإحساس نفسه، بمعنى أن علاقته بجميع المناطق كانت مميزة إذ إنه كان قريبا من الجميع ومحبا لهم»، وعن أبرز صفاته نوه إلى أن «سماحة الشيخ الجمري كان شجاعا شفافا و واضحا». وهذا نص لقاء «الوسط» مع سيد طالب محمد حسن:
* في أي عام بدأت العمل مع سماحة الشيخ الجمري؟
- كانت تربطني مع سماحة الشيخ - رحمة الله عليه - صلة قرابة، وفي بداية التسعينات كنت مرتبطا به أكثر كوني ألتحقت بحوزة الإمام زين العابدين(ع) التابعة لسماحته، و منذ العام 1994 كنت موجودا بصورة دائمة معه، ولم يفرقني عنه إلا السجن و المرض، غير أن غياب السجن كان أكبر.
* هل كان سماحته حازما في تعامله؟
- هو حزم في لين، إذ إنه في وقت الجد يكون جديا لأبعد الحدود، ولكن في وقت الراحة تحس أنه إنسان آخر فهو الممازح و المبتسم.
* ما نوع العلاقة التي كانت تربطه بالحوزة؟
- علاقته بالحوزة كانت مباشرة، وكان يعلم بجميع شئون الطلاب ودروسهم و مشكلاتهم، وماذا يريدون؟، وبعد التوسع قام بوضع إدارة للحوزة و نظام عام لها في بداية التسعينات، وكانت له علاقة مباشرة بجميع طلبة الحوزة، ولذلك لو بحثت مع جميع الطلبة لوجدت لكل واحد منهم قصصا مع الشيخ وجميعهم حتى اليوم يحكي هذه القصص.
وهنا اشير إلى أنه كان داعما للعمل المؤسساتي و الجماعي والدليل على ذلك تأسيسه للعمل الإداري في الحوزة ولجنة الحقوق الشرعية والتي تحتوي كفاءات ومتخصصين من غير طلبة العلوم الدينية، وكان يدعم هذا التوجه بقوة.
* هل كان من النوع الذي يخفي الكثير عن الناس؟
- لم يكن لديه ما يخفيه، غير أنه كان مضطرا في بعض الأحيان لإخفائها من أجل نجاح الأمور، لكني أؤكد أن الناس كانوا يعرفون ماذا يريد الشيخ الجمري، ولم أكن أحضر بصراحة الجلسات الخاصة التي كان يعقدها مع العلماء و السياسيين إذ إنني كنت أقوم بإيصاله ولكني لا أدخل في تلك الأماكن.
* أقرب الشخصيات له أثناء الانتفاضة و بعدها.
- أثناء المبادرة كان أصحاب المبادرة هم الأقرب إليه وكان جميعهم على مستوى واحد بالقرب منه، وبعد السجن الثاني كان قريبا من الدكتور علي العريبي إذ كان كثير التشاور معه وكان يستدعيه للتشاور أو يذهب إليه حتى بعد الثانية صباحا.
* ما الذي كان يسبب الإنزعاج لسماحته؟
- كان ينزعج كثيرا من بعض البيانات الصادرة ضده، ولكنه كان ينزعج كثيرا من تضرر قضية الشعب و مطالبه، والخلافات التي كانت بين الرموز و الناس كانت تؤذيه كثيرا لذلك لم يكن يسكت عنها بل يبادر إلى حلها، كما أن الخلافات بين الرموز أنفسهم كانت تزعجه وتؤذيه وكان لا يستقر إلا بعد حلها، إذ كان يتنقل من مكان إلى آخر في سبيل حلها.
* كيف كان يتعامل مع من يختلف معه؟
- عندما يختلف معه أحد فإنه لا ينام إلا وقد حل القضية و الإشكال الذي وقع بينهما، وأذكر أنه كانت لي قضية معه، وذلك في الإضراب عن الطعام الذي نفذه مع أصحاب المبادرة إذ إنه طلب مني إيصال رسالة معينة إلى الجمهور بشأن الشعارات و أنواعها، ولكنه تفاجأ بصمت الجماهير عن الهتاف، وبعد أن تناقشت معه واعتبرت أن الأمر انتهى، اتصل بي بعد منتصف الليل ليطيب خاطري و يطبطب عليّ ويراضيني، وهذه طبيعته مع الجميع.
* كيف تعامل سماحته مع الإضراب عن الطعام بحكم سنه ومرضه؟
- كان سماحته مقاوما لكل شيء من أجل أن يواصل مسيرته التي بدأها، وأثناء الإضراب عن الطعام كان يتعب كثيرا وننقله إلى المستشفى ولكنه كان يستمد قوته من الجماهير التي وجدت طوال الوقت حول مجلسه الذي كان هو و(أصحاب المبادرة) المضربون عن الطعام فيه، كما أنه كان يستقبل وفودا من جميع القرى وكانت أيضا تلك الزيارات تشد من عزيمته وتقويها، وأذكر هنا أنه كان منزعجا من عدم استجابة الدولة لمطالب الناس وكان يتأذى كثيرا لذلك، كما كان تفكيره منصبا على ما يعانيه الناس، ولم يكن يفكر في نفسه.
*ما هي طبيعة علاقته بأهالي القرى و المناطق؟ وهل كانت له علاقة خاصة بقرى عن غيرها؟
- كان لدى سماحته إحساس كبير أنه ينتمي إلى جميع القرى والمناطق، كما أن الناس كانت تبادله الشعور نفسه إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل والمنطقة، وكان يحسس الناس دائما أنه يعرفهم جيدا لذلك كانت له قصصا مع كل منطقة، وعند زيارة كل منطقة يتبين لك أن العلاقة نفسها في كل منطقة موجودة إذ إنه يعامل الجميع كأحباء له، لذلك فإن الجميع تجدهم قريبين منه.
* ماذا عن تعاطي الشيخ مع قضية الشهداء؟
- تعاطى الشيخ مع قضية الشهداء منذ بدايتها، إذ كان متأثرا جدا في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول من العام 1994 إذ تابع الموضوع، وأتذكر أنه عقد اجتماعا في منزل المرحوم الشيخ سليمان المدني، كما أنه كان يعيش قضية الشهيد في مناحي حياته كافة، وأكبر دليل على أنه يحمل هم الشهداء هي خطاباته التي تدل على أنه كان مستعدا للشهادة وتحركه الميادني و تحمله للضغوط الكبيرة كان دليلا على ذلك.
* ماذا عن علاقته بالشعر؟
- كان من مشجعي الشعر و الشعراء، كما أنني ألاحظه دوما يشجع الشعراء مهما كان مستوى شعرهم وبعد انتهائهم يقوم بتوجيههم وإبداء ملاحظاته بشأن الأبيات والقصيدة، وأنا لم أر شخصا يفعل ذلك أبدا، كما أنه كان يكتب الأبيات في الكثير من المناسبات حتى أنه كتب عددا من القصائد بمناسبة ذكرى ولادة عدد من أحفاده وهو على فراش المرض.
* برأيك ما هي أبرز صفات الشيخ الجمري؟
- أكثر شيء يميز الشيخ هي الشجاعة كما أنه شفاف للغاية وواضح جدا إذ إنه يقول ما في قلبه من دون أي عمليات تجميل.
* لماذا ترك الشيخ السياسة بعد الانتفاضة؟
- الشيخ لم يترك السياسة بل ترك الأمور التفصيلية وذلك بعد تأسيس الجمعيات السياسية، كما أن خطابه كان يشمل الجميع، وهنا أذكر له كلمة قالها وهي «ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين»، وهذه العبارة لا أحد يستطيع أن يحدد ما إذا كانت رفضا للمشاركة أما لا، لأنها كلمة جامعة.
* ما هي طبيعة علاقته بالفقهاء و العلماء و الحوزات العلمية؟
- كانت له علاقات مع الحوزات العلمية و المراجع و كانت تلك العلاقات مباشرة، إذ إنه مثلا كانت له علاقة وطيدة مع المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين - رحمة الله عليه، وكان هناك احترام كبير بينه وبين المراجع وكان وكيلا للكثير منهم. كما أنه كان متواصلا مع الجميع، ولم يتحرك أي حركة إلا بعد مطابقة تحركه مع الشريعة وأي شخص يدّعي غير ذلك فهو يفتري عليه.
* ماذا عن برنامجه أثناء مرضه؟
- سأتحدث هنا عن شيء من برنامجه إذ إنني أتذكر ارتباطه الوثيق بصلاة الجماعة، إذ إنه وبعد خروجه من المستشفى العسكري وعلى رغم حالته الصحية إلا أنه ظل يصلي صلاة الجماعة في غرفته بالمنزل مع بعض الحضور، وبعدها انتقل للصلاة في المجلس لأن العدد ازداد ومن ثم نقلها للسبب نفسه إلى صالة المنزل، ولم يقطع صلاة الجماعة على رغم من كل آلام المرض، كما أنه لم يقطع حضور المناسبات على رغم آلام «الديسك» فكان يحضر مجالس العزاء في المناطق و يحضر الأفراح ويزور المناطق، فكان موجودا بين الجميع ولم يجعل أحدا يحس بغيابه أبدا.
وظل برنامجه ثابتا حتى قبل سفره إلى العلاج، وحتى في سفره لم ينقطع عن الناس إذ كان يستقبل الاتصالات وذلك قبل إجراء العملية.
* رأينا شريط فيديو للشيخ وهو يتحدث.
- في فترة مرضه كان صمته طويلا لأنه لم يكن يستطيع التحدث، ولكنه تحدث في حادثتين لعشر دقائق، في المرة الأولى وهو الفيديو الذي تتحدث عنه عندما استقبل طلبة العلوم الدينية في بني جمرة، والمرة الآخرى كانت في حضور نسائي من منطقة توبلي، إذ طلب منه ابنه محمد حسين الحديث بعد تعريفه بالوفد فتفاجأنا بحديثه وتشجيعه للنساء إذ تحدث لمدة خمس دقائق.
* كيف ومن الذي أخبرك برحيل الشيخ الجمري؟
- سنرجع إلى الألم، سترجع بي إلى الخبر الصاعقة الذي أخبرني به النائب عبدالجليل خليل زوج بنت الشيخ عندما اتصل بي يخبرني، لم أكن مصدقا ولا مستوعبا للفكرة لأني أحس بوجوده في كل مكان وبين الجميع.
* هنا يتوقف السيد طالب والدموع تتساقط من عينيه، ويتكلم بغصة وحرقة.
- مجيء الناس خفف وطأة المصيبة كما أنه ساعدنا على تخفيف الألم وجعلنا نستطيع إدارة الحادث بسرعة، والحضور الجماهيري لعله كان قليلا في حقه على رغم البرد و التعب و من غاب لم يغب إلا مضطرا إلا أنني أجده قليلا في حق هذا الصرح العظيم.
* يصمت ثانية، ويكمل حديثه:
- آلام الفراق ما زالت موجودة، ولقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة إذ إنها توفيت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك.
* هل لنا بذكرى من الذكريات الجميلة مع سماحته؟
- كان سماحته مبتسما في كثير من الأحيان، في السجن كنت أقلد طريقة تنحنحه، أثناء إخراجنا من الزنزانة وكان هو في زنزانته يسمع ذلك الصوت ويعلم ما الذي أفعله، وبعد الإفراج عني وعنه كان يطلب مني أن أعيد ما كنت أفعله إلا أنني لم أستطع فعل ذلك.
* هل هناك ذكرى مؤلمة؟
- ما زالت ترن في أذني آلام الديسك، إذ أن الألم لم يكن يفارقه إلا بعد شرب المسكنات، وكان يتألم كثيرا، وهذه من الذكريات المؤلمة التي عايشتها معه.
* هل تريد إضافة أي شيء؟
- أحسد نفسي على قربي من الشيخ إذ جعلني أدخل في أوساط الناس وكانت ثقته تحملني الكثير من المسئولية ويكفيني فخرا أنني أذهب معه إلى كل مكان، وهذه ثقة غالية وأحمد الله عليها، إذ كنت معه في كل شيء حتى في تسلم الحقوق الشرعية والتصرف في بعض الحقوق. والشيخ شخصية لا تنسى لأنها تصنع كل دقيقة في حياتك وتعطيها معنى
ملف الجمري
رحيله كان أكثر ألما لي من وفاة و الدتي... لم يستسلم لـ «المرض» وظل يتواصل مع الناس
سيد طالب: تميز الشيخ الجمري بالشجاعة وعلاقاته المتميزة بجميع المناطق
بني جمرة - مالك عبدالله
يعرفه الجميع بأنه المرافق الدائم للمرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري - قدس سره، يعتبر نفسه أحد أبنائه، يعشقه أكثر من والديه، اشتهر بأنه «سائق الشيخ»، أو «سكرتير الشيخ»، خصوصا أثناء انتفاضة التسعينات إذ كان يجوب كل المناطق مع سماحة الشيخ الجمري ولم يكن يرى الشيخ الجمري إلا وهو معه.
ومن الطبيعي ونحن نفتش عمن يحدثنا عن الشيخ الجمري أن نختار شخصا كان لصيقا به، فكان هذا اللقاء مع «سكرتير الشيخ»، كما يحب البعض أن يسميه أو «سائق الشيخ»، وهو السيد طالب محمد حسن الذي ينتمي إلى منطقة القرية، وكونه لصيقا بالشيخ الجمري فلابد أن يمسه شيء من العذابات التي سلطتها أجهزة القمع على الشيخ الجمري، لذلك فإن السيد طالب حاله كحال بقية عائلة الشيخ أبت أجهزة القمع إلا أن تضع ختم الشرف و الإباء و التضحية على أسمه وجسده فلذلك تم اعتقاله.
«الوسط» سألت السيد طالب عن شعوره بعد مرور عام على رحيل المرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري فأجاب والدموع تتساقط من عينيه محاولا إيقافها إلا أنه لم ينجح في إخفائها عنا «آلام الفراق ما زالت موجودة»، ثم يصمت ويقول «أنت تذكرني بالخبر الصاعقة، لقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة، فوالدتي توفت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك الضياع».
وعن علاقة الشيخ الجمري بالجماهير، أكد أن «سماحة الشيخ كانت له علاقة مميزة مع كل شخص ومع كل منطقة، إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل و صاحب المنطقة، كما أنه يحسس الناس بحبه وأنه يعرفهم جيدا»، مضيفا «ويتبين لك أن علاقته مع هذه المنطقة متميزة و لكن عند زيارة منطقة أخرى تحس الإحساس نفسه، بمعنى أن علاقته بجميع المناطق كانت مميزة إذ إنه كان قريبا من الجميع ومحبا لهم»، وعن أبرز صفاته نوه إلى أن «سماحة الشيخ الجمري كان شجاعا شفافا و واضحا». وهذا نص لقاء «الوسط» مع سيد طالب محمد حسن:
* في أي عام بدأت العمل مع سماحة الشيخ الجمري؟
- كانت تربطني مع سماحة الشيخ - رحمة الله عليه - صلة قرابة، وفي بداية التسعينات كنت مرتبطا به أكثر كوني ألتحقت بحوزة الإمام زين العابدين(ع) التابعة لسماحته، و منذ العام 1994 كنت موجودا بصورة دائمة معه، ولم يفرقني عنه إلا السجن و المرض، غير أن غياب السجن كان أكبر.
* هل كان سماحته حازما في تعامله؟
- هو حزم في لين، إذ إنه في وقت الجد يكون جديا لأبعد الحدود، ولكن في وقت الراحة تحس أنه إنسان آخر فهو الممازح و المبتسم.
* ما نوع العلاقة التي كانت تربطه بالحوزة؟
- علاقته بالحوزة كانت مباشرة، وكان يعلم بجميع شئون الطلاب ودروسهم و مشكلاتهم، وماذا يريدون؟، وبعد التوسع قام بوضع إدارة للحوزة و نظام عام لها في بداية التسعينات، وكانت له علاقة مباشرة بجميع طلبة الحوزة، ولذلك لو بحثت مع جميع الطلبة لوجدت لكل واحد منهم قصصا مع الشيخ وجميعهم حتى اليوم يحكي هذه القصص.
وهنا اشير إلى أنه كان داعما للعمل المؤسساتي و الجماعي والدليل على ذلك تأسيسه للعمل الإداري في الحوزة ولجنة الحقوق الشرعية والتي تحتوي كفاءات ومتخصصين من غير طلبة العلوم الدينية، وكان يدعم هذا التوجه بقوة.
* هل كان من النوع الذي يخفي الكثير عن الناس؟
- لم يكن لديه ما يخفيه، غير أنه كان مضطرا في بعض الأحيان لإخفائها من أجل نجاح الأمور، لكني أؤكد أن الناس كانوا يعرفون ماذا يريد الشيخ الجمري، ولم أكن أحضر بصراحة الجلسات الخاصة التي كان يعقدها مع العلماء و السياسيين إذ إنني كنت أقوم بإيصاله ولكني لا أدخل في تلك الأماكن.
* أقرب الشخصيات له أثناء الانتفاضة و بعدها.
- أثناء المبادرة كان أصحاب المبادرة هم الأقرب إليه وكان جميعهم على مستوى واحد بالقرب منه، وبعد السجن الثاني كان قريبا من الدكتور علي العريبي إذ كان كثير التشاور معه وكان يستدعيه للتشاور أو يذهب إليه حتى بعد الثانية صباحا.
* ما الذي كان يسبب الإنزعاج لسماحته؟
- كان ينزعج كثيرا من بعض البيانات الصادرة ضده، ولكنه كان ينزعج كثيرا من تضرر قضية الشعب و مطالبه، والخلافات التي كانت بين الرموز و الناس كانت تؤذيه كثيرا لذلك لم يكن يسكت عنها بل يبادر إلى حلها، كما أن الخلافات بين الرموز أنفسهم كانت تزعجه وتؤذيه وكان لا يستقر إلا بعد حلها، إذ كان يتنقل من مكان إلى آخر في سبيل حلها.
* كيف كان يتعامل مع من يختلف معه؟
- عندما يختلف معه أحد فإنه لا ينام إلا وقد حل القضية و الإشكال الذي وقع بينهما، وأذكر أنه كانت لي قضية معه، وذلك في الإضراب عن الطعام الذي نفذه مع أصحاب المبادرة إذ إنه طلب مني إيصال رسالة معينة إلى الجمهور بشأن الشعارات و أنواعها، ولكنه تفاجأ بصمت الجماهير عن الهتاف، وبعد أن تناقشت معه واعتبرت أن الأمر انتهى، اتصل بي بعد منتصف الليل ليطيب خاطري و يطبطب عليّ ويراضيني، وهذه طبيعته مع الجميع.
* كيف تعامل سماحته مع الإضراب عن الطعام بحكم سنه ومرضه؟
- كان سماحته مقاوما لكل شيء من أجل أن يواصل مسيرته التي بدأها، وأثناء الإضراب عن الطعام كان يتعب كثيرا وننقله إلى المستشفى ولكنه كان يستمد قوته من الجماهير التي وجدت طوال الوقت حول مجلسه الذي كان هو و(أصحاب المبادرة) المضربون عن الطعام فيه، كما أنه كان يستقبل وفودا من جميع القرى وكانت أيضا تلك الزيارات تشد من عزيمته وتقويها، وأذكر هنا أنه كان منزعجا من عدم استجابة الدولة لمطالب الناس وكان يتأذى كثيرا لذلك، كما كان تفكيره منصبا على ما يعانيه الناس، ولم يكن يفكر في نفسه.
*ما هي طبيعة علاقته بأهالي القرى و المناطق؟ وهل كانت له علاقة خاصة بقرى عن غيرها؟
- كان لدى سماحته إحساس كبير أنه ينتمي إلى جميع القرى والمناطق، كما أن الناس كانت تبادله الشعور نفسه إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل والمنطقة، وكان يحسس الناس دائما أنه يعرفهم جيدا لذلك كانت له قصصا مع كل منطقة، وعند زيارة كل منطقة يتبين لك أن العلاقة نفسها في كل منطقة موجودة إذ إنه يعامل الجميع كأحباء له، لذلك فإن الجميع تجدهم قريبين منه.
* ماذا عن تعاطي الشيخ مع قضية الشهداء؟
- تعاطى الشيخ مع قضية الشهداء منذ بدايتها، إذ كان متأثرا جدا في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول من العام 1994 إذ تابع الموضوع، وأتذكر أنه عقد اجتماعا في منزل المرحوم الشيخ سليمان المدني، كما أنه كان يعيش قضية الشهيد في مناحي حياته كافة، وأكبر دليل على أنه يحمل هم الشهداء هي خطاباته التي تدل على أنه كان مستعدا للشهادة وتحركه الميادني و تحمله للضغوط الكبيرة كان دليلا على ذلك.
* ماذا عن علاقته بالشعر؟
- كان من مشجعي الشعر و الشعراء، كما أنني ألاحظه دوما يشجع الشعراء مهما كان مستوى شعرهم وبعد انتهائهم يقوم بتوجيههم وإبداء ملاحظاته بشأن الأبيات والقصيدة، وأنا لم أر شخصا يفعل ذلك أبدا، كما أنه كان يكتب الأبيات في الكثير من المناسبات حتى أنه كتب عددا من القصائد بمناسبة ذكرى ولادة عدد من أحفاده وهو على فراش المرض.
* برأيك ما هي أبرز صفات الشيخ الجمري؟
- أكثر شيء يميز الشيخ هي الشجاعة كما أنه شفاف للغاية وواضح جدا إذ إنه يقول ما في قلبه من دون أي عمليات تجميل.
* لماذا ترك الشيخ السياسة بعد الانتفاضة؟
- الشيخ لم يترك السياسة بل ترك الأمور التفصيلية وذلك بعد تأسيس الجمعيات السياسية، كما أن خطابه كان يشمل الجميع، وهنا أذكر له كلمة قالها وهي «ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين»، وهذه العبارة لا أحد يستطيع أن يحدد ما إذا كانت رفضا للمشاركة أما لا، لأنها كلمة جامعة.
* ما هي طبيعة علاقته بالفقهاء و العلماء و الحوزات العلمية؟
- كانت له علاقات مع الحوزات العلمية و المراجع و كانت تلك العلاقات مباشرة، إذ إنه مثلا كانت له علاقة وطيدة مع المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين - رحمة الله عليه، وكان هناك احترام كبير بينه وبين المراجع وكان وكيلا للكثير منهم. كما أنه كان متواصلا مع الجميع، ولم يتحرك أي حركة إلا بعد مطابقة تحركه مع الشريعة وأي شخص يدّعي غير ذلك فهو يفتري عليه.
* ماذا عن برنامجه أثناء مرضه؟
- سأتحدث هنا عن شيء من برنامجه إذ إنني أتذكر ارتباطه الوثيق بصلاة الجماعة، إذ إنه وبعد خروجه من المستشفى العسكري وعلى رغم حالته الصحية إلا أنه ظل يصلي صلاة الجماعة في غرفته بالمنزل مع بعض الحضور، وبعدها انتقل للصلاة في المجلس لأن العدد ازداد ومن ثم نقلها للسبب نفسه إلى صالة المنزل، ولم يقطع صلاة الجماعة على رغم من كل آلام المرض، كما أنه لم يقطع حضور المناسبات على رغم آلام «الديسك» فكان يحضر مجالس العزاء في المناطق و يحضر الأفراح ويزور المناطق، فكان موجودا بين الجميع ولم يجعل أحدا يحس بغيابه أبدا.
وظل برنامجه ثابتا حتى قبل سفره إلى العلاج، وحتى في سفره لم ينقطع عن الناس إذ كان يستقبل الاتصالات وذلك قبل إجراء العملية.
* رأينا شريط فيديو للشيخ وهو يتحدث.
- في فترة مرضه كان صمته طويلا لأنه لم يكن يستطيع التحدث، ولكنه تحدث في حادثتين لعشر دقائق، في المرة الأولى وهو الفيديو الذي تتحدث عنه عندما استقبل طلبة العلوم الدينية في بني جمرة، والمرة الآخرى كانت في حضور نسائي من منطقة توبلي، إذ طلب منه ابنه محمد حسين الحديث بعد تعريفه بالوفد فتفاجأنا بحديثه وتشجيعه للنساء إذ تحدث لمدة خمس دقائق.
* كيف ومن الذي أخبرك برحيل الشيخ الجمري؟
- سنرجع إلى الألم، سترجع بي إلى الخبر الصاعقة الذي أخبرني به النائب عبدالجليل خليل زوج بنت الشيخ عندما اتصل بي يخبرني، لم أكن مصدقا ولا مستوعبا للفكرة لأني أحس بوجوده في كل مكان وبين الجميع.
* هنا يتوقف السيد طالب والدموع تتساقط من عينيه، ويتكلم بغصة وحرقة.
- مجيء الناس خفف وطأة المصيبة كما أنه ساعدنا على تخفيف الألم وجعلنا نستطيع إدارة الحادث بسرعة، والحضور الجماهيري لعله كان قليلا في حقه على رغم البرد و التعب و من غاب لم يغب إلا مضطرا إلا أنني أجده قليلا في حق هذا الصرح العظيم.
* يصمت ثانية، ويكمل حديثه:
- آلام الفراق ما زالت موجودة، ولقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة إذ إنها توفيت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك.
* هل لنا بذكرى من الذكريات الجميلة مع سماحته؟
- كان سماحته مبتسما في كثير من الأحيان، في السجن كنت أقلد طريقة تنحنحه، أثناء إخراجنا من الزنزانة وكان هو في زنزانته يسمع ذلك الصوت ويعلم ما الذي أفعله، وبعد الإفراج عني وعنه كان يطلب مني أن أعيد ما كنت أفعله إلا أنني لم أستطع فعل ذلك.
* هل هناك ذكرى مؤلمة؟
- ما زالت ترن في أذني آلام الديسك، إذ أن الألم لم يكن يفارقه إلا بعد شرب المسكنات، وكان يتألم كثيرا، وهذه من الذكريات المؤلمة التي عايشتها معه.
* هل تريد إضافة أي شيء؟
- أحسد نفسي على قربي من الشيخ إذ جعلني أدخل في أوساط الناس وكانت ثقته تحملني الكثير من المسئولية ويكفيني فخرا أنني أذهب معه إلى كل مكان، وهذه ثقة غالية وأحمد الله عليها، إذ كنت معه في كل شيء حتى في تسلم الحقوق الشرعية والتصرف في بعض الحقوق. والشيخ شخصية لا تنسى لأنها تصنع كل دقيقة في حياتك وتعطيها معنى
سيد طالب: تميز الشيخ الجمري بالشجاعة وعلاقاته المتميزة بجميع المناطق
بني جمرة - مالك عبدالله
يعرفه الجميع بأنه المرافق الدائم للمرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري - قدس سره، يعتبر نفسه أحد أبنائه، يعشقه أكثر من والديه، اشتهر بأنه «سائق الشيخ»، أو «سكرتير الشيخ»، خصوصا أثناء انتفاضة التسعينات إذ كان يجوب كل المناطق مع سماحة الشيخ الجمري ولم يكن يرى الشيخ الجمري إلا وهو معه.
ومن الطبيعي ونحن نفتش عمن يحدثنا عن الشيخ الجمري أن نختار شخصا كان لصيقا به، فكان هذا اللقاء مع «سكرتير الشيخ»، كما يحب البعض أن يسميه أو «سائق الشيخ»، وهو السيد طالب محمد حسن الذي ينتمي إلى منطقة القرية، وكونه لصيقا بالشيخ الجمري فلابد أن يمسه شيء من العذابات التي سلطتها أجهزة القمع على الشيخ الجمري، لذلك فإن السيد طالب حاله كحال بقية عائلة الشيخ أبت أجهزة القمع إلا أن تضع ختم الشرف و الإباء و التضحية على أسمه وجسده فلذلك تم اعتقاله.
«الوسط» سألت السيد طالب عن شعوره بعد مرور عام على رحيل المرحوم سماحة الشيخ عبدالأمير الجمري فأجاب والدموع تتساقط من عينيه محاولا إيقافها إلا أنه لم ينجح في إخفائها عنا «آلام الفراق ما زالت موجودة»، ثم يصمت ويقول «أنت تذكرني بالخبر الصاعقة، لقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة، فوالدتي توفت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك الضياع».
وعن علاقة الشيخ الجمري بالجماهير، أكد أن «سماحة الشيخ كانت له علاقة مميزة مع كل شخص ومع كل منطقة، إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل و صاحب المنطقة، كما أنه يحسس الناس بحبه وأنه يعرفهم جيدا»، مضيفا «ويتبين لك أن علاقته مع هذه المنطقة متميزة و لكن عند زيارة منطقة أخرى تحس الإحساس نفسه، بمعنى أن علاقته بجميع المناطق كانت مميزة إذ إنه كان قريبا من الجميع ومحبا لهم»، وعن أبرز صفاته نوه إلى أن «سماحة الشيخ الجمري كان شجاعا شفافا و واضحا». وهذا نص لقاء «الوسط» مع سيد طالب محمد حسن:
* في أي عام بدأت العمل مع سماحة الشيخ الجمري؟
- كانت تربطني مع سماحة الشيخ - رحمة الله عليه - صلة قرابة، وفي بداية التسعينات كنت مرتبطا به أكثر كوني ألتحقت بحوزة الإمام زين العابدين(ع) التابعة لسماحته، و منذ العام 1994 كنت موجودا بصورة دائمة معه، ولم يفرقني عنه إلا السجن و المرض، غير أن غياب السجن كان أكبر.
* هل كان سماحته حازما في تعامله؟
- هو حزم في لين، إذ إنه في وقت الجد يكون جديا لأبعد الحدود، ولكن في وقت الراحة تحس أنه إنسان آخر فهو الممازح و المبتسم.
* ما نوع العلاقة التي كانت تربطه بالحوزة؟
- علاقته بالحوزة كانت مباشرة، وكان يعلم بجميع شئون الطلاب ودروسهم و مشكلاتهم، وماذا يريدون؟، وبعد التوسع قام بوضع إدارة للحوزة و نظام عام لها في بداية التسعينات، وكانت له علاقة مباشرة بجميع طلبة الحوزة، ولذلك لو بحثت مع جميع الطلبة لوجدت لكل واحد منهم قصصا مع الشيخ وجميعهم حتى اليوم يحكي هذه القصص.
وهنا اشير إلى أنه كان داعما للعمل المؤسساتي و الجماعي والدليل على ذلك تأسيسه للعمل الإداري في الحوزة ولجنة الحقوق الشرعية والتي تحتوي كفاءات ومتخصصين من غير طلبة العلوم الدينية، وكان يدعم هذا التوجه بقوة.
* هل كان من النوع الذي يخفي الكثير عن الناس؟
- لم يكن لديه ما يخفيه، غير أنه كان مضطرا في بعض الأحيان لإخفائها من أجل نجاح الأمور، لكني أؤكد أن الناس كانوا يعرفون ماذا يريد الشيخ الجمري، ولم أكن أحضر بصراحة الجلسات الخاصة التي كان يعقدها مع العلماء و السياسيين إذ إنني كنت أقوم بإيصاله ولكني لا أدخل في تلك الأماكن.
* أقرب الشخصيات له أثناء الانتفاضة و بعدها.
- أثناء المبادرة كان أصحاب المبادرة هم الأقرب إليه وكان جميعهم على مستوى واحد بالقرب منه، وبعد السجن الثاني كان قريبا من الدكتور علي العريبي إذ كان كثير التشاور معه وكان يستدعيه للتشاور أو يذهب إليه حتى بعد الثانية صباحا.
* ما الذي كان يسبب الإنزعاج لسماحته؟
- كان ينزعج كثيرا من بعض البيانات الصادرة ضده، ولكنه كان ينزعج كثيرا من تضرر قضية الشعب و مطالبه، والخلافات التي كانت بين الرموز و الناس كانت تؤذيه كثيرا لذلك لم يكن يسكت عنها بل يبادر إلى حلها، كما أن الخلافات بين الرموز أنفسهم كانت تزعجه وتؤذيه وكان لا يستقر إلا بعد حلها، إذ كان يتنقل من مكان إلى آخر في سبيل حلها.
* كيف كان يتعامل مع من يختلف معه؟
- عندما يختلف معه أحد فإنه لا ينام إلا وقد حل القضية و الإشكال الذي وقع بينهما، وأذكر أنه كانت لي قضية معه، وذلك في الإضراب عن الطعام الذي نفذه مع أصحاب المبادرة إذ إنه طلب مني إيصال رسالة معينة إلى الجمهور بشأن الشعارات و أنواعها، ولكنه تفاجأ بصمت الجماهير عن الهتاف، وبعد أن تناقشت معه واعتبرت أن الأمر انتهى، اتصل بي بعد منتصف الليل ليطيب خاطري و يطبطب عليّ ويراضيني، وهذه طبيعته مع الجميع.
* كيف تعامل سماحته مع الإضراب عن الطعام بحكم سنه ومرضه؟
- كان سماحته مقاوما لكل شيء من أجل أن يواصل مسيرته التي بدأها، وأثناء الإضراب عن الطعام كان يتعب كثيرا وننقله إلى المستشفى ولكنه كان يستمد قوته من الجماهير التي وجدت طوال الوقت حول مجلسه الذي كان هو و(أصحاب المبادرة) المضربون عن الطعام فيه، كما أنه كان يستقبل وفودا من جميع القرى وكانت أيضا تلك الزيارات تشد من عزيمته وتقويها، وأذكر هنا أنه كان منزعجا من عدم استجابة الدولة لمطالب الناس وكان يتأذى كثيرا لذلك، كما كان تفكيره منصبا على ما يعانيه الناس، ولم يكن يفكر في نفسه.
*ما هي طبيعة علاقته بأهالي القرى و المناطق؟ وهل كانت له علاقة خاصة بقرى عن غيرها؟
- كان لدى سماحته إحساس كبير أنه ينتمي إلى جميع القرى والمناطق، كما أن الناس كانت تبادله الشعور نفسه إذ إن الجميع يعامله على أنه صاحب المنزل والمنطقة، وكان يحسس الناس دائما أنه يعرفهم جيدا لذلك كانت له قصصا مع كل منطقة، وعند زيارة كل منطقة يتبين لك أن العلاقة نفسها في كل منطقة موجودة إذ إنه يعامل الجميع كأحباء له، لذلك فإن الجميع تجدهم قريبين منه.
* ماذا عن تعاطي الشيخ مع قضية الشهداء؟
- تعاطى الشيخ مع قضية الشهداء منذ بدايتها، إذ كان متأثرا جدا في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول من العام 1994 إذ تابع الموضوع، وأتذكر أنه عقد اجتماعا في منزل المرحوم الشيخ سليمان المدني، كما أنه كان يعيش قضية الشهيد في مناحي حياته كافة، وأكبر دليل على أنه يحمل هم الشهداء هي خطاباته التي تدل على أنه كان مستعدا للشهادة وتحركه الميادني و تحمله للضغوط الكبيرة كان دليلا على ذلك.
* ماذا عن علاقته بالشعر؟
- كان من مشجعي الشعر و الشعراء، كما أنني ألاحظه دوما يشجع الشعراء مهما كان مستوى شعرهم وبعد انتهائهم يقوم بتوجيههم وإبداء ملاحظاته بشأن الأبيات والقصيدة، وأنا لم أر شخصا يفعل ذلك أبدا، كما أنه كان يكتب الأبيات في الكثير من المناسبات حتى أنه كتب عددا من القصائد بمناسبة ذكرى ولادة عدد من أحفاده وهو على فراش المرض.
* برأيك ما هي أبرز صفات الشيخ الجمري؟
- أكثر شيء يميز الشيخ هي الشجاعة كما أنه شفاف للغاية وواضح جدا إذ إنه يقول ما في قلبه من دون أي عمليات تجميل.
* لماذا ترك الشيخ السياسة بعد الانتفاضة؟
- الشيخ لم يترك السياسة بل ترك الأمور التفصيلية وذلك بعد تأسيس الجمعيات السياسية، كما أن خطابه كان يشمل الجميع، وهنا أذكر له كلمة قالها وهي «ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين»، وهذه العبارة لا أحد يستطيع أن يحدد ما إذا كانت رفضا للمشاركة أما لا، لأنها كلمة جامعة.
* ما هي طبيعة علاقته بالفقهاء و العلماء و الحوزات العلمية؟
- كانت له علاقات مع الحوزات العلمية و المراجع و كانت تلك العلاقات مباشرة، إذ إنه مثلا كانت له علاقة وطيدة مع المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين - رحمة الله عليه، وكان هناك احترام كبير بينه وبين المراجع وكان وكيلا للكثير منهم. كما أنه كان متواصلا مع الجميع، ولم يتحرك أي حركة إلا بعد مطابقة تحركه مع الشريعة وأي شخص يدّعي غير ذلك فهو يفتري عليه.
* ماذا عن برنامجه أثناء مرضه؟
- سأتحدث هنا عن شيء من برنامجه إذ إنني أتذكر ارتباطه الوثيق بصلاة الجماعة، إذ إنه وبعد خروجه من المستشفى العسكري وعلى رغم حالته الصحية إلا أنه ظل يصلي صلاة الجماعة في غرفته بالمنزل مع بعض الحضور، وبعدها انتقل للصلاة في المجلس لأن العدد ازداد ومن ثم نقلها للسبب نفسه إلى صالة المنزل، ولم يقطع صلاة الجماعة على رغم من كل آلام المرض، كما أنه لم يقطع حضور المناسبات على رغم آلام «الديسك» فكان يحضر مجالس العزاء في المناطق و يحضر الأفراح ويزور المناطق، فكان موجودا بين الجميع ولم يجعل أحدا يحس بغيابه أبدا.
وظل برنامجه ثابتا حتى قبل سفره إلى العلاج، وحتى في سفره لم ينقطع عن الناس إذ كان يستقبل الاتصالات وذلك قبل إجراء العملية.
* رأينا شريط فيديو للشيخ وهو يتحدث.
- في فترة مرضه كان صمته طويلا لأنه لم يكن يستطيع التحدث، ولكنه تحدث في حادثتين لعشر دقائق، في المرة الأولى وهو الفيديو الذي تتحدث عنه عندما استقبل طلبة العلوم الدينية في بني جمرة، والمرة الآخرى كانت في حضور نسائي من منطقة توبلي، إذ طلب منه ابنه محمد حسين الحديث بعد تعريفه بالوفد فتفاجأنا بحديثه وتشجيعه للنساء إذ تحدث لمدة خمس دقائق.
* كيف ومن الذي أخبرك برحيل الشيخ الجمري؟
- سنرجع إلى الألم، سترجع بي إلى الخبر الصاعقة الذي أخبرني به النائب عبدالجليل خليل زوج بنت الشيخ عندما اتصل بي يخبرني، لم أكن مصدقا ولا مستوعبا للفكرة لأني أحس بوجوده في كل مكان وبين الجميع.
* هنا يتوقف السيد طالب والدموع تتساقط من عينيه، ويتكلم بغصة وحرقة.
- مجيء الناس خفف وطأة المصيبة كما أنه ساعدنا على تخفيف الألم وجعلنا نستطيع إدارة الحادث بسرعة، والحضور الجماهيري لعله كان قليلا في حقه على رغم البرد و التعب و من غاب لم يغب إلا مضطرا إلا أنني أجده قليلا في حق هذا الصرح العظيم.
* يصمت ثانية، ويكمل حديثه:
- آلام الفراق ما زالت موجودة، ولقد فقدت والدتي قبل رحيل سماحة الشيخ بفترة بسيطة إذ إنها توفيت قبله بنحو 8 أشهر، ولكن الألم الذي أصابني جراء وفاة الشيخ كان أكبر بكثير من آلام رحيل والدتي، إذ إنني أحسست بالضياع بعد رحيله - رحمة الله عليه - وما زلت أعيش ذلك.
* هل لنا بذكرى من الذكريات الجميلة مع سماحته؟
- كان سماحته مبتسما في كثير من الأحيان، في السجن كنت أقلد طريقة تنحنحه، أثناء إخراجنا من الزنزانة وكان هو في زنزانته يسمع ذلك الصوت ويعلم ما الذي أفعله، وبعد الإفراج عني وعنه كان يطلب مني أن أعيد ما كنت أفعله إلا أنني لم أستطع فعل ذلك.
* هل هناك ذكرى مؤلمة؟
- ما زالت ترن في أذني آلام الديسك، إذ أن الألم لم يكن يفارقه إلا بعد شرب المسكنات، وكان يتألم كثيرا، وهذه من الذكريات المؤلمة التي عايشتها معه.
* هل تريد إضافة أي شيء؟
- أحسد نفسي على قربي من الشيخ إذ جعلني أدخل في أوساط الناس وكانت ثقته تحملني الكثير من المسئولية ويكفيني فخرا أنني أذهب معه إلى كل مكان، وهذه ثقة غالية وأحمد الله عليها، إذ كنت معه في كل شيء حتى في تسلم الحقوق الشرعية والتصرف في بعض الحقوق. والشيخ شخصية لا تنسى لأنها تصنع كل دقيقة في حياتك وتعطيها معنى
ملف الجمري (الوسط)
بعد عام على رحيل الشيخ الجمري
أم جميل: تمنيته معنا ليقطف الثمار التي زرعها
بني جمرة - ندى الوادي
عامٌ كاملٌ مضى على رحيله، ولكنها لاتزال تسمع صوته، وتحتفظ في قلبها بذكراه. كلما سمعت عن البرلمان، أو مطالب الشعب، أو مكتسبات العهد الإصلاحي، تذكرت رحلته الطويلة مع العذاب، وجرأته في الدفاع عن الناس، كلما سمعت عن شيخ يؤم الناس في صلاة هادئة رزينة خاشعة، التقطت أذناها ذبذبات بعيدة/ قريبة من قلبها لصوته الرخيم وحكمته البالغة. وكلما راقبت تشتت الناس وفرقتهم، ظهرت أمام عينيها صورته الحازمة الحنونة، وهو يحث كعادته على الوحدة ويأبى على الناس الفرقة.
رحل الشيخ الجمري عن هذه الدنيا منذ عام، ولكنه لايزال باقيا في دنياها، دنيا رفيقة دربه أم جميل... تلك الدنيا البسيطة العفوية، يطغى بحضوره على أبسط التفاصيل حتى الصغيرة منها في حياتها.
تستيقظ من النوم باكرا كعادتها كل يوم، فتتذكر كيف كانت تحييه صباحا: «صبحك الله بالخير أبا جميل» ، وكيف كان يرد عليها برقته المعتادة: «صبحك الله بالخير حبيبتي»... تفتح خزانة الملابس لتجد ملابسه مختلطة بملابسها، وعمامته ملفوفة كما تركها تماما. تجهز الفطور لأهل المنزل، فتسترجع اليوم الذي لم يتمكن أن ينهي فطوره فيه قبل اعتقاله. تتجه إلى المسجد القريب من منزلها، والذي لم يكن يتخلف عن أية صلاة فيه، فتتذكر إمامته الناسَ في الصلاة، وتتذكر أيامه الأخيرة التي قضاها في المنزل مريضا حين انقطعت عن زيارة المسجد لجلوسها بقربه.
ولكن أم جميل راضية بالقضاء، فوضت أمرها لله وهي تعرف أن بعد كل اجتماع فرقة، وأن هذا هو قدرها، فرحيل أبي جميل قدر لا يمكن أن تعترض عليه، وما مر عليه في حياته قدرٌ آخرُ لم يكن بالإمكان الاعتراض عليه أيضا، وبَيْد أنها تنظر بألم إلى شريط الذكريات، وتسترجع ما عاشه في حياته، وتتمنى لو لم يكن قد عانى كل تلك المعاناة، قبل أن يرحل.
قوية جلدة...
انعكس كل ما مرت به أم جميل من حوادث في حياتها على شخصيتها، فطبعها بطابع القوة والجلد. كل من حولها يعرف أنها صبورة، لا تنزعج أو تقلق بسرعة، فقد تعودت على الخوف والمعاناة حتى على... الموت، فصارت قادرة على مقاومة أي شيء كان، ولكن شيئا واحدا لم تتمكن من مقاومته أو الصمود في وجهه، كان ذاك لحظة اكتشفت رحيل رفيق دربها أبوجميل عنها. تقول: «في ذلك اليوم لم أستطع السيطرة على نفسي ولا أعرف لماذا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها الأموات، فقد تعودت هذه المواقف، ولكني عندما اكتشفت وفاته لم أتمكن من استجماع قوتي، انهرت وفقدت القدرة حتى على الرؤية، لم أتمكن حتى من رؤية الأرقام لكي أتصل بأبنائي بالهاتف. شعرت بنفسي سأموت، وابتعدت عن السرير لأجلس على الكرسي، كنت أحاول أن أجبر نفسي على أن أستفيق لأتصل، لم أكن أستوعب بعد أني غير قادرة على النظر. لم أبكِ، ولكني كنت أرتجف, عرفت أن ضغط دمي ارتفع كثيرا. أخذوني بعدها إلى المستشفى وحقنوني بإبرة مهدئ لم أتمكن معها من الحركة، كنت في منزل أختي عندما استيقظت فجرا بعد أن انتهى كل شيء، كان قد غسلوه ودفنوه، أما أنا فعدت إلى منزلي، وشعرت به خاليا موحشا من دون أبي جميل».
بعد الرحيل...
رحل الشيخ إذاَ، ولكنه لم يرحل من ذاكرة أم جميل، فذكراه حاضرة معها في كل لحظة، تقول: «لم أتمكن من احتمال الحزن في البداية بعد فراقه، وخصوصا أن شهر محرم الحرام جاء سريعا وكان يذكّرني به كثيرا، وكلما كنت أستمع إلى القراءة في شهر محرم، كنت أبكي أبا جميل، كنت عندما أشاهد مكتبه أو الجامع خاليا أتذكره، وكلما مررت بالقرب من خزانة الملابس، أخرجت أوراقه التي كان يحتفظ بها في جيوب ملابسه؛ لأقرأ بعضا من مذكراته وأتذكره. أما الناس فلم ينسوه أبدا، لايزالون يزورونني ويواسونني ويذكّروني به. أشعر بالفخر عندما يقولون إنهم لم يجدوا شبيها له أو بديلا بعد. وكأني به لامس حياتهم بقوة مثلما لامس حياتي فأصبح مسيطرا عليها حتى بعد رحيله، حتى صرت أقوم بما كنت أقوم به نفسه أيام كان بيننا، حتى في أدق تفاصيل يومي».
الحصار
تخيل نفسك تعيش محصورا بين جدران منزلك لفترة تتجاوز أسبوعين، يمنع عليك الخروج، أو الاطلاع على أي مما يجري خارج عالمك! تخيل أن تسحب منك جميع أجهزة التلفزيون والراديو التي تربطك بالعالم الخارجي، ويمنع عنك أن تلتقي أحدا أو تخرج من دائرة تلك الجدران المحيطة بك. ويمنع عنك أن تفعل ما تحب، أو تأكل ما تحب، أو تتصرف بما تحب. وفوق ذلك كله، لا تتمتع حتى بوحدتك في سجنك «المفتعل» ذاك، فأنت محمّل بمسئولية 18 فردا يشاركونك «سجنك» ذاك، أكثرهم من الأطفال.
تبدو تلك تجربة خيالية تصلح لفيلم سينمائي درامي، غير أن أم جميل عاشتها في واقع الأمر، وحُفِرت في ذاكرتها عميقا، حتى صار بدنها يقشعر كلما تذكرتها. تقول: «كانت مرحلة الحصار الذي فُرِض علينا في المنزل من أكثر المراحل التي مررت بها مرارة، كنا لوحدنا ليس معنا من يقوم بأمورنا غير ابني صادق، ولا أعرف لماذا تجمع أبنائي وأحفادي في ذلك اليوم في منزلنا بالمصادفة، كان بعضهم لا يداوم على الحضور، غير أنهم كانوا جميعا في المنزل عندما تعرضنا للهجوم المباغت الذي أعقبه الحصار. ولم يوافق الشرطة الذين حاصروا منزلنا على خروج أيٍّ من الموجودين في الداخل، حتى أختي التي كانت تزورنا بالمصادفة وتسكن قريبا من منزلنا. بقينا جميعا في المنزل نشعر بالاختناق، كنا 19 فردا غالبيتنا نساء وأطفال، كنا نشعر بأننا في سجن حقيقي، فقد كان الشرطة يحاصرون كل المداخل والمخارج حتى سطح المنزل، وأعتقد أن عددهم فاق الخمسين. وقمنا بتعليق البطانيات على النوافذ حتى نحافظ على خصوصيتنا على الأقل في قاعة المنزل، فغرق المنزل في الظلام. لم تكن لدينا أية وسيلة للتسلية وكانت السيطرة على الأطفال في هذا الوضع شبه مستحيلة، إذ لم تكن شقاوتهم محتملة. كان ابني صادق يضطر أحيانا لحمل بعض الأطفال لردهة باب المنزل علهم يهدأون، وكان هذا الأمر مدعاة لرفض الشرطة الذين انزعجوا من شقاوة الأطفال، فقد كان الصبية منهم يتسلقون سور المنزل ويقفزون خارجه، فكان الشرطة يركضون خلفهم ليمسكوا بهم، ويهددونهم بوضع الأصفاد في أيديهم، غير أن الوضع لم يكن يمكن السيطرة عليه في تلك الفترة».
19 مجرما
لم تكن مشكلة التعامل مع «شقاوة الأطفال» هي الوحيدة التي واجهت أهل المنزل المحاصر، فالأكل كان مشكلة أخرى أكثر أهمية، تقول أم جميل: «كانوا يحضرون الوجبات الثلاث لنا في صناديق كرتونية كتب عليها 19 مجرما. مازلت أتذكر هذه العبارة على الصندوق. ولكن الأدهى أننا لم نكن قادرين على تناول هذا الطعام، فقد كان فعلا أكل مساجين، وكان الأطفال بالذات معتادين على نمط معين من الأكل لم يكن بالإمكان إجبارهم على غيره».
تستطرد أم جميل مستذكرة: «حاولنا التفاوض مع الشرطة بهذا الشأن، أخبرناهم أننا سنعطيهم نقودا على أن يشتروا لنا قائمة بما نحتاج إليه حتى نطبخ بأنفسنا ما نريد، وبصعوبة قبلوا بالأمر في وقت لاحق».
بدائل عملية للاتصال بالخارج
كان الاتصال بالخارج والتعرف إلى ما يحدث فيه من أصعب ما واجه المحاصرين في ذاك المنزل، إذ لم يكن أيٌّ منهم يعرف ما يجري في الخارج. غير أن البدائل لهذا الاتصال كانت - على رغم صعوبة الظروف - موجودة ومنطقية.
تقول أم جميل: «جاءت إلى منزلنا إحدى الجارات يوما بحجة إحضارها بعض الحاجيات، كانت تخاطبهم بصوت عالٍ وتصرخ وكنا نصغي بدقة لما تقوله، كانت تخبرنا بما جرى للقرية أثناء حصارنا في تلك الأيام».
أما البديل «الأكثر فعالية» لسماع أخبار الدنيا فكان «اكتشافا» خطيرا لأهل المنزل، الذين عثروا على جهاز تلفزيون وراديو صغير قديم لم تنتبه الشرطة لوجوده فلم تصادره، وكان هذا الجهاز «كالكنز» على رغم صعوبة أن يلتقط أيا من الذبذبات الإذاعية والتلفزيونية. عن ذلك تحكي أم جميل بقولها: «كنا نبحث عن قناة لندن بفارغ الصبر، وبذلنا مجهودات كبيرة في محاولتنا تلك. كانت ابنتي عفاف تجلس وتغطي نفسها ببطانية ثقيلة حتى لا يخرج أي صوت من الجهاز، وتبدأ تحريك مؤشره علها تلتقط شيئا يعرّفها بما يجري في الخارج. وكان لها ما أرادت في أحد الأيام، إذ تمكنت من التقاط موجة إذاعة لندن، لتستمع إلى أخيها منصور يتحدث عن الوضع في البحرين، طارت هي من الفرحة وطرنا معها. وعلى رغم أنها لم تتمكن من التقاط الصوت بشكل واضح، غير أنها استطاعت سماع بعض الأخبار على الأقل»!
الابنة الوسطى منصورة كانت وسيلة اتصال أخرى للعائلة المحاصرة بالخارج من دون قصدها، إذ أصيبت بوعكة صحية؛ لأنها وضعت للتو مولودا جديدا بعملية قيصرية، هنا بدأت المفاوضات لإخراجها من ذلك الحصار بدعوى وضعها الصحي. تقول أم جميل: «تفاوض ابني صادق مع الشرطة كثيرا على إخراجها؛ نظرا إلى وضعها الصحي الحرج، فما كان منهم في البداية إلا أن اتجهوا إلى المستشفى ليحضروا الطبيبة لتكشف عليها. جاءتنا الطبيبة مرعوبة، ثم أعلنت أنها لا تستطيع أن تفعل شيئا في المنزل فمن الضروري نقلها إلى المستشفى. كان الأمر صعبا عليّ وعلى أبي جميل أن نراها خارجة وخلفها المدرعات وسيارات الشرطة من منزلنا حتى المستشفى. استطاعت منصورة الاتصال بخالتها في المستشفى لتحضر لها بعض الحاجيات، وبعد يومين تماثلت للشفاء فطلبت أن تعود إلى المنزل لتحضر بعض حاجياتها، وكان هدفها أن تطلعنا على بعض الأخبار من الخارج. جاءت على عجل وكان الشرطة خلفها، منعوني من الاقتراب منها غير أنني أصررت، احتضنتها فهمست في أذني ببعض المعلومات، قبل أن تخرج بسرعة».
لم تغفل أم جميل في حديثها الأعباء الكبيرة التي حملها ابنها محمد حسين الذي كان له دور كبير جدا في مساندتها طوال سنوات المحنة، إذ إنه كان في واجهة الحدث، وخصوصا أثناء المفاوضات مع نقاط التفتيش المحاصرة للمنزل، ناهيك عن أنه كان يتحمّل المشقة لرعاية شئون الأسرة في جميع الأوقات الحرجة، وخصوصا بعد اعتقال الشيخ الجمري، إذ كان يتابع بنفسه تنسيق المقابلات ويأخذ الأسرة إليها، ويتابع توصيل الأطفال إلى المدارس وغيرها من أعباء تحمّلها وحده فترة طويلة.
فكوا الحصار... وأخذوا الشيخ
بقي جميع سكان ذلك المنزل المحاصر في قلق مستمر، يتساءلون جميعهم إلى متى يستمر الأمر؟ وجاءت خيبة أملهم على دفعات. ففي أحد الأيام جاءهم قرار من الشرطة بإمكان خروج من يريد من المنزل المحاصر ما عدا الشيخ وزوجته. بدأ الجميع يجهز أغراضه للخروج، بل إن أخت أم جميل خرجت فعلا فأغراضها كانت جاهزة، غير أن الوقت لم يمهلهم حتى جاء أمر آخر يمنعهم من الخروج ويجبرهم على البقاء.
بعد أيام بدأت الهجمة على المنزل المحاصر صباحا، تستذكر أم جميل هذا اليوم بدقة كأنه البارحة: «كان أبوجميل قد استيقظ للتو ولم يكن قد تناول فطوره بعد. صنعت له كوبا من الشاي لم يستطع أن ينهيه، ثم أخذوه معهم، وفكوا عنا الحصار». تم تركيب التوصيلات الكهربائية للهاتف والتلفزيون، فسارعت أم جميل لتتصل بأختها وتقول وهي ترتجف: «فكوا عنا الحصار ولكنهم أخذوا أبا جميل». عن تلك اللحظات تقول: «بدأ الناس يتوافدون إلى منزلنا زرافاتٍ ووحدانَ قبل أن يخرج الشرطة من المنزل، ولكني أصبت بحالة غير طبيعية من الاكتئاب والحزن لم أعرف لها سببا، ربما كانت لأني كنت أحاول الصمود طوال الأيام الخمسة عشرة التي حوصرنا فيها لأشجع أبا جميل وأداريه وأرفه عن نفسيته، فجمعت حزن الدنيا كله في قلبي فخرج كله في تلك اللحظة. صرت أبكي بحرقة وأنا مرتجفة، تذكرت من سُجن من الأبناء ومن تشرد منهم، وما حل بأبي جميل، وأبكي... لم نعرف أين سجنوه إلى أن أطلق سراحه لاحقا».
قصص ما قبل الرحيل...
«تمنيت لو لم يعاني الشيخ ما عاناه قبل رحيله، فهل كان عليه أن يتكبد كل تلك المشقة قبل أن يرحل؟»... بحسرة قالتها أم جميل، مختلطة بنبرة الرضا بما حل من قضاء الله سبحانه وقدره. عادت أم جميل بذاكرتها إلى الوراء تستذكر تلك الأيام الباردة في ألمانيا، والتي حفرت عميقا في حياتها بالكامل، تقول: «كنت معه وحيدة في ألمانيا عندما ذهبنا للعلاج. كان يتحدث كثيرا في تلك الفترة، لم أجد أبا جميل محبا للحديث كتلك الأيام، كان يحدثني في موضوعات شتى، لم يبقِ موضوعا إلا وتحدث عنه، حتى ذكرياته في العراق وما شاهده أخذ حيزا كبيرا من أحاديثه، كنت أستغرب كيف احتفظ في ذاكرته بكل تلك الأحاديث، ولم أكن أعلم أنه كان يودع الدنيا بها».
ويفتح حديث ألمانيا شجونا لدى أم جميل فتقول: «مازلت أتذكر يوم عمليته في ألمانيا، استيقظ صباحا وكان يريد أن يقوم للصلاة، ولكن الممرضة دخلت لتعطيه الإبرة، رفض أن يأخذها لأنه يعرف أنه لن يتمكن من الصلاة بعدها، غير أني أجبرته على أخذها قائلة: إن الوقت لابد سيسعفه للصلاة قبل مفعول الإبرة. كان محقا... فقد تخدر تماما بعد الإبرة ولم يعد قادرا على الحركة، بدأ يلومني على إقناعي له بأخذ الإبرة، حاولت أن أطمأنه ودفعته للنوم حتى يستيقظ لاحقا للصلاة. ولكنه لم يستيقظ. حاولت إيقاظه ولكنه لم يتمكن من النهوض. مازلت أتذكر ذلك اليوم كثيرا... كان متعبا جدا ووجلا من العملية. قال لي: (انذري علي، أنا وجل جدا من العملية)، رددت عليه قائلة: (إن شاء الله). ارتدى ملابس العملية بعدها، وبالكاد صلى صلاة الصبح، ثم ساقوه لغرفة العمليات».
وحيدة، غريبة، خائفة وقلقة... هكذا كانت أم جميل طوال الساعات التي استغرقها مبضع الجراح في جسد أبي جميل داخل غرفة العمليات. تقول: «كنت أظن الأمر بسيطا، ولكن الوقت تأخر من دون أن يخبروني بالنتيجة، اتصلت بشخص عراقي في السفارة ليساعدني على التفاهم معهم فقد قلقت لتأخره في العملية، وبعد ساعات أخذني إليه، كان قد خرج من العملية ولكنه كان بحالة صعبة جدا. كانت الممرضة هناك تسألني هل اسمك: زهراء، فأجبتها بنعم، فقالت إنه كان ينادي باسمك طوال الوقت منذ أن استيقظ. جلست بقربه وكان يمسك يديّ طوال الوقت، لم يكن الأطباء يقبلون ببقائي هناك طويلا فكانوا يخرجونني عندما يغفو، ولا يلبث أن يستيقظ ليصرخ مناديا باسمي؛ لكي أبقى بقربه».
كانت أم جميل أول من تنبأ بالجلطة التي أصيب بها الشيخ الجمري، حتى قبل أن يتنبأ بها الأطباء، شعرت بأن حديثه غير واضح، فطلبت من ابنها الذي وصل إلى ألمانيا آنذاك أن يشرح الأمر للطبيب، واستجابة لذلك أخذه الأطباء لبعض الفحوصات والأشعة، التي تبيّنوا بعدها أنه أصيب بجلطة في النطق، عن تلك اللحظة تقول أم جميل: «كنت أنتظر الرد بفارغ الصبر، حتى جاءني طبيب عربي يخبرني أن ما توقعته صحيح، وأنه أصيب بجلطة في النطق. في تلك اللحظة حل بي اليأس تماما، وشعرت بأنه مفارق لا محالة، وأن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر».
تحسن الشيخ الجمري بعد هذه العملية، وخصوصا أثناء فترة بقائه في المصحة في المملكة العربية السعودية، وتحسن أكثر عندما عاد أخيرا إلى منزله بعد رحلة عناء طويلة مع المرض، تقول أم جميل: «كان يجلس معنا ويتحدث، ويتابع ما نقرأه له من أدعية، كان قادرا على قراءة العناوين الكبيرة في الصحف، بل إنه التقى كثيرا من الوفود التي زارته في المنزل، وألقى خطبة لبعضها، حتى أصيب بجلطة أخرى».
مرة أخرى كانت أم جميل أول من تنبأ بما حل بشريك حياتها ورفيق دربها قبل أن يشخص الأطباء حالته، كان الجميع ينكر إمكان أن يصاب بجلطة أخرى، بَيْد أنها وحدها شعرت بما حل به، وأكد الطبيب ما قالته لاحقا، ليدخل الشيخ الجمري في مرحلة أصعب من المرض لم يتحسن منها حتى رحيله.
مشروعات لتخليد الذكرى
بناء قبر الشيخ الجمري، إنشاء مكتبة شاملة لمؤلفات الشيخ، جمع مؤلفاته ومحاضراته ومخطوطاته وأشعاره وطباعتها... كلها مشروعات فكر فيها كثيرون وعلى رأسهم أفراد عائلة الشيخ الجمري، واتخذت فيها بعض الخطوات، غير أنها لم تأخذ حيز التنفيذ بعدُ. ولعل أم جميل من أول الحريصين على تنفيذ هذه المشروعات لعلمها بأهميتها في تخليد ذكرى رفيق دربها الراحل. تقول: «مازلنا نحاول أن ننهي موضوع بناء قبر الشيخ بعد أن واجهتنا عدة مشكلات، في البداية قيل لنا إنه لا يجوز البناء على القبر؛ لأن الناس تأتي لتصلي في المقبرة، ثم أخذنا إجازة من مراجع الدين الذين أكدوا أن لا بأس في ذلك محددين المساحة الملائمة، ورفض البعض وضع منارات على القبر حتى لا يتحول إلى مزار، على حين قال البعض إن الجميع سيود بناء القبور القريبة لو قررنا البناء. لقد واجه هذا الموضوع عراقيلَ كثيرة ومعارضة من قِبل البعض ولا نعرف لماذا، ولكننا الآن في مرحلة وضع الخريطة النهائية وتجهيزها، وخصوصا أن الأمر أصبح بالفعل ملحا فقد اشتعلت الأقمشة القريبة من القبر مرتين من قبلُ؛ بسبب إشعال بعض الشموع؛ ولذلك أصبح البناء ضرورة ملحة».
ولا يقل مشروع مكتبة الشيخ أهمية عن موضوع بناء القبر، غير أنها تختلف قليلا في أن لا خطوات جادة تمت بشأنها فعلا، تقول أم جميل: «لاتزال مخطوطات الشيخ محفوظة، وقد أخذ كل ابن من أبناء الشيخ بعضا منها ليقوم كلٌّ منهم بجمعها، كما أخذ أحد طلبة الشيخ بعضا من دفاتره ليصفّ المحاضرات على جهاز الحاسوب، ولكني لم أجد شيئا قد تم جمعه حتى الآن من كل ذلك».
وتضيف «هناك الكثير من المخطوطات، إلى جانب الكتب والمؤلفات المعروفة له، والمحاضرات الصوتية والكتابية، وقد قمت بنقل مكتبته بكامل محتوياتها إلى داخل غرفته حتى أضمن ألا تتشتت محتوياتها. أعرف ضرورة جمع كتبه ومؤلفاته ومخطوطاته لتخليد ذكراه، ناهيك عن القصائد التي كان ينظمها في فترات مرضه والتي كنا ندونها له باستمرار. كل ذلك يحتاج فعلا إلى وقت لجمعه وترتيبه».
قائد ورمز
«أحببت دفاعه عن المستضعفين، ووقفت بجانبه في كل ذلك، ولكني تمنيت لو لم يتعذب كل هذا العذاب في حياته... أكثر ما يحزنني هو وفاته من دون أن يشاهد عصر الانفتاح السياسي في البحرين. تمنيت لو كان موجودا بيننا ليرى جني ثمر ما زرعه من بذور».
على رغم بساطة كلماتها وعفويتها، ضربت أم جميل على جروح حساسة تعاني منها الساحة السياسية بعد رحيل الشيخ الجمري، تقول: «لو كان الشيخ موجودا بيننا اليوم لكانت كثير من الأمور مختلفة، أشعر أن الناس ضائعون لا يجدون من يحسم لهم موقفهم، أشعر أن الشارع مشتت، وطالما أتذكر أبا جميل وأقول: إنه لو كان هنا لما رضي بهذا الوضع، تفرق الناس في كل شيء هذه الأيام حتى في تحديد هلال العيد، وكان أبوجميل يرفض أي تشتت أو فرقة. كان يصر على القيادات الدينية أن تحدد مواقفها وتتوحد بقرار تجمع عليه للناس، هذا ما فعله في قرار التصويت على ميثاق العمل الوطني، وهذا ما فعله في كثير من مواقفه. كثيرون يخبرونني بأنهم لم يجدوا بديلا للجمري بعد رحيله، وأن لا رمز في الساحة يمكن أن يحل محله، وأعرف أنهم صائبون، أعرفه لأني أعرف الشيخ الجمري تماما، أعرف جرأته وشجاعته، وأعرف أنه لم يكن يستطيع أن يمسك لسانه عن قول الحق. لطالما أوصيته أن يمسك لسانه في خطبه، ولكنه كان يرفض تحذيري، كنت أطلب أن أقرأ خطبه قبل أن يلقيها، فيعطيني الورقة التي لا تحوي على كل شيء سيقوله، وكنت أعرف أنه لم يلتزم قط ما كتبه في الورقة، وأن حماسة المنبر تأخذ بلسانه الى الموضوعات الحساسة، لسانه الذي جرّ عليه كل ما عاناه من عذابات».
هل تعبت معه يا أم جميل؟ تجيب: «كنت أشعر بأن واجبي أن أقف إلى جانبه، وكنت أقدّر كل ما يقوم به من أجل الناس. ولذلك كنت غالبا ما أصر على البقاء معه وأرفض السفر على رغم أنه كان يدفعني إليه دفعا. كنت أشعر بأنه يقوم بدور لا يمكن أن يقوم به غيره. ولكنه رحل الآن وتركني... ولا شك في أنه ارتاح من أضداده، حتى من أقرب الأقربين».
خاتمة
عامٌ كاملٌ مضى على رحيل الشيخ الجمري، والساحة السياسية تضج بحوادثَ جسام، والتغيير الحاصل في تركيبة المجتمع فكريا وسياسيا ودينيا لا يستهان به، تبدلت مراكز القوى، وتغيرت المواقف والنفوس. وحدها أم جميل بقيت هناك، في منزلها في بني جمرة، تتنفس ذكرى الشيخ وتعيش على ذلك الإرث الضخم من المحبة والألم والشجن... والذكريات.
أم جميل: تمنيته معنا ليقطف الثمار التي زرعها
بني جمرة - ندى الوادي
عامٌ كاملٌ مضى على رحيله، ولكنها لاتزال تسمع صوته، وتحتفظ في قلبها بذكراه. كلما سمعت عن البرلمان، أو مطالب الشعب، أو مكتسبات العهد الإصلاحي، تذكرت رحلته الطويلة مع العذاب، وجرأته في الدفاع عن الناس، كلما سمعت عن شيخ يؤم الناس في صلاة هادئة رزينة خاشعة، التقطت أذناها ذبذبات بعيدة/ قريبة من قلبها لصوته الرخيم وحكمته البالغة. وكلما راقبت تشتت الناس وفرقتهم، ظهرت أمام عينيها صورته الحازمة الحنونة، وهو يحث كعادته على الوحدة ويأبى على الناس الفرقة.
رحل الشيخ الجمري عن هذه الدنيا منذ عام، ولكنه لايزال باقيا في دنياها، دنيا رفيقة دربه أم جميل... تلك الدنيا البسيطة العفوية، يطغى بحضوره على أبسط التفاصيل حتى الصغيرة منها في حياتها.
تستيقظ من النوم باكرا كعادتها كل يوم، فتتذكر كيف كانت تحييه صباحا: «صبحك الله بالخير أبا جميل» ، وكيف كان يرد عليها برقته المعتادة: «صبحك الله بالخير حبيبتي»... تفتح خزانة الملابس لتجد ملابسه مختلطة بملابسها، وعمامته ملفوفة كما تركها تماما. تجهز الفطور لأهل المنزل، فتسترجع اليوم الذي لم يتمكن أن ينهي فطوره فيه قبل اعتقاله. تتجه إلى المسجد القريب من منزلها، والذي لم يكن يتخلف عن أية صلاة فيه، فتتذكر إمامته الناسَ في الصلاة، وتتذكر أيامه الأخيرة التي قضاها في المنزل مريضا حين انقطعت عن زيارة المسجد لجلوسها بقربه.
ولكن أم جميل راضية بالقضاء، فوضت أمرها لله وهي تعرف أن بعد كل اجتماع فرقة، وأن هذا هو قدرها، فرحيل أبي جميل قدر لا يمكن أن تعترض عليه، وما مر عليه في حياته قدرٌ آخرُ لم يكن بالإمكان الاعتراض عليه أيضا، وبَيْد أنها تنظر بألم إلى شريط الذكريات، وتسترجع ما عاشه في حياته، وتتمنى لو لم يكن قد عانى كل تلك المعاناة، قبل أن يرحل.
قوية جلدة...
انعكس كل ما مرت به أم جميل من حوادث في حياتها على شخصيتها، فطبعها بطابع القوة والجلد. كل من حولها يعرف أنها صبورة، لا تنزعج أو تقلق بسرعة، فقد تعودت على الخوف والمعاناة حتى على... الموت، فصارت قادرة على مقاومة أي شيء كان، ولكن شيئا واحدا لم تتمكن من مقاومته أو الصمود في وجهه، كان ذاك لحظة اكتشفت رحيل رفيق دربها أبوجميل عنها. تقول: «في ذلك اليوم لم أستطع السيطرة على نفسي ولا أعرف لماذا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها الأموات، فقد تعودت هذه المواقف، ولكني عندما اكتشفت وفاته لم أتمكن من استجماع قوتي، انهرت وفقدت القدرة حتى على الرؤية، لم أتمكن حتى من رؤية الأرقام لكي أتصل بأبنائي بالهاتف. شعرت بنفسي سأموت، وابتعدت عن السرير لأجلس على الكرسي، كنت أحاول أن أجبر نفسي على أن أستفيق لأتصل، لم أكن أستوعب بعد أني غير قادرة على النظر. لم أبكِ، ولكني كنت أرتجف, عرفت أن ضغط دمي ارتفع كثيرا. أخذوني بعدها إلى المستشفى وحقنوني بإبرة مهدئ لم أتمكن معها من الحركة، كنت في منزل أختي عندما استيقظت فجرا بعد أن انتهى كل شيء، كان قد غسلوه ودفنوه، أما أنا فعدت إلى منزلي، وشعرت به خاليا موحشا من دون أبي جميل».
بعد الرحيل...
رحل الشيخ إذاَ، ولكنه لم يرحل من ذاكرة أم جميل، فذكراه حاضرة معها في كل لحظة، تقول: «لم أتمكن من احتمال الحزن في البداية بعد فراقه، وخصوصا أن شهر محرم الحرام جاء سريعا وكان يذكّرني به كثيرا، وكلما كنت أستمع إلى القراءة في شهر محرم، كنت أبكي أبا جميل، كنت عندما أشاهد مكتبه أو الجامع خاليا أتذكره، وكلما مررت بالقرب من خزانة الملابس، أخرجت أوراقه التي كان يحتفظ بها في جيوب ملابسه؛ لأقرأ بعضا من مذكراته وأتذكره. أما الناس فلم ينسوه أبدا، لايزالون يزورونني ويواسونني ويذكّروني به. أشعر بالفخر عندما يقولون إنهم لم يجدوا شبيها له أو بديلا بعد. وكأني به لامس حياتهم بقوة مثلما لامس حياتي فأصبح مسيطرا عليها حتى بعد رحيله، حتى صرت أقوم بما كنت أقوم به نفسه أيام كان بيننا، حتى في أدق تفاصيل يومي».
الحصار
تخيل نفسك تعيش محصورا بين جدران منزلك لفترة تتجاوز أسبوعين، يمنع عليك الخروج، أو الاطلاع على أي مما يجري خارج عالمك! تخيل أن تسحب منك جميع أجهزة التلفزيون والراديو التي تربطك بالعالم الخارجي، ويمنع عنك أن تلتقي أحدا أو تخرج من دائرة تلك الجدران المحيطة بك. ويمنع عنك أن تفعل ما تحب، أو تأكل ما تحب، أو تتصرف بما تحب. وفوق ذلك كله، لا تتمتع حتى بوحدتك في سجنك «المفتعل» ذاك، فأنت محمّل بمسئولية 18 فردا يشاركونك «سجنك» ذاك، أكثرهم من الأطفال.
تبدو تلك تجربة خيالية تصلح لفيلم سينمائي درامي، غير أن أم جميل عاشتها في واقع الأمر، وحُفِرت في ذاكرتها عميقا، حتى صار بدنها يقشعر كلما تذكرتها. تقول: «كانت مرحلة الحصار الذي فُرِض علينا في المنزل من أكثر المراحل التي مررت بها مرارة، كنا لوحدنا ليس معنا من يقوم بأمورنا غير ابني صادق، ولا أعرف لماذا تجمع أبنائي وأحفادي في ذلك اليوم في منزلنا بالمصادفة، كان بعضهم لا يداوم على الحضور، غير أنهم كانوا جميعا في المنزل عندما تعرضنا للهجوم المباغت الذي أعقبه الحصار. ولم يوافق الشرطة الذين حاصروا منزلنا على خروج أيٍّ من الموجودين في الداخل، حتى أختي التي كانت تزورنا بالمصادفة وتسكن قريبا من منزلنا. بقينا جميعا في المنزل نشعر بالاختناق، كنا 19 فردا غالبيتنا نساء وأطفال، كنا نشعر بأننا في سجن حقيقي، فقد كان الشرطة يحاصرون كل المداخل والمخارج حتى سطح المنزل، وأعتقد أن عددهم فاق الخمسين. وقمنا بتعليق البطانيات على النوافذ حتى نحافظ على خصوصيتنا على الأقل في قاعة المنزل، فغرق المنزل في الظلام. لم تكن لدينا أية وسيلة للتسلية وكانت السيطرة على الأطفال في هذا الوضع شبه مستحيلة، إذ لم تكن شقاوتهم محتملة. كان ابني صادق يضطر أحيانا لحمل بعض الأطفال لردهة باب المنزل علهم يهدأون، وكان هذا الأمر مدعاة لرفض الشرطة الذين انزعجوا من شقاوة الأطفال، فقد كان الصبية منهم يتسلقون سور المنزل ويقفزون خارجه، فكان الشرطة يركضون خلفهم ليمسكوا بهم، ويهددونهم بوضع الأصفاد في أيديهم، غير أن الوضع لم يكن يمكن السيطرة عليه في تلك الفترة».
19 مجرما
لم تكن مشكلة التعامل مع «شقاوة الأطفال» هي الوحيدة التي واجهت أهل المنزل المحاصر، فالأكل كان مشكلة أخرى أكثر أهمية، تقول أم جميل: «كانوا يحضرون الوجبات الثلاث لنا في صناديق كرتونية كتب عليها 19 مجرما. مازلت أتذكر هذه العبارة على الصندوق. ولكن الأدهى أننا لم نكن قادرين على تناول هذا الطعام، فقد كان فعلا أكل مساجين، وكان الأطفال بالذات معتادين على نمط معين من الأكل لم يكن بالإمكان إجبارهم على غيره».
تستطرد أم جميل مستذكرة: «حاولنا التفاوض مع الشرطة بهذا الشأن، أخبرناهم أننا سنعطيهم نقودا على أن يشتروا لنا قائمة بما نحتاج إليه حتى نطبخ بأنفسنا ما نريد، وبصعوبة قبلوا بالأمر في وقت لاحق».
بدائل عملية للاتصال بالخارج
كان الاتصال بالخارج والتعرف إلى ما يحدث فيه من أصعب ما واجه المحاصرين في ذاك المنزل، إذ لم يكن أيٌّ منهم يعرف ما يجري في الخارج. غير أن البدائل لهذا الاتصال كانت - على رغم صعوبة الظروف - موجودة ومنطقية.
تقول أم جميل: «جاءت إلى منزلنا إحدى الجارات يوما بحجة إحضارها بعض الحاجيات، كانت تخاطبهم بصوت عالٍ وتصرخ وكنا نصغي بدقة لما تقوله، كانت تخبرنا بما جرى للقرية أثناء حصارنا في تلك الأيام».
أما البديل «الأكثر فعالية» لسماع أخبار الدنيا فكان «اكتشافا» خطيرا لأهل المنزل، الذين عثروا على جهاز تلفزيون وراديو صغير قديم لم تنتبه الشرطة لوجوده فلم تصادره، وكان هذا الجهاز «كالكنز» على رغم صعوبة أن يلتقط أيا من الذبذبات الإذاعية والتلفزيونية. عن ذلك تحكي أم جميل بقولها: «كنا نبحث عن قناة لندن بفارغ الصبر، وبذلنا مجهودات كبيرة في محاولتنا تلك. كانت ابنتي عفاف تجلس وتغطي نفسها ببطانية ثقيلة حتى لا يخرج أي صوت من الجهاز، وتبدأ تحريك مؤشره علها تلتقط شيئا يعرّفها بما يجري في الخارج. وكان لها ما أرادت في أحد الأيام، إذ تمكنت من التقاط موجة إذاعة لندن، لتستمع إلى أخيها منصور يتحدث عن الوضع في البحرين، طارت هي من الفرحة وطرنا معها. وعلى رغم أنها لم تتمكن من التقاط الصوت بشكل واضح، غير أنها استطاعت سماع بعض الأخبار على الأقل»!
الابنة الوسطى منصورة كانت وسيلة اتصال أخرى للعائلة المحاصرة بالخارج من دون قصدها، إذ أصيبت بوعكة صحية؛ لأنها وضعت للتو مولودا جديدا بعملية قيصرية، هنا بدأت المفاوضات لإخراجها من ذلك الحصار بدعوى وضعها الصحي. تقول أم جميل: «تفاوض ابني صادق مع الشرطة كثيرا على إخراجها؛ نظرا إلى وضعها الصحي الحرج، فما كان منهم في البداية إلا أن اتجهوا إلى المستشفى ليحضروا الطبيبة لتكشف عليها. جاءتنا الطبيبة مرعوبة، ثم أعلنت أنها لا تستطيع أن تفعل شيئا في المنزل فمن الضروري نقلها إلى المستشفى. كان الأمر صعبا عليّ وعلى أبي جميل أن نراها خارجة وخلفها المدرعات وسيارات الشرطة من منزلنا حتى المستشفى. استطاعت منصورة الاتصال بخالتها في المستشفى لتحضر لها بعض الحاجيات، وبعد يومين تماثلت للشفاء فطلبت أن تعود إلى المنزل لتحضر بعض حاجياتها، وكان هدفها أن تطلعنا على بعض الأخبار من الخارج. جاءت على عجل وكان الشرطة خلفها، منعوني من الاقتراب منها غير أنني أصررت، احتضنتها فهمست في أذني ببعض المعلومات، قبل أن تخرج بسرعة».
لم تغفل أم جميل في حديثها الأعباء الكبيرة التي حملها ابنها محمد حسين الذي كان له دور كبير جدا في مساندتها طوال سنوات المحنة، إذ إنه كان في واجهة الحدث، وخصوصا أثناء المفاوضات مع نقاط التفتيش المحاصرة للمنزل، ناهيك عن أنه كان يتحمّل المشقة لرعاية شئون الأسرة في جميع الأوقات الحرجة، وخصوصا بعد اعتقال الشيخ الجمري، إذ كان يتابع بنفسه تنسيق المقابلات ويأخذ الأسرة إليها، ويتابع توصيل الأطفال إلى المدارس وغيرها من أعباء تحمّلها وحده فترة طويلة.
فكوا الحصار... وأخذوا الشيخ
بقي جميع سكان ذلك المنزل المحاصر في قلق مستمر، يتساءلون جميعهم إلى متى يستمر الأمر؟ وجاءت خيبة أملهم على دفعات. ففي أحد الأيام جاءهم قرار من الشرطة بإمكان خروج من يريد من المنزل المحاصر ما عدا الشيخ وزوجته. بدأ الجميع يجهز أغراضه للخروج، بل إن أخت أم جميل خرجت فعلا فأغراضها كانت جاهزة، غير أن الوقت لم يمهلهم حتى جاء أمر آخر يمنعهم من الخروج ويجبرهم على البقاء.
بعد أيام بدأت الهجمة على المنزل المحاصر صباحا، تستذكر أم جميل هذا اليوم بدقة كأنه البارحة: «كان أبوجميل قد استيقظ للتو ولم يكن قد تناول فطوره بعد. صنعت له كوبا من الشاي لم يستطع أن ينهيه، ثم أخذوه معهم، وفكوا عنا الحصار». تم تركيب التوصيلات الكهربائية للهاتف والتلفزيون، فسارعت أم جميل لتتصل بأختها وتقول وهي ترتجف: «فكوا عنا الحصار ولكنهم أخذوا أبا جميل». عن تلك اللحظات تقول: «بدأ الناس يتوافدون إلى منزلنا زرافاتٍ ووحدانَ قبل أن يخرج الشرطة من المنزل، ولكني أصبت بحالة غير طبيعية من الاكتئاب والحزن لم أعرف لها سببا، ربما كانت لأني كنت أحاول الصمود طوال الأيام الخمسة عشرة التي حوصرنا فيها لأشجع أبا جميل وأداريه وأرفه عن نفسيته، فجمعت حزن الدنيا كله في قلبي فخرج كله في تلك اللحظة. صرت أبكي بحرقة وأنا مرتجفة، تذكرت من سُجن من الأبناء ومن تشرد منهم، وما حل بأبي جميل، وأبكي... لم نعرف أين سجنوه إلى أن أطلق سراحه لاحقا».
قصص ما قبل الرحيل...
«تمنيت لو لم يعاني الشيخ ما عاناه قبل رحيله، فهل كان عليه أن يتكبد كل تلك المشقة قبل أن يرحل؟»... بحسرة قالتها أم جميل، مختلطة بنبرة الرضا بما حل من قضاء الله سبحانه وقدره. عادت أم جميل بذاكرتها إلى الوراء تستذكر تلك الأيام الباردة في ألمانيا، والتي حفرت عميقا في حياتها بالكامل، تقول: «كنت معه وحيدة في ألمانيا عندما ذهبنا للعلاج. كان يتحدث كثيرا في تلك الفترة، لم أجد أبا جميل محبا للحديث كتلك الأيام، كان يحدثني في موضوعات شتى، لم يبقِ موضوعا إلا وتحدث عنه، حتى ذكرياته في العراق وما شاهده أخذ حيزا كبيرا من أحاديثه، كنت أستغرب كيف احتفظ في ذاكرته بكل تلك الأحاديث، ولم أكن أعلم أنه كان يودع الدنيا بها».
ويفتح حديث ألمانيا شجونا لدى أم جميل فتقول: «مازلت أتذكر يوم عمليته في ألمانيا، استيقظ صباحا وكان يريد أن يقوم للصلاة، ولكن الممرضة دخلت لتعطيه الإبرة، رفض أن يأخذها لأنه يعرف أنه لن يتمكن من الصلاة بعدها، غير أني أجبرته على أخذها قائلة: إن الوقت لابد سيسعفه للصلاة قبل مفعول الإبرة. كان محقا... فقد تخدر تماما بعد الإبرة ولم يعد قادرا على الحركة، بدأ يلومني على إقناعي له بأخذ الإبرة، حاولت أن أطمأنه ودفعته للنوم حتى يستيقظ لاحقا للصلاة. ولكنه لم يستيقظ. حاولت إيقاظه ولكنه لم يتمكن من النهوض. مازلت أتذكر ذلك اليوم كثيرا... كان متعبا جدا ووجلا من العملية. قال لي: (انذري علي، أنا وجل جدا من العملية)، رددت عليه قائلة: (إن شاء الله). ارتدى ملابس العملية بعدها، وبالكاد صلى صلاة الصبح، ثم ساقوه لغرفة العمليات».
وحيدة، غريبة، خائفة وقلقة... هكذا كانت أم جميل طوال الساعات التي استغرقها مبضع الجراح في جسد أبي جميل داخل غرفة العمليات. تقول: «كنت أظن الأمر بسيطا، ولكن الوقت تأخر من دون أن يخبروني بالنتيجة، اتصلت بشخص عراقي في السفارة ليساعدني على التفاهم معهم فقد قلقت لتأخره في العملية، وبعد ساعات أخذني إليه، كان قد خرج من العملية ولكنه كان بحالة صعبة جدا. كانت الممرضة هناك تسألني هل اسمك: زهراء، فأجبتها بنعم، فقالت إنه كان ينادي باسمك طوال الوقت منذ أن استيقظ. جلست بقربه وكان يمسك يديّ طوال الوقت، لم يكن الأطباء يقبلون ببقائي هناك طويلا فكانوا يخرجونني عندما يغفو، ولا يلبث أن يستيقظ ليصرخ مناديا باسمي؛ لكي أبقى بقربه».
كانت أم جميل أول من تنبأ بالجلطة التي أصيب بها الشيخ الجمري، حتى قبل أن يتنبأ بها الأطباء، شعرت بأن حديثه غير واضح، فطلبت من ابنها الذي وصل إلى ألمانيا آنذاك أن يشرح الأمر للطبيب، واستجابة لذلك أخذه الأطباء لبعض الفحوصات والأشعة، التي تبيّنوا بعدها أنه أصيب بجلطة في النطق، عن تلك اللحظة تقول أم جميل: «كنت أنتظر الرد بفارغ الصبر، حتى جاءني طبيب عربي يخبرني أن ما توقعته صحيح، وأنه أصيب بجلطة في النطق. في تلك اللحظة حل بي اليأس تماما، وشعرت بأنه مفارق لا محالة، وأن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر».
تحسن الشيخ الجمري بعد هذه العملية، وخصوصا أثناء فترة بقائه في المصحة في المملكة العربية السعودية، وتحسن أكثر عندما عاد أخيرا إلى منزله بعد رحلة عناء طويلة مع المرض، تقول أم جميل: «كان يجلس معنا ويتحدث، ويتابع ما نقرأه له من أدعية، كان قادرا على قراءة العناوين الكبيرة في الصحف، بل إنه التقى كثيرا من الوفود التي زارته في المنزل، وألقى خطبة لبعضها، حتى أصيب بجلطة أخرى».
مرة أخرى كانت أم جميل أول من تنبأ بما حل بشريك حياتها ورفيق دربها قبل أن يشخص الأطباء حالته، كان الجميع ينكر إمكان أن يصاب بجلطة أخرى، بَيْد أنها وحدها شعرت بما حل به، وأكد الطبيب ما قالته لاحقا، ليدخل الشيخ الجمري في مرحلة أصعب من المرض لم يتحسن منها حتى رحيله.
مشروعات لتخليد الذكرى
بناء قبر الشيخ الجمري، إنشاء مكتبة شاملة لمؤلفات الشيخ، جمع مؤلفاته ومحاضراته ومخطوطاته وأشعاره وطباعتها... كلها مشروعات فكر فيها كثيرون وعلى رأسهم أفراد عائلة الشيخ الجمري، واتخذت فيها بعض الخطوات، غير أنها لم تأخذ حيز التنفيذ بعدُ. ولعل أم جميل من أول الحريصين على تنفيذ هذه المشروعات لعلمها بأهميتها في تخليد ذكرى رفيق دربها الراحل. تقول: «مازلنا نحاول أن ننهي موضوع بناء قبر الشيخ بعد أن واجهتنا عدة مشكلات، في البداية قيل لنا إنه لا يجوز البناء على القبر؛ لأن الناس تأتي لتصلي في المقبرة، ثم أخذنا إجازة من مراجع الدين الذين أكدوا أن لا بأس في ذلك محددين المساحة الملائمة، ورفض البعض وضع منارات على القبر حتى لا يتحول إلى مزار، على حين قال البعض إن الجميع سيود بناء القبور القريبة لو قررنا البناء. لقد واجه هذا الموضوع عراقيلَ كثيرة ومعارضة من قِبل البعض ولا نعرف لماذا، ولكننا الآن في مرحلة وضع الخريطة النهائية وتجهيزها، وخصوصا أن الأمر أصبح بالفعل ملحا فقد اشتعلت الأقمشة القريبة من القبر مرتين من قبلُ؛ بسبب إشعال بعض الشموع؛ ولذلك أصبح البناء ضرورة ملحة».
ولا يقل مشروع مكتبة الشيخ أهمية عن موضوع بناء القبر، غير أنها تختلف قليلا في أن لا خطوات جادة تمت بشأنها فعلا، تقول أم جميل: «لاتزال مخطوطات الشيخ محفوظة، وقد أخذ كل ابن من أبناء الشيخ بعضا منها ليقوم كلٌّ منهم بجمعها، كما أخذ أحد طلبة الشيخ بعضا من دفاتره ليصفّ المحاضرات على جهاز الحاسوب، ولكني لم أجد شيئا قد تم جمعه حتى الآن من كل ذلك».
وتضيف «هناك الكثير من المخطوطات، إلى جانب الكتب والمؤلفات المعروفة له، والمحاضرات الصوتية والكتابية، وقد قمت بنقل مكتبته بكامل محتوياتها إلى داخل غرفته حتى أضمن ألا تتشتت محتوياتها. أعرف ضرورة جمع كتبه ومؤلفاته ومخطوطاته لتخليد ذكراه، ناهيك عن القصائد التي كان ينظمها في فترات مرضه والتي كنا ندونها له باستمرار. كل ذلك يحتاج فعلا إلى وقت لجمعه وترتيبه».
قائد ورمز
«أحببت دفاعه عن المستضعفين، ووقفت بجانبه في كل ذلك، ولكني تمنيت لو لم يتعذب كل هذا العذاب في حياته... أكثر ما يحزنني هو وفاته من دون أن يشاهد عصر الانفتاح السياسي في البحرين. تمنيت لو كان موجودا بيننا ليرى جني ثمر ما زرعه من بذور».
على رغم بساطة كلماتها وعفويتها، ضربت أم جميل على جروح حساسة تعاني منها الساحة السياسية بعد رحيل الشيخ الجمري، تقول: «لو كان الشيخ موجودا بيننا اليوم لكانت كثير من الأمور مختلفة، أشعر أن الناس ضائعون لا يجدون من يحسم لهم موقفهم، أشعر أن الشارع مشتت، وطالما أتذكر أبا جميل وأقول: إنه لو كان هنا لما رضي بهذا الوضع، تفرق الناس في كل شيء هذه الأيام حتى في تحديد هلال العيد، وكان أبوجميل يرفض أي تشتت أو فرقة. كان يصر على القيادات الدينية أن تحدد مواقفها وتتوحد بقرار تجمع عليه للناس، هذا ما فعله في قرار التصويت على ميثاق العمل الوطني، وهذا ما فعله في كثير من مواقفه. كثيرون يخبرونني بأنهم لم يجدوا بديلا للجمري بعد رحيله، وأن لا رمز في الساحة يمكن أن يحل محله، وأعرف أنهم صائبون، أعرفه لأني أعرف الشيخ الجمري تماما، أعرف جرأته وشجاعته، وأعرف أنه لم يكن يستطيع أن يمسك لسانه عن قول الحق. لطالما أوصيته أن يمسك لسانه في خطبه، ولكنه كان يرفض تحذيري، كنت أطلب أن أقرأ خطبه قبل أن يلقيها، فيعطيني الورقة التي لا تحوي على كل شيء سيقوله، وكنت أعرف أنه لم يلتزم قط ما كتبه في الورقة، وأن حماسة المنبر تأخذ بلسانه الى الموضوعات الحساسة، لسانه الذي جرّ عليه كل ما عاناه من عذابات».
هل تعبت معه يا أم جميل؟ تجيب: «كنت أشعر بأن واجبي أن أقف إلى جانبه، وكنت أقدّر كل ما يقوم به من أجل الناس. ولذلك كنت غالبا ما أصر على البقاء معه وأرفض السفر على رغم أنه كان يدفعني إليه دفعا. كنت أشعر بأنه يقوم بدور لا يمكن أن يقوم به غيره. ولكنه رحل الآن وتركني... ولا شك في أنه ارتاح من أضداده، حتى من أقرب الأقربين».
خاتمة
عامٌ كاملٌ مضى على رحيل الشيخ الجمري، والساحة السياسية تضج بحوادثَ جسام، والتغيير الحاصل في تركيبة المجتمع فكريا وسياسيا ودينيا لا يستهان به، تبدلت مراكز القوى، وتغيرت المواقف والنفوس. وحدها أم جميل بقيت هناك، في منزلها في بني جمرة، تتنفس ذكرى الشيخ وتعيش على ذلك الإرث الضخم من المحبة والألم والشجن... والذكريات.
من ملف الحصار(الوسط)
نجل الشيخ: والدي كان دائما يراهن على الناس
محمد حسين الجمري يروي يوميات عائلة تحت الحصار!
الوسط - حيدر محمد
«منظر حصار الوالد لم يكن طبيعيا، تحولت بني جمرة إلى معسكر حقيقي ودائم، وربما لأن المحاصر كان شخصا استثنائيا، لذلك فإن الحصار لم يقتصر عليه، وإنما شمل الناس... كل أهالي القرية يدخلون ويخرجون من مدخل واحد، وكانوا يعانون عند نقاط التفتيش»... هذا ما يرويه محمد حسين الجمري (نجل المرحوم الشيخ الجمري) عن ذكريات عائلة تحت الحصار.
تعرض المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري لثلاثة حصارات منزلية، هي الأولى من نوعها في تاريخ البحرين، وكانت عائلة الشيخ تعاني الأمرين من الحصارات المنزلية، وكان الشيخ الجمري يعتمد على ابنه محمد حسين كحلقة وصل أثناء الحصار الثالث الذي استمر من يوليو/ تموز 1999 إلى فبرير/ شباط 2001، وللتعرف على جانب من تلك الأجواء الفريدة من نوعها، كان لـ «الوسط» اللقاء التالي مع محمد حسين عبدالأمير الجمري:
* ما هي أكثر المحطات العصية على النسيان من ذاكرة الحصار الذي فرض على الشيخ الوالد؟
- إن أكثر فترة أتذكرها من الشيخ هي فترة الحصار الثالث التي بدأت في 1999 (اذ كان الحصار الأول بين 1 الى 14 ابريل/ نيسان 1995، والحصار الثاني في يناير/ كانون الثاني 1996)، وكنت أكثر قربا منه من أية فترة أخرى، لأنني كنت أسكن في البيت المقابل لمنزله، وكان الإجراء الذي يطبق عليه يشملني أيضا، وسبب آخر جعلني قريبا منه أنه لم يكن مسموحا له أن يخرج خارج المنزل إلا بإذن خاص من المخابرات، وكنت تحت ضغط لما كان يتضمن الأمر من تعقيدات شديدة، وقد ازداد الضغط في شهر يوليو/ تموز من العام 1999 بعد عملية الإفراج عن الشيخ وما صاحبها من ظروف وملابسات.
وأول يوم خرج الشيخ من السجن لم يكن هناك حصار على منزله، بل كان التلفزيون يعرض مرات عدة مشاهد الإفراج، ومع ذلك كانت الآلاف من الناس تنتظر قدوم الشيخ، بسبب تسرب الخبر، وعندما أفرجوا عنه نادوا أخي صادق لاصطحابه إلى البيت. ولم يكن الوالد يدري انه سيفرج عنه إلا في الساعة الثالثة ظهرا، وأصر أن يأتوا له بحلاق.
وكان الوضع طبيعيا في اليوم الأول، ففي ذلك اليوم كانت هناك شرطة ولكنها لم تكن تتدخل، ويبدو أنه لم يكن لديهم أوامر بالتدخل، وعلى رغم ما بث من لقطات في التلفزيون (في أخبار الساعة الثالثة عصرا) كانت الناس تندفع وكان الشرطة موجودين ولكن لم يمنعوا أحدا، وكان بعض الأقارب يسمح لهم بالدخول في اليوم الأول فقط.
أما في صبيحة اليوم الثاني كان هناك هدوء غريب، وحينما استيقظت توقعت أن اندفاع الحشود سيكون كما كان في اليوم الأول، ولكنني استيقظت على هدوء تام، ونزلت البيت، وكنت ساكنا في الطابق الثاني... نزلت فسألت الوالدة، وكان الوالد جالسا على الإفطار في الساعة السابعة صباحا، والشيخ رد علي: «الظاهر انك استقيقطت متأخرا»، وقال لي: «روح الشغل».
لم أكن أعلم ماذا جرى بالضبط، ولكن فتحت الباب وتفاجأت بقوات مكافحة الشغب، وكانت الشرطة تحيط بالقرية من كل الجهات، ورجعت للوالد واخبرني انه في إقامة جبرية، وقال: «لست مستغربا مما حدث»، وهو توقع الإقامة الجبرية، لأنه مر بها مرتين سابقا.
وعندما خرجت وجدت مداخل القرية كلها مغلقة عدا المدخل الرئيسي القديم بمحاذاة المقبرة، وتصور أن كل قاطني قرية بني جمرة يدخلون من باب واحد، بل يجب أن يمروا على منزلنا أيضا والنقاط الأمنية كانت منتشرة بكثافة، وهذا الحال استمر لمدة أشهر، وكل الناس تدخل من مدخل واحد فقط وتخرج من المدخل ذاته، وهذا القرار لم يستثنِ أحدا بما فيهم الأجانب، وسبب هذا القرار ازدحامات كبيرة عند مدخل بني جمرة، وكل شخص مجبور على كشف هويته من خلال اطلاعهم على بطاقته السكانية، وإذا لم يكن من المنطقة يوجه له السؤال مباشرة «أنت ذاهب إلى الشيخ؟».
في البداية الحصار لم يكن شديدا، وكانوا يختارون بعض الشخصيات البعيدة عن الجانب السياسي وبعض الأقارب ويمنحونهم وقتا محددا لزيارة الشيخ، وكانت الناس تندفع وحدثت بعض المشادات بسبب الانتقائية في الاختيار.
بعد شهر واحد تحول الحصار إلى المنطقة الشرقية من بني جمرة حيث سكن الوالد، وهذا الحصار يختلف عن كل الحصارات السابقة، لأنهم في تلك الحصارات كانوا يمنعون كل صغيرة وكبيرة ويحظرون أي نوع من الحياة في المنطقة، ففي الحصار الأول في العام 1995 لم يسمح لنا بوجود أية وسيلة اتصال يستخدمها الشيخ، واخذوا التلفزيونات والراديو وحتى الهاتف.
كان الشيخ منقطعا عن العالم وممنوعا عليه حتى الخروج من باب منزله، والحصار الثاني كان في يناير/ كانون الثاني 1996 وكان مشابها للحصار الأول وكان حصارا محكما تمهيدا للاعتقال الثاني الذي استمر لأربع سنوات ونصف، والحصار الثالث تميز بالتشديد على الداخل والخارج لكن الحياة في المنطقة لم تتوقف كما كان في الحصارين السابقين، وفي المرة الثالثة سمحوا للوالد ببعض الزيارات ولكن بإذن خاص ومواكبة أمنية.
* ومن كان حلقة الوصل مع هذه القوات؟
- كنت حلقة الوصل بالنسبة الى من هم داخل الحصار، كما كان لأخي صادق دور في الاتصال بجوانب اخرى، اما أنا فكنت حلقة الوصل بين المنزل المحاصر وخارجه. حينها تحدثت مع الشخص المسئول عن حصار المنزل لتخفيف التضييق على الوالد والعائلة، لأنهم كانوا يريدون معرفة التفاصيل في كل حركة قبل السماح لنا بأي شيء، والوالد كان يرفض أخذ الإذن وكان يطلب فقط الإخطار «خبّرهم فقط»، ولكنني كنت مضطرا للقيام بأخذ الإذن لأنهم فرضوا هذا الإجراء، وفي بعض الأحيان يمنع طلب الوالد وفي بعض الأحيان يسمح له بشروط ويطلبون بعض التفاصيل مع المواكبة الأمنية المشددة. وهم اعتبروني حلقة الوصل أيضا، لأن أخي صادق كان يسكن في منطقة أخرى، فكان التنسيق اليومي معي، لأنني موجود باستمرار.
* وكيف كانت طريقة تعاملهم معك ومع العائلة؟
- من نتعامل معهم كانوا بحرينيين من جهاز أمن الدولة، ومعاملتهم تتفاوت بين شخص وآخر، ولكن في الحصار الثالث أصبحت لدينا خبرة في طريقة التعامل معهم، وأصبحت لدينا معرفة شخصية بهم من خلال زياراتنا المتكررة إلى أخي محمد جميل وعبدالجليل خليل (زوج شقيقتي) في السجن، لذلك كانوا يعرفونني جيدا، لأنني كنت في الأسبوع أذهب إلى وزارة الداخلية مرتين، وهذا الوضع استمر لأكثر من عشر سنوات هي فترة اعتقال محمد جميل وعبدالجليل (من العام 1988 حتى 1998).
* وهل تكونت لديك صداقات مع بعض قوات أمن الدولة؟
- من الصعوبة أن تتكون بيننا صداقات، لأن في النهاية إذا نظرنا إلى الحقيقة المرة، فإنهم السجانون ونحن المسجونون، ولكن نحن ندرك في نهاية المطاف أن هؤلاء ينفذون أوامر فقط، وأستطيع أن اقول انه كانت هناك ألفة معهم، لأنهم موجودون معنا على مدار الساعة إلى درجة أننا أصبحنا نعرف أسماء كثير من قوات مكافحة الشغب، وعلاقاتي والعائلة كانت مركبة مع السجن.
وفي كل تلك الفترات كان بيت الوالد مركزا، وتعرفنا على مجموعات هائلة من البشر من مناطق مختلفة، وهذه قد تكون من «نعم السجن»، وكان هؤلاء الناس يأتون لأسباب مختلفة، وخصوصا في منتصف عقدي الثمانينات والتسعينات عندما كان الشيخ الجمري من القلة الذين كانوا يتحدثون عن القضايا المطلبية وتحديدا ملف المعتقلين، ومجلس الوالد كان من المجالس القليلة المفتوحة على مدار السنة على رغم المخاطر، ومهما يكن السجين المفرج عنه في تلك القضايا يقوم الوالد بزيارته، أو يرسل له مساعدة.
وضع الوالد الاجتماعي متميز كثيرا، ولديه معارف في كل البحرين ومن مختلف المستويات، وخصوصا الطبقات المحرومة (عامة الشعب)، والوالد كان يحاول توفير مرتبات شهرية لهم لتلبية احتياجاتهم قدر الإمكان، وكان الوالد يسعى في تزوجيهم، وأستطيع أن أقول إن كل معتقل أصبحت لديه عضوية في هذا المجلس، انه مجلس للمحرومين ومجلس المستعدين للتضحية باستمرار!
وبعد أشهر معينة صار تشديد أكبر للحصار ومنعت الزيارات للبيت، وبسبب رفض الوالد بعض العروض من السلطة كان الجواب تشديد الحصار أكثر فأكثر، واتخذ هذا الحصار صورا مختلفة مثل منع الزيارات أو التشدد في السماح له من الخروج من البيت، وأصبحت زياراته قليلة، وكان الناس يلتقون به من خلال مراجعته للعيادات والمستشفيات، وكان مجرد خروجه لحاجات ضرورية يسبب إرباكا واستنفارا لقوى الأمن بسبب التشديد، وكان الناس يتحملون الأذى في سبيل رؤية الشيخ، وفي بعض الأحيان تغض القوى الأمنية الطرف.
* كيف كانت طريقة تعاملهم مع الشيخ وكيف كان الشيخ يتعامل معهم؟
- جميع رجال أمن الدولة يعرفون الوالد بسبب معاملتهم معه في السجن، هم كأشخاص والبحرينيون وخصوصا كانوا يتحدثون مع الشيخ بأدب ويحاولون تجنب ما يثير غضبه، ويبدو أنه كانت لديهم أوامر بعدم الاحتكاك المباشر مع الشيخ، ولكن في بعض الحالات حدث بعض الاحتكاك.
والوالد كانت أخلاقه عالية معهم، وكان يتعامل معهم بطريقة إنسانية، وبعضهم يخجلون في التعامل مع الشيخ، وأتذكر حادثة مازالت عالقة في ذهني، فبعد تشديد الحصار على الشيخ منعت عليه الزيارات ولكن سمح له أن يخرج بالسيارة للتجول في الليل بمواكبة أمنية، وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى المنطقة الغربية ومنها دخلنا مدينة حمد، وقال لي الوالد «أنا فيني زكام». دخلنا سوق واقف وكان الوقت متأخرا وكانت خلفنا سيارتان تابعتان لقوى المخابرات(...) وقفنا عند صاحب العصير، وعطيت المحل الطلب، والوالد طلب من الموظف الهندي أن يذهب إلى سيارتي المخابرات ويسألهم ما يطلبون، وهم طلبوا، وبعضهم تفاجأوا أن الشيخ دفع عنهم، وبعد رجوعنا البيت جاء اثنان منهم وقدما الشكر إلى الشيخ.
كان الوالد يصلي في جامع الإمام زين العابدين(ع) وتحول الجامع إلى مصلى للشيخ ومحمد جميل وأنا بالإضافة الى قيّم الجامع وهو رجل كبير في السن، وكانوا يمنعون أحدا من دخول الجامع، ولهذا السبب كان قيّم المسجد مصدرا مهما، لأنه يرى الشيخ مرتين في اليوم.
وفي أحد أيام الجمعة جاء أحد من المخابرات فسلم على الوالد «اشلونك أبو جميل؟»، وطلب منه أن يتغدى معنا، في حين كان يطبق الحصار، وبعد أسبوع فعلا جاء إلى البيت مع صديقه، وقلت للشيخ «جو الضيوف!»، فقال: «كنت جادا»، والوالدة جهزت الغداء لهم، وسمحوا له في البداية أن يلبي بعض العزائم، وكانوا في سياراتهم وأنا مع الوالد، وأصحاب البيوت كانوا يضيفونهم على شرف الشيخ أيضا.
* ولكن ألم تشعر أن بعضهم كان متعاطفا مع الشيخ أو القضية المطلبية عموما؟
- هؤلاء لم تكن ثقافتهم السياسية عالية، وكثير منهم كانوا يتعاطفون مع الوالد بوصفه رجل دين أو رمز اجتماعي، وكانوا يحترمون الوالد، ويبدي بعضهم الخجل من محاصرته، ولكن في النهاية نحن كنا نعلم أن هؤلاء موظفون وليسوا أصحاب قرار.
* وما هي أكثر لحظات الحصار شدة بالنسبة الى الشيخ؟
- إن أصعب الفترات التي تألم فيها الشيخ الجمري نفسيا بصورة كبيرة هي فترات المناسبات مثل مواليد ووفيات أهل البيت(ع)، وكان الشيخ يذهب إلى السطح، لأن البيت يقع بين بني جمرة والدراز والمرخ، ويجلس على السطح ويستمع للقراءة الحسينية، وحاولنا أن نجري له ترتيبا ليخرج في موسم عاشوراء فقط، وفي البداية سمحوا له بزيارة مكان واحد، ولكن حدثت مشكلة في هذا المكان وتجنب الوالد الذهاب له مرة أخرى وطلب تغيير المأتم إلا أن الشرطة رفضت طلب الوالد، والنتيجة أنه قضى شهر محرم في البيت وكان يذهب للسطح ليستمع إلى أصوات قراءات حسينية متداخلة.
والشيخ كان يتألم كثيرا في شهر محرم، ويقول لمحاصريه: «حياتي كلها عاشوراء، وأنا أساسا خطيب حسيني منذ أن كان عمري 12 سنة»، وكانت هذه القضية أصعب مسألة، وحتى الوالدة قللت من طلعاتها لمواساة الوالد، لأن ارتباطه بقضية الحسين(ع) كان يفوق التصور، ودائما ما كان يقول للقوات المحتشدة والمحيطة بمنزله المحاصر: «أنا رجل منبر قبل أي شيء آخر».
وفي فترة الحصار كانت للشيخ فرصة ذهبية للكتابة، ومن الأشياء التي مرت بها هي حادث سقوط طائرة طيران الخليج، وكان يتابع التلفزيون بشكل مباشر، وطلب منا أن نخبر الشرطة انه يرغب في تعزية الناس، والشرطة سألوني «يعرف من فيهم؟»، أجبتهم «لا يعرف احدا»، فقال الوالد: هم كلهم يعرفوني. فهدأناه وقلنا له «إن الناس تقبل عذرك»، وفي النتيجة أرسل لعوائل الضحايا رسائل التعازي فقط.
* و كيف انعكست هذه الأجواء على العائلة؟
- نحن كعائلة مررنا بهذه التجربة وتحديدا تجربة السجن والزيارات واستدعاءات الوالد المتكررة، ولنا تاريخ طويل مع هذه القضايا، ولكن لا أحد يستطيع زيارتنا، والوالدة كانت أكثر شخص يقف مع الوالد وكأن فيها مواصفات خاصة، وهي ذات بأس وقوة، وكانت بالنسبة إليه كل شيء في حياته، كانت له أكثر من زوجة، وكانت بمثابة الشريك، وبالنسبة إلى الجو العائلي، كان يحب الأطفال وجو المرح والمزاح مع الجميع، وكأنه لا يوجد حصار، فنفسيته مرتفعة في أحيان كثيرة. ومواقف الوالد كانت تتخذ من وحي دائرة المشورة الواسعة جدا، وكان الوالد يسألنا جميعا، ولم يكن متفردا بالقرار، وهذا ما يميزه.
* ما هي أكثر المحطات التي أغضبت الوالد في فترات الحصار المتعاقبة؟
- مازلت أذكر أنه حدثت معركة كبيرة بين الوالد وقوات الأمن، ولم يكن الوالد يصلي الفجر في الجامع لضمان عدم الاحتكاك مع قوات الحصار، وكانت فرصة للجيران ليصلوا في الجامع، وكان المؤذن شخصا آخر، وكان الوالد مسرورا للسماح لهم بالصلاة في الجامع، والمؤذن كان من احد الجيران، وفي ذات يوم منع من الأذان.
كنت اعرف القصة، ولكن الوالد بعد أيام لم يسمع الأذان وسألني عن القضية، والوالد كان يصر على معرفة السبب وأنا لم اخبره، وفي أحد الأيام خرج المغرب للصلاة وشاهد ابن المؤذن، وكان طفلا صغيرا وسلّم على الوالد، وقال له الوالد: «أبوك مريض؟»، فرد الولد «لا مو مريض»، فرد الشيخ:» ليش ما يأَذّن؟»، وأجاب الولد «الجماعة طردوه». وفي هذه اللحظة انفجرت أعصاب الشيخ بصورة رهيبة و قوى الأمن حاولوا يتلافون الموضوع، لكنه شعر أن الحصار تجاوز الحدود، وكان مستعدا ليفتح جبهة على هذا الموضوع، وتدخل محمد جميل وعبدالجليل (وكانا قد افرج عنهما في هذه الفترة) وهدّآ الوالد، وهذه الحادثة كانت بعد ثلاثة أشهر من إجراء عملية القلب للوالد أثناء الحصار، ولكنه انطلق إليهم مثل الأسد، كان يشعر أن هذا الجامع بالنسبة إليه أهم من أي شيء آخر، وموضوع التعدي على الدين كان يعتبره خطا أحمر.
* ما هي طريقة تعاملك مع الضباط في المعتقل؟ وهل حاولت تهريب بعض الرسائل له؟
- كانوا يحترمونا أكثر من بقية المعتقلين قليلا، ولكن التعامل كانت تحكمه المزاجية، وبالنسبة لنا كان من الصعوبة بمكان تهريب الرسائل، وفي الزيارة كان يتحدث الوالد عما يشاء، وكان يستفسر عن الناس لأن المخابرات كانت تقول له انهم نسوا الحركة المطلبية، وكان عدد من مسئولي الأمن موجودين في هذه الزيارات، والمعلومة التي كانت تصل للشيخ كانت مشوهة بسبب الظروف المشددة، وأية كلمة تحاسب عليها العائلة مثلما حدث مع أختي عفاف حينما دخلت في مشادة مع أحد ضباط المخابرات سيئ السمعة، والأخير منعها من الزيارات نهائيا، ولم ترَ الوالد إلا بعد الإفراج عنه.
* وفي فترة الحصار هل حدثت محاولات للقاء الوالد من الشخصيات القريبة من السلطة؟
- نعم، حدثت لقاءات بين فترة وأخرى بين بعض الشخصيات لمحاولة التهدئة والبحث عن مخرج، وكان من بينها عضو مجلس الشورى السابق المرحوم عبدالله العصفور، وكانت لديه معرفة قديمة مع الوالد، وكانت هذه المحاولة الجادة الوحيدة، وبعض الشخصيات سمح لها بالدخول، ولكن في النتيجة لم تسفر هذه الاتصالات عن بلورة مخرج محدد للازمة.
ولكن في آخر فترات الحصار كان هناك نوع من الانفتاح من جانب السلطة ولديها بعض المرونة في الخطاب الإعلامي وكذلك التعاطي بصورة أفضل مع الواقع السياسي في نهاية العام 2000، وهي الفترة التي سمح فيها بعودة السيدعبدالله الغريفي من الخارج، وفي هذه الفترة حدثت لقاءات مع عدد من الشخصيات الرسمية في يناير 2001. قبل هذه الحادثة توفت أخت الوالد الكبرى (زهرة)، والشيخ حضر الجنازة وكانت جنازة كبيرة لعلم الناس بأن الشيخ سيكون حاضرا، وفعلا كان حاضرا، ولكن بعد الجنازة جاء قرار بمنعه من حضور مجلس العزاء «الفاتحة»، ولكن الوالد أصر على الحضور، واعتبر أن هذه إهانة كبيرة بالنسبة إليه، وقال: «الناس تريد أن تعزيني»، وقال: «هل هؤلاء يدعوّن أن لديهم انفتاحا ويقومون بمثل هذا العمل اللاإنساني»، ووصلت هذه العبارة إلى مسامع السلطات العليا، والشخص ذاته الذي منع الشيخ اتصل وقال إن الشيخ مسموح له أن يحضر الفاتحة بأمر خاص، والسيدعبدالله الغريفي تواجد مع الوالد لثلاثة أيام، وكان تلاقيهما حدثا مميزا في ذلك الظرف وهما تداولا قضايا الشأن العام. وبعد هذه الفترة بدأ الحصار يتآكل، وكانت بعض الشخصيات تزور الوالد.
* ومن هي هذه الشخصيات؟
- المستشار السابق لسمو الأمير وزير التجارة والصناعة حاليا حسن فخرو، والوزير جواد العريض، وزيارات حسن فخرو تكررت أكثر من مرة، وجاء فخرو بحلم كبير كان يراود الوالد وهو الانفتاح السياسي.
* وماذا حدث في هذه اللقاءات؟ ولماذا هذان الشخصان بالذات؟
- بالنسبة لجواد العريض كان صاحب علاقة سابقة وممتدة منذ المجلس الوطني، وكان يتكلم بعموميات، ولم يكن يتحدث عن تفاصيل في الجلسات التي حضرتها على الأقل، ولكن حسن فخرو كان يجلس لعدة ساعات مع الشيخ، وتعددت اللقاءات معه، وكان الشيخ واثقا منه، وكان واضحا انه مفوضا من قبل سموالأمير (جلالة الملك)، وكان يتحدث عن تواريخ محددة لمراحل الانفراج، وكان الوالد يبدي ملاحظات، وكانوا يطلبون دعم الوالد للمشروع السياسي الجديد.
* وهل توسعت دائرة الحوارات مع آخرين؟
- نعم، وازدادت اللقاءات مع الديوان الأميري (سابقا) وكانت له زيارات لسموالأمير، وكان العفو في البداية لم يكن شاملا، والوالد طلب أن يكون العفو شاملا، والوالد كان يخبرنا أن هناك ارتياحا من هذه الزيارات، وان الناس تريد أن تخرج من الأزمة الأمنية وتنتقل الى مرحلة الحوار السياسي، وبعضها تسلسلت الحوادث المعروفة فترة الانفراجات العامة.
لا شك أن الحصار ترك أثرا نفسيا على بعض أفراد العائلة بل وانعكس على الجو الدراسي أيضا، لأن الظروف التي مرت بها العائلة لم تكن طبيعية، وكان المشهد الأساسي أن نرى جميعا الشرطة والشغب وسياراتهم، ولا شيء آخر.
* وبعد فك الحصار هل التقيت مع أولئك الذين كانوا يحاصرون منزل الشيخ؟
- نعم بالتأكيد، لأن «البحرين صغيرة» ولكن كنت أشاهدهم مصادفة، والعلاقة معهم عادية، وأشعر أن بعضهم غير موجود في جهاز الأمن الوطني حاليا، وحينما يشاهدونني يسألون عن بعض الأشخاص، ويستعرضون شريط الذكريات بصورة عابرة، وبعض الأشخاص يحاول يظهر أنه دوره كان مقتصرا على تنفيذ الأوامر.
وكيف تواجههم نفسيا؟
- أنا لا احمل ضغينة على أحد.
وما الذي لا تستطيع أن تنساه من تلك المشاهد؟
- منظر حصار الوالد كان غير طبيعي، وكنت أحاول أن أحفظ كرامة الوالد عند نقاط التفتيش والدخول والخروج، وكنت اطلب منهم ألا يسألني احد أمام الوالد!
محمد حسين الجمري يروي يوميات عائلة تحت الحصار!
الوسط - حيدر محمد
«منظر حصار الوالد لم يكن طبيعيا، تحولت بني جمرة إلى معسكر حقيقي ودائم، وربما لأن المحاصر كان شخصا استثنائيا، لذلك فإن الحصار لم يقتصر عليه، وإنما شمل الناس... كل أهالي القرية يدخلون ويخرجون من مدخل واحد، وكانوا يعانون عند نقاط التفتيش»... هذا ما يرويه محمد حسين الجمري (نجل المرحوم الشيخ الجمري) عن ذكريات عائلة تحت الحصار.
تعرض المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري لثلاثة حصارات منزلية، هي الأولى من نوعها في تاريخ البحرين، وكانت عائلة الشيخ تعاني الأمرين من الحصارات المنزلية، وكان الشيخ الجمري يعتمد على ابنه محمد حسين كحلقة وصل أثناء الحصار الثالث الذي استمر من يوليو/ تموز 1999 إلى فبرير/ شباط 2001، وللتعرف على جانب من تلك الأجواء الفريدة من نوعها، كان لـ «الوسط» اللقاء التالي مع محمد حسين عبدالأمير الجمري:
* ما هي أكثر المحطات العصية على النسيان من ذاكرة الحصار الذي فرض على الشيخ الوالد؟
- إن أكثر فترة أتذكرها من الشيخ هي فترة الحصار الثالث التي بدأت في 1999 (اذ كان الحصار الأول بين 1 الى 14 ابريل/ نيسان 1995، والحصار الثاني في يناير/ كانون الثاني 1996)، وكنت أكثر قربا منه من أية فترة أخرى، لأنني كنت أسكن في البيت المقابل لمنزله، وكان الإجراء الذي يطبق عليه يشملني أيضا، وسبب آخر جعلني قريبا منه أنه لم يكن مسموحا له أن يخرج خارج المنزل إلا بإذن خاص من المخابرات، وكنت تحت ضغط لما كان يتضمن الأمر من تعقيدات شديدة، وقد ازداد الضغط في شهر يوليو/ تموز من العام 1999 بعد عملية الإفراج عن الشيخ وما صاحبها من ظروف وملابسات.
وأول يوم خرج الشيخ من السجن لم يكن هناك حصار على منزله، بل كان التلفزيون يعرض مرات عدة مشاهد الإفراج، ومع ذلك كانت الآلاف من الناس تنتظر قدوم الشيخ، بسبب تسرب الخبر، وعندما أفرجوا عنه نادوا أخي صادق لاصطحابه إلى البيت. ولم يكن الوالد يدري انه سيفرج عنه إلا في الساعة الثالثة ظهرا، وأصر أن يأتوا له بحلاق.
وكان الوضع طبيعيا في اليوم الأول، ففي ذلك اليوم كانت هناك شرطة ولكنها لم تكن تتدخل، ويبدو أنه لم يكن لديهم أوامر بالتدخل، وعلى رغم ما بث من لقطات في التلفزيون (في أخبار الساعة الثالثة عصرا) كانت الناس تندفع وكان الشرطة موجودين ولكن لم يمنعوا أحدا، وكان بعض الأقارب يسمح لهم بالدخول في اليوم الأول فقط.
أما في صبيحة اليوم الثاني كان هناك هدوء غريب، وحينما استيقظت توقعت أن اندفاع الحشود سيكون كما كان في اليوم الأول، ولكنني استيقظت على هدوء تام، ونزلت البيت، وكنت ساكنا في الطابق الثاني... نزلت فسألت الوالدة، وكان الوالد جالسا على الإفطار في الساعة السابعة صباحا، والشيخ رد علي: «الظاهر انك استقيقطت متأخرا»، وقال لي: «روح الشغل».
لم أكن أعلم ماذا جرى بالضبط، ولكن فتحت الباب وتفاجأت بقوات مكافحة الشغب، وكانت الشرطة تحيط بالقرية من كل الجهات، ورجعت للوالد واخبرني انه في إقامة جبرية، وقال: «لست مستغربا مما حدث»، وهو توقع الإقامة الجبرية، لأنه مر بها مرتين سابقا.
وعندما خرجت وجدت مداخل القرية كلها مغلقة عدا المدخل الرئيسي القديم بمحاذاة المقبرة، وتصور أن كل قاطني قرية بني جمرة يدخلون من باب واحد، بل يجب أن يمروا على منزلنا أيضا والنقاط الأمنية كانت منتشرة بكثافة، وهذا الحال استمر لمدة أشهر، وكل الناس تدخل من مدخل واحد فقط وتخرج من المدخل ذاته، وهذا القرار لم يستثنِ أحدا بما فيهم الأجانب، وسبب هذا القرار ازدحامات كبيرة عند مدخل بني جمرة، وكل شخص مجبور على كشف هويته من خلال اطلاعهم على بطاقته السكانية، وإذا لم يكن من المنطقة يوجه له السؤال مباشرة «أنت ذاهب إلى الشيخ؟».
في البداية الحصار لم يكن شديدا، وكانوا يختارون بعض الشخصيات البعيدة عن الجانب السياسي وبعض الأقارب ويمنحونهم وقتا محددا لزيارة الشيخ، وكانت الناس تندفع وحدثت بعض المشادات بسبب الانتقائية في الاختيار.
بعد شهر واحد تحول الحصار إلى المنطقة الشرقية من بني جمرة حيث سكن الوالد، وهذا الحصار يختلف عن كل الحصارات السابقة، لأنهم في تلك الحصارات كانوا يمنعون كل صغيرة وكبيرة ويحظرون أي نوع من الحياة في المنطقة، ففي الحصار الأول في العام 1995 لم يسمح لنا بوجود أية وسيلة اتصال يستخدمها الشيخ، واخذوا التلفزيونات والراديو وحتى الهاتف.
كان الشيخ منقطعا عن العالم وممنوعا عليه حتى الخروج من باب منزله، والحصار الثاني كان في يناير/ كانون الثاني 1996 وكان مشابها للحصار الأول وكان حصارا محكما تمهيدا للاعتقال الثاني الذي استمر لأربع سنوات ونصف، والحصار الثالث تميز بالتشديد على الداخل والخارج لكن الحياة في المنطقة لم تتوقف كما كان في الحصارين السابقين، وفي المرة الثالثة سمحوا للوالد ببعض الزيارات ولكن بإذن خاص ومواكبة أمنية.
* ومن كان حلقة الوصل مع هذه القوات؟
- كنت حلقة الوصل بالنسبة الى من هم داخل الحصار، كما كان لأخي صادق دور في الاتصال بجوانب اخرى، اما أنا فكنت حلقة الوصل بين المنزل المحاصر وخارجه. حينها تحدثت مع الشخص المسئول عن حصار المنزل لتخفيف التضييق على الوالد والعائلة، لأنهم كانوا يريدون معرفة التفاصيل في كل حركة قبل السماح لنا بأي شيء، والوالد كان يرفض أخذ الإذن وكان يطلب فقط الإخطار «خبّرهم فقط»، ولكنني كنت مضطرا للقيام بأخذ الإذن لأنهم فرضوا هذا الإجراء، وفي بعض الأحيان يمنع طلب الوالد وفي بعض الأحيان يسمح له بشروط ويطلبون بعض التفاصيل مع المواكبة الأمنية المشددة. وهم اعتبروني حلقة الوصل أيضا، لأن أخي صادق كان يسكن في منطقة أخرى، فكان التنسيق اليومي معي، لأنني موجود باستمرار.
* وكيف كانت طريقة تعاملهم معك ومع العائلة؟
- من نتعامل معهم كانوا بحرينيين من جهاز أمن الدولة، ومعاملتهم تتفاوت بين شخص وآخر، ولكن في الحصار الثالث أصبحت لدينا خبرة في طريقة التعامل معهم، وأصبحت لدينا معرفة شخصية بهم من خلال زياراتنا المتكررة إلى أخي محمد جميل وعبدالجليل خليل (زوج شقيقتي) في السجن، لذلك كانوا يعرفونني جيدا، لأنني كنت في الأسبوع أذهب إلى وزارة الداخلية مرتين، وهذا الوضع استمر لأكثر من عشر سنوات هي فترة اعتقال محمد جميل وعبدالجليل (من العام 1988 حتى 1998).
* وهل تكونت لديك صداقات مع بعض قوات أمن الدولة؟
- من الصعوبة أن تتكون بيننا صداقات، لأن في النهاية إذا نظرنا إلى الحقيقة المرة، فإنهم السجانون ونحن المسجونون، ولكن نحن ندرك في نهاية المطاف أن هؤلاء ينفذون أوامر فقط، وأستطيع أن اقول انه كانت هناك ألفة معهم، لأنهم موجودون معنا على مدار الساعة إلى درجة أننا أصبحنا نعرف أسماء كثير من قوات مكافحة الشغب، وعلاقاتي والعائلة كانت مركبة مع السجن.
وفي كل تلك الفترات كان بيت الوالد مركزا، وتعرفنا على مجموعات هائلة من البشر من مناطق مختلفة، وهذه قد تكون من «نعم السجن»، وكان هؤلاء الناس يأتون لأسباب مختلفة، وخصوصا في منتصف عقدي الثمانينات والتسعينات عندما كان الشيخ الجمري من القلة الذين كانوا يتحدثون عن القضايا المطلبية وتحديدا ملف المعتقلين، ومجلس الوالد كان من المجالس القليلة المفتوحة على مدار السنة على رغم المخاطر، ومهما يكن السجين المفرج عنه في تلك القضايا يقوم الوالد بزيارته، أو يرسل له مساعدة.
وضع الوالد الاجتماعي متميز كثيرا، ولديه معارف في كل البحرين ومن مختلف المستويات، وخصوصا الطبقات المحرومة (عامة الشعب)، والوالد كان يحاول توفير مرتبات شهرية لهم لتلبية احتياجاتهم قدر الإمكان، وكان الوالد يسعى في تزوجيهم، وأستطيع أن أقول إن كل معتقل أصبحت لديه عضوية في هذا المجلس، انه مجلس للمحرومين ومجلس المستعدين للتضحية باستمرار!
وبعد أشهر معينة صار تشديد أكبر للحصار ومنعت الزيارات للبيت، وبسبب رفض الوالد بعض العروض من السلطة كان الجواب تشديد الحصار أكثر فأكثر، واتخذ هذا الحصار صورا مختلفة مثل منع الزيارات أو التشدد في السماح له من الخروج من البيت، وأصبحت زياراته قليلة، وكان الناس يلتقون به من خلال مراجعته للعيادات والمستشفيات، وكان مجرد خروجه لحاجات ضرورية يسبب إرباكا واستنفارا لقوى الأمن بسبب التشديد، وكان الناس يتحملون الأذى في سبيل رؤية الشيخ، وفي بعض الأحيان تغض القوى الأمنية الطرف.
* كيف كانت طريقة تعاملهم مع الشيخ وكيف كان الشيخ يتعامل معهم؟
- جميع رجال أمن الدولة يعرفون الوالد بسبب معاملتهم معه في السجن، هم كأشخاص والبحرينيون وخصوصا كانوا يتحدثون مع الشيخ بأدب ويحاولون تجنب ما يثير غضبه، ويبدو أنه كانت لديهم أوامر بعدم الاحتكاك المباشر مع الشيخ، ولكن في بعض الحالات حدث بعض الاحتكاك.
والوالد كانت أخلاقه عالية معهم، وكان يتعامل معهم بطريقة إنسانية، وبعضهم يخجلون في التعامل مع الشيخ، وأتذكر حادثة مازالت عالقة في ذهني، فبعد تشديد الحصار على الشيخ منعت عليه الزيارات ولكن سمح له أن يخرج بالسيارة للتجول في الليل بمواكبة أمنية، وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى المنطقة الغربية ومنها دخلنا مدينة حمد، وقال لي الوالد «أنا فيني زكام». دخلنا سوق واقف وكان الوقت متأخرا وكانت خلفنا سيارتان تابعتان لقوى المخابرات(...) وقفنا عند صاحب العصير، وعطيت المحل الطلب، والوالد طلب من الموظف الهندي أن يذهب إلى سيارتي المخابرات ويسألهم ما يطلبون، وهم طلبوا، وبعضهم تفاجأوا أن الشيخ دفع عنهم، وبعد رجوعنا البيت جاء اثنان منهم وقدما الشكر إلى الشيخ.
كان الوالد يصلي في جامع الإمام زين العابدين(ع) وتحول الجامع إلى مصلى للشيخ ومحمد جميل وأنا بالإضافة الى قيّم الجامع وهو رجل كبير في السن، وكانوا يمنعون أحدا من دخول الجامع، ولهذا السبب كان قيّم المسجد مصدرا مهما، لأنه يرى الشيخ مرتين في اليوم.
وفي أحد أيام الجمعة جاء أحد من المخابرات فسلم على الوالد «اشلونك أبو جميل؟»، وطلب منه أن يتغدى معنا، في حين كان يطبق الحصار، وبعد أسبوع فعلا جاء إلى البيت مع صديقه، وقلت للشيخ «جو الضيوف!»، فقال: «كنت جادا»، والوالدة جهزت الغداء لهم، وسمحوا له في البداية أن يلبي بعض العزائم، وكانوا في سياراتهم وأنا مع الوالد، وأصحاب البيوت كانوا يضيفونهم على شرف الشيخ أيضا.
* ولكن ألم تشعر أن بعضهم كان متعاطفا مع الشيخ أو القضية المطلبية عموما؟
- هؤلاء لم تكن ثقافتهم السياسية عالية، وكثير منهم كانوا يتعاطفون مع الوالد بوصفه رجل دين أو رمز اجتماعي، وكانوا يحترمون الوالد، ويبدي بعضهم الخجل من محاصرته، ولكن في النهاية نحن كنا نعلم أن هؤلاء موظفون وليسوا أصحاب قرار.
* وما هي أكثر لحظات الحصار شدة بالنسبة الى الشيخ؟
- إن أصعب الفترات التي تألم فيها الشيخ الجمري نفسيا بصورة كبيرة هي فترات المناسبات مثل مواليد ووفيات أهل البيت(ع)، وكان الشيخ يذهب إلى السطح، لأن البيت يقع بين بني جمرة والدراز والمرخ، ويجلس على السطح ويستمع للقراءة الحسينية، وحاولنا أن نجري له ترتيبا ليخرج في موسم عاشوراء فقط، وفي البداية سمحوا له بزيارة مكان واحد، ولكن حدثت مشكلة في هذا المكان وتجنب الوالد الذهاب له مرة أخرى وطلب تغيير المأتم إلا أن الشرطة رفضت طلب الوالد، والنتيجة أنه قضى شهر محرم في البيت وكان يذهب للسطح ليستمع إلى أصوات قراءات حسينية متداخلة.
والشيخ كان يتألم كثيرا في شهر محرم، ويقول لمحاصريه: «حياتي كلها عاشوراء، وأنا أساسا خطيب حسيني منذ أن كان عمري 12 سنة»، وكانت هذه القضية أصعب مسألة، وحتى الوالدة قللت من طلعاتها لمواساة الوالد، لأن ارتباطه بقضية الحسين(ع) كان يفوق التصور، ودائما ما كان يقول للقوات المحتشدة والمحيطة بمنزله المحاصر: «أنا رجل منبر قبل أي شيء آخر».
وفي فترة الحصار كانت للشيخ فرصة ذهبية للكتابة، ومن الأشياء التي مرت بها هي حادث سقوط طائرة طيران الخليج، وكان يتابع التلفزيون بشكل مباشر، وطلب منا أن نخبر الشرطة انه يرغب في تعزية الناس، والشرطة سألوني «يعرف من فيهم؟»، أجبتهم «لا يعرف احدا»، فقال الوالد: هم كلهم يعرفوني. فهدأناه وقلنا له «إن الناس تقبل عذرك»، وفي النتيجة أرسل لعوائل الضحايا رسائل التعازي فقط.
* و كيف انعكست هذه الأجواء على العائلة؟
- نحن كعائلة مررنا بهذه التجربة وتحديدا تجربة السجن والزيارات واستدعاءات الوالد المتكررة، ولنا تاريخ طويل مع هذه القضايا، ولكن لا أحد يستطيع زيارتنا، والوالدة كانت أكثر شخص يقف مع الوالد وكأن فيها مواصفات خاصة، وهي ذات بأس وقوة، وكانت بالنسبة إليه كل شيء في حياته، كانت له أكثر من زوجة، وكانت بمثابة الشريك، وبالنسبة إلى الجو العائلي، كان يحب الأطفال وجو المرح والمزاح مع الجميع، وكأنه لا يوجد حصار، فنفسيته مرتفعة في أحيان كثيرة. ومواقف الوالد كانت تتخذ من وحي دائرة المشورة الواسعة جدا، وكان الوالد يسألنا جميعا، ولم يكن متفردا بالقرار، وهذا ما يميزه.
* ما هي أكثر المحطات التي أغضبت الوالد في فترات الحصار المتعاقبة؟
- مازلت أذكر أنه حدثت معركة كبيرة بين الوالد وقوات الأمن، ولم يكن الوالد يصلي الفجر في الجامع لضمان عدم الاحتكاك مع قوات الحصار، وكانت فرصة للجيران ليصلوا في الجامع، وكان المؤذن شخصا آخر، وكان الوالد مسرورا للسماح لهم بالصلاة في الجامع، والمؤذن كان من احد الجيران، وفي ذات يوم منع من الأذان.
كنت اعرف القصة، ولكن الوالد بعد أيام لم يسمع الأذان وسألني عن القضية، والوالد كان يصر على معرفة السبب وأنا لم اخبره، وفي أحد الأيام خرج المغرب للصلاة وشاهد ابن المؤذن، وكان طفلا صغيرا وسلّم على الوالد، وقال له الوالد: «أبوك مريض؟»، فرد الولد «لا مو مريض»، فرد الشيخ:» ليش ما يأَذّن؟»، وأجاب الولد «الجماعة طردوه». وفي هذه اللحظة انفجرت أعصاب الشيخ بصورة رهيبة و قوى الأمن حاولوا يتلافون الموضوع، لكنه شعر أن الحصار تجاوز الحدود، وكان مستعدا ليفتح جبهة على هذا الموضوع، وتدخل محمد جميل وعبدالجليل (وكانا قد افرج عنهما في هذه الفترة) وهدّآ الوالد، وهذه الحادثة كانت بعد ثلاثة أشهر من إجراء عملية القلب للوالد أثناء الحصار، ولكنه انطلق إليهم مثل الأسد، كان يشعر أن هذا الجامع بالنسبة إليه أهم من أي شيء آخر، وموضوع التعدي على الدين كان يعتبره خطا أحمر.
* ما هي طريقة تعاملك مع الضباط في المعتقل؟ وهل حاولت تهريب بعض الرسائل له؟
- كانوا يحترمونا أكثر من بقية المعتقلين قليلا، ولكن التعامل كانت تحكمه المزاجية، وبالنسبة لنا كان من الصعوبة بمكان تهريب الرسائل، وفي الزيارة كان يتحدث الوالد عما يشاء، وكان يستفسر عن الناس لأن المخابرات كانت تقول له انهم نسوا الحركة المطلبية، وكان عدد من مسئولي الأمن موجودين في هذه الزيارات، والمعلومة التي كانت تصل للشيخ كانت مشوهة بسبب الظروف المشددة، وأية كلمة تحاسب عليها العائلة مثلما حدث مع أختي عفاف حينما دخلت في مشادة مع أحد ضباط المخابرات سيئ السمعة، والأخير منعها من الزيارات نهائيا، ولم ترَ الوالد إلا بعد الإفراج عنه.
* وفي فترة الحصار هل حدثت محاولات للقاء الوالد من الشخصيات القريبة من السلطة؟
- نعم، حدثت لقاءات بين فترة وأخرى بين بعض الشخصيات لمحاولة التهدئة والبحث عن مخرج، وكان من بينها عضو مجلس الشورى السابق المرحوم عبدالله العصفور، وكانت لديه معرفة قديمة مع الوالد، وكانت هذه المحاولة الجادة الوحيدة، وبعض الشخصيات سمح لها بالدخول، ولكن في النتيجة لم تسفر هذه الاتصالات عن بلورة مخرج محدد للازمة.
ولكن في آخر فترات الحصار كان هناك نوع من الانفتاح من جانب السلطة ولديها بعض المرونة في الخطاب الإعلامي وكذلك التعاطي بصورة أفضل مع الواقع السياسي في نهاية العام 2000، وهي الفترة التي سمح فيها بعودة السيدعبدالله الغريفي من الخارج، وفي هذه الفترة حدثت لقاءات مع عدد من الشخصيات الرسمية في يناير 2001. قبل هذه الحادثة توفت أخت الوالد الكبرى (زهرة)، والشيخ حضر الجنازة وكانت جنازة كبيرة لعلم الناس بأن الشيخ سيكون حاضرا، وفعلا كان حاضرا، ولكن بعد الجنازة جاء قرار بمنعه من حضور مجلس العزاء «الفاتحة»، ولكن الوالد أصر على الحضور، واعتبر أن هذه إهانة كبيرة بالنسبة إليه، وقال: «الناس تريد أن تعزيني»، وقال: «هل هؤلاء يدعوّن أن لديهم انفتاحا ويقومون بمثل هذا العمل اللاإنساني»، ووصلت هذه العبارة إلى مسامع السلطات العليا، والشخص ذاته الذي منع الشيخ اتصل وقال إن الشيخ مسموح له أن يحضر الفاتحة بأمر خاص، والسيدعبدالله الغريفي تواجد مع الوالد لثلاثة أيام، وكان تلاقيهما حدثا مميزا في ذلك الظرف وهما تداولا قضايا الشأن العام. وبعد هذه الفترة بدأ الحصار يتآكل، وكانت بعض الشخصيات تزور الوالد.
* ومن هي هذه الشخصيات؟
- المستشار السابق لسمو الأمير وزير التجارة والصناعة حاليا حسن فخرو، والوزير جواد العريض، وزيارات حسن فخرو تكررت أكثر من مرة، وجاء فخرو بحلم كبير كان يراود الوالد وهو الانفتاح السياسي.
* وماذا حدث في هذه اللقاءات؟ ولماذا هذان الشخصان بالذات؟
- بالنسبة لجواد العريض كان صاحب علاقة سابقة وممتدة منذ المجلس الوطني، وكان يتكلم بعموميات، ولم يكن يتحدث عن تفاصيل في الجلسات التي حضرتها على الأقل، ولكن حسن فخرو كان يجلس لعدة ساعات مع الشيخ، وتعددت اللقاءات معه، وكان الشيخ واثقا منه، وكان واضحا انه مفوضا من قبل سموالأمير (جلالة الملك)، وكان يتحدث عن تواريخ محددة لمراحل الانفراج، وكان الوالد يبدي ملاحظات، وكانوا يطلبون دعم الوالد للمشروع السياسي الجديد.
* وهل توسعت دائرة الحوارات مع آخرين؟
- نعم، وازدادت اللقاءات مع الديوان الأميري (سابقا) وكانت له زيارات لسموالأمير، وكان العفو في البداية لم يكن شاملا، والوالد طلب أن يكون العفو شاملا، والوالد كان يخبرنا أن هناك ارتياحا من هذه الزيارات، وان الناس تريد أن تخرج من الأزمة الأمنية وتنتقل الى مرحلة الحوار السياسي، وبعضها تسلسلت الحوادث المعروفة فترة الانفراجات العامة.
لا شك أن الحصار ترك أثرا نفسيا على بعض أفراد العائلة بل وانعكس على الجو الدراسي أيضا، لأن الظروف التي مرت بها العائلة لم تكن طبيعية، وكان المشهد الأساسي أن نرى جميعا الشرطة والشغب وسياراتهم، ولا شيء آخر.
* وبعد فك الحصار هل التقيت مع أولئك الذين كانوا يحاصرون منزل الشيخ؟
- نعم بالتأكيد، لأن «البحرين صغيرة» ولكن كنت أشاهدهم مصادفة، والعلاقة معهم عادية، وأشعر أن بعضهم غير موجود في جهاز الأمن الوطني حاليا، وحينما يشاهدونني يسألون عن بعض الأشخاص، ويستعرضون شريط الذكريات بصورة عابرة، وبعض الأشخاص يحاول يظهر أنه دوره كان مقتصرا على تنفيذ الأوامر.
وكيف تواجههم نفسيا؟
- أنا لا احمل ضغينة على أحد.
وما الذي لا تستطيع أن تنساه من تلك المشاهد؟
- منظر حصار الوالد كان غير طبيعي، وكنت أحاول أن أحفظ كرامة الوالد عند نقاط التفتيش والدخول والخروج، وكنت اطلب منهم ألا يسألني احد أمام الوالد!
Subscribe to:
Posts (Atom)