رحيل الشيخ الجمري بعد مشوار حافل من «العلم والنضال»
صادق الجمري: لم يبكِ والدي إلا عندما حاول بعضهم تسقيطه لمواقفه المغايرة
الوقت - محمد السواد ومحمد الصفار:
بعد صراع مرير مع المرض، وبعد رحلة كفاح عامرة بالوطنية والعمل الدؤوب لخدمة أبناء شعبه، رحل عن عالمنا صباح أمس (الاثنين) الشيخ عبدالأمير الجمري، ذلك السياسي الوسطي الذي ظل يطالب بالحياة الكريمة من دون تهميش أو تمييز بين أحد، وهو ما وفر أرضية قوية لعلاقات وطيدة جمعته بمختلف تيارات المجتمع من ليبراليين وإسلاميين، إذ كان دائماً يردد ‘’جميع التيارات، شركاؤنا في الوطن’’.
وكان الشيخ الجمري، أبرز الدعاة للوحدة الوطنية ونبد التفرقة ومحاربة الطائفية، حيث حمل هموم الشعب وآلامه، وسار بالقافلة في طريق تحقيق المطالب، مدفوعاً بكثير من النداءات الجماهيرية من قبيل ‘’بالروح بالدم نفديك يا جمري’’ وكذلك ‘’الجمري لا يساوم، من أجلنا يقاوم’’.
وكان الشيخ الجمري وفي كل تحركاته الوطنية، يستند إلى عهد قطعه أمام آلاف الجماهير التي احتشدت في استقباله عند خروجه من السجن، إذ قال ‘’إنني - أيها الشعب العظيم - لأعاهد الله عزّ وجل وأُعاهدكم بأنّي سأبقى وفياً لكم، وسأعيش هموم هذا الشعب وآلامه وآماله، وسأخدمه بكل ما لديّ من طاقات، علّي أتمكّن من أداء بعض الدَّين الكبير الذي لكم في عنقي’’.
الجمري وعلامات البداية
ولد الشيخ عبدالأمير الجمري في بني جمرة العام ،7391 وكانت دراسته الأولية في البحرين، وانخرط بعدها في سلك الخدمة الحسينية، مستفيداً من مجموعة من الخطباء البارزين مثل ابن عمه ملاّ عطية بن علي الجمري وابنه الخطيب ملاّ يوسف ملاّ عطية الجمري، وكذلك الخطيب ملاّ جاسم محمد حسن نجم الجمري. وقرأ الجمري كخطيب مستقل وهو في سن مبكرة، حيث لم يتجاوز السابعة عِشرة من عمره، وقد حظي بتجاوب اجتماعي شجَّعه على الاستمرار.
دراسته العلمية
بدأ الجمري الدراسة العلمية على يد الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح آل صالح آل طعّان البحراني في سنة ،9591 حيث درس عنده بعض المقدمات في العربية والفقه والعقائد لمدة سنتين. وبعد وفاة البحراني هاجر الجمري إلى العراق لمواصلة دراسته، حيث قرأ في النجف معظم السطوح على أساتذة فضلاء وعلماء أعلام، كما حضر لمدة سنتين أو أقل بحث السيد أبوالقاسم الخوئي في الأصول، وبحث السيدمحمد باقر الصدر في الفقه الاستدلالي في ضوء العروة الوثقى.
الشعبية الواسعة
من جهته، اعتبر صادق عبدالأمير الجمري أن شعبية والده لم تكن لأبعاد سياسية فحسب بل لأبعاد اجتماعية، مضيفاً أن والده كان يزور الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، إذ تجده في مختلف المناسبات. وكان منزل الشيخ الجمري مفتوحاً للجميع، في كل الأوقات، حتى أثناء فترة الإقامة الجبرية، وعلى رغم الضغوط آنذاك، إلا أنه كان يبذل جهده ليبقى منزله مفتوحاً للجميع.
وقال صادق ‘’كان منزلنا ومازال مفتوحاً أمام جميع طبقات المجتمع من التوجهات المختلفة، هذا ما ربانا عليه أبونا’’.
وكان الشيخ الجمري قد كشف عن السر في هذا الارتباط الذي يجمعه وجماهير البسطاء، حين قال ‘’هؤلاء البسطاء هم الظهر الذي أستند عليه في أي سوء’’.
وأشار صادق إلى أن ‘’السياسيين، في الثمانينات، كانوا يعتمدون على أحزابهم، أما الجمري فكان يعتمد كلياً على الشارع البحريني’’.
ونتيجة مواقفه المغايرة عن هذه الأحزاب حتى الإسلامية منها تعرض الجمري حينها إلى محاولات تسقيط مختلفة بدعوى الفساد والعمالة وغيرها من الادعاءات الكاذبة، وهو ما عبر عنه صادق بالقول ‘’لم أرَ والدي يبكي على رغم كل العذابات التي واجهته في حياته السياسية، إلا أنه بكى عندما اتهمه بعضهم، وحاولوا تسقيطه والحد من مكانته لا لشيء سوى لمواقفه المغايرة’’.
وأضاف صادق ‘’كان يقول: لا أبكي على نفسي، بل على حال هؤلاء المحسوبين علي’’.
الجمري.. ‘’رجل عائلة حقيقي’’
وفي سياق متصل، أوضح صادق الجمري أن ‘’الوالد كان رجل عائلة حقيقي، يعيش شاباً مرحاً معنا، فطالما كانت ابتسامته وضحكاته تضيف على منزلنا كثيراً من الفرح، كان يمازحنا ودائماً ما كان يروي لنا المواقف الطريفة، ولا تتعجب إن وجدته معنا ومع بعض الشباب في رحلة أو بركة’’، وفق ما قال.
وأضاف ‘’على رغم كونه رجل دين، إلا أن أفكاره كانت تحمل من الانفتاح ما كان يفتقد إليه كثير من رجال الدين في تلك الفترة، كانت نظرته ثاقبة، يصر على أن نكون متعلمين’’.
وتابع ‘’لذلك تجد جميع بناته وأبنائه من المتعلمين وخريجي الجامعات العريقة، فلم يمانع حتى من ذهاب أبنائه وبناته للدراسة في الخارج. كان على درجة من الانفتاح والوعي’’.
من أقوال الشيخ الجمري في زوجته
أشاد الشيخ الجمري بوقوف زوجته بجانبه في الشدة، إذ قال ‘’كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام’’.
وأضاف ‘’أذكر في 6 سبتمبر/ أيلول 8891 وقد جاء عدد من ضباط الأمن لاعتقالي، أنها وقفت بباب المنزل حائلة بين القوم وبيني لا تدع أحداً يدخل إلى المنزل، وصارت تتكلم لأولئك بصوت ومنطق شجاع ما كنت أتوقعه منها، ولو لم أتدخل في إقناعها خشية أن يمسوها بسوء، لما غيرت مكانها ولهجتها، ولما تمكنوا من أخذي’’.
وتابع ‘’وأذكر من كلماتها في وجوههم بصوت عال وهم يريدون دخول المنزل للتفتيش (لماذا تفتشون منزلنا؟ هل عندنا متفجرات أو قنابل، من أين تأتينا، من أي طريق، هل نزرعها زراعة فنحصل عليها)’’.
الجمري الشاعر والأديب
نظم الجمري الشعر، وهو في سنٍ مبكرةٍ، باللسانين الشعبي، والفصيح، وكانت البداية مع نظم الشعر الشعبي، إذ أنتج وهو دون العاشرة من عمره، ديوان شعر في هذا الباب (أنغام الولاء) لايزال مخطوطاً.
بدأ نظم الفصيح، وهو دون الثامنة عشرة، ونُشرت له قصائد عدة بالفصحى في بعض الصحف البحرينية، كما ألقى كثيراً من قصائده في الاحتفالات الدينية، وصدر له في هذا اللون من الشعر الجزء الأول من ديوانه ‘’عصارة قلب’’.
كما نشر الجمري مقالات أدبية ودينية وقصائد في بعض الصحف والمجلات العراقية كـ ‘’الأضواء’’، و’’التضامن الإسلامي’’ حينما كان في النجف، وفي عدد من الصحف والمجلات البحرينية بعد عودته إلى البلاد.
عضويته في البرلمان
عاد الجمري إلى البحرين بعد 21 عاماً قضاها في تحصيل العلم بجامعة النجف، وذلك بناءً على طلب أهالي منطقته من أجل أن يرشِّحَ نفسه لعضوية المجلس الوطني، وبالفعل جرى انتخابه عضواً في المجلس عن الدائرة السادسة عشرة، من دون أية دعاية انتخابية تذكر، وكان له مع كتلته في المجلس الوجود الفاعل، والمواقف الواضحة والجريئة.
نشاطات أخرى
عمل الجمري نائباً لرئيس جمعية التوعية الإسلامية في البحرين لمدة 6 سنوات تقريباً، حينما كان رئيسها الشيخ عيسى قاسم، وكان له فيها وجود فاعل ونشاط معروف، كما قام منذ 3791 حتى 1891 بتقديم الأحاديث الدينية في إذاعة وتلفزيون البحرين، حيث كان هناك إقبال كبير على أحاديثه.
عمل الجمري محرراً دينياً في مجلة ‘’المواقف’’، إذ كان يقدم زاوية ‘’استفسارات دينية’’، وله مؤلفات إسلامية عدة طبع منها ‘’من واجبات الإسلام’’، ‘’من تعاليم الإسلام ‘’، ‘’المرأة في ظلِّ الإسلام ‘’ و’’مقدمة دعاء كميل’’. وكان له كذلك ديوان شعر ‘’عصارة قلب’’، إضافة إلى ‘’من شموع العترة الطاهرة’’ وهناك عدد من المؤلّفات مازال مخطوطاً، منها كتاب ‘’الإسلام وشؤون الإنسان’’، وفي سنة 5891 أسس الجمري الحوزة العلمية المعروفة بحوزة الإمام زين العابدين في جامع الإمام زين العابدين، بقرية بني جمرة .
الجمري.. قاضياً
عُيِّنَ الجمري بعد حلِّ المجلس الوطني بسنتين قاضياً في المحكمة الكبرى الشرعية (الدائرة الجعفرية)، وذلك بعد طلب متكرّر من المسؤولين في البلاد.
وفي العام 8891 عُزِلَ من القضاء على خلفية مواقفه الإسلامية، وتصريحاته التي شجب فيها قضايا عدة تُمارس في البلد، من منطلق النصيحة، وبعدها جرى اعتقاله واستدعاؤه للتحقيق مرات عدة، لكنه وبسبب اطمئنانه لمواقفه لم يتراجع وواصل نشاطاته المختلفة وارتباطه الوثيق بعموم الناس.
درب النضال
شارك الجمري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2991 في إعداد وتوقيع العريضة النخبوية المطالبة بالحقوق الدستورية والبرلمانية، كما دعا بعدها بعامين إلى توقيع العريضة الشعبية التي رفعت المطالب نفسها والتي وردت بالعريضة السابقة.
وفي أبريل/ نيسان ،5991 حوصرت قرية بني جمرة، ووضع الشيخ الجمري تحت الحصار فترة معينة، نقل بعدها إلى السجن الانفرادي، إلى أن أفرج عنه في 52 سبتمبر/ أيلول 5991 بعد اتفاق مع السلطات الأمنية لإعادة الهدوء مقابل مناقشة المطالب والسعي إلى تحقيقها.
وبعد أشهر قليلة، وبالتحديد في يناير/ كانون الثاني 6991 أعيد اعتقال الجمري ليزداد الوضع الأمني والسياسي اضطراباً، ما دفع السلطات حينها إلى وضعه في الحجز الانفرادي لأكثر من 9 أشهر، نقل بعدها إلى السجن، حيث منعت عنه الزيارات إلا من زوجته وأبنائه، وحجب الشيخ الجمري أثناء تلك الفترة عن العالم الخارجي تماماً، حتى تم الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة. وفي 12 فبراير/ شباط 9991 بدأت محاكمة الشيخ الجمري أمام محكمة أمن الدولة بعد انقضاء فترة الحكم الإداري تحت قانون أمن الدولة، وقضت المحكمة بسجنه 01 سنوات وتغريمه 7,5 مليون دينار، لكنه أفرج عنه بعفو ووضع تحت الإقامة الجبرية مرة أخرى.
وعلى هذه الخلفية من المعاناة والسجن المتواصل والكفاح المرير، تمكن المرض من الشيخ الجمري، إذ أصيب في مايو/ أيار 0002 بجلطة في القلب وأجريت له عملية جراحية بالمستشفى العسكري، وفي 32 يناير/ كانون الثاني 1002 رفعت عنه الإقامة الجبرية، لكن حالته الصحية ازدادت سوءاً فنقل في يونيو/ حزيران 2002 إلى ألمانيا لإجراء عملية في الظهر أصيب بعدها بجلطة في موقع العملية وجلطتين في الدماغ، وبعدها بنحو 6 أشهر نقل للعلاج في ‘’مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية’’ بالرياض.
وهكذا ظل المغفور له الشيخ عبدالأمير الجمري في معاناة مع المرض، إلى أن وافته المنية صباح أمس (الاثنين) بعد رحلة مشهودة من الكفاح لصالح كل أبناء وطنه.
Friday, January 11, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment