لقاء مع عائلة الجمري
أجرته : جهاد ربيع و جليلة علوي ( الجمعية الحسينية الثقافية – سترة – القرية )
سمعنا وقرأنا عن حياة الشيخ الجمري السياسية لكننا ما عرفنا وما علمنا سوى النزر القليل عن حياته الاجتماعية وكيف كانت، عن تعامله اليومي مع زوجته، تعامله مع أبنائه، أساليبه في حل المشكلات وكيف يتعامل مع مشاكل الآخرين الوافدين عليه لحلها نتوق لنعرف كيف كانت ابتسامة الشيخ وضحكاته مع أسرته.مع الأهل من حوله، ما هي ميوله واهتماماته الشخصية؟
ذهبنا وكلنا شوق للتعرف على محراب الأب كيف كان؟ لتحكي لنا سجادة الصلاة كيف كان يقضي صلاة الليل ودموعه تناجي الإله!
ترحيب حار جمعنا بعائلة الشيخ، قابلونا وابتسامة تعلو محياهم.. أهلاً ببناتنا نوّر البيت، لحظات حتى بدأنا لقاءنا الودي ورحلة معرفة القليل القليل من حياة والدنا المجاهد..
س : أم جميل، كيف كانت بدايات الشيخ ونشأته، وهل كان مؤهلا ليكون هكذا؟
ج : من بدايته كان سماحته ذكيا وكان من الأوائل على الصف وكان يحتل مركز المراقب، كان يؤلف القصص التي لا يصدق الأستاذ أنه من قام بتأليفها، كما أن علاقته مع والديه يغمرها الحنان والطاعة وهو من كانت تشير له يد والده وتخصه بالدعاء.
في تلك الأيام حيث حياة الفقر كانت توزع على الصفوف أقراص الخبز فكان للصف الأول قرص ونصف وللصف الثاني قرصين ونصف فكان الجمري يأكل نصف ويعود بالقرص الكامل ليتقاسمه والداه.
من عمر ست سنوات كان يصعد لأعلى المنزل رافعا صوته بالأذان بمجرد اعتقاده بدخول وقت الصلاة ، و تضيف أم جميل رغم أن الحياة قديما كان يسودها الجهل والفقر في العوائل مع تعدد المشكلات لكثرة الأسر المقيمة مع بعضها في البيوت المركبة في جميع مناطق البحرين كان حبه واحترامه لي واضحا وظاهرا.
حنون بشكل لا يوصف:
كان عندما يأتي إلى المنزل فإنه يصافح الجميع فرداً فرداً ويطبع على وجوههم قبلات حانية قوية ، علاوة على البذل المادي سواء كان يملك المال الكافي أو لا حتى وإن كان يمر بظروف صعبة كان يبذل للكل وللجميع حتى أفراد القرية، كان حنونا على الجميع سواء أخوانه أم بناته وأي فرد يلتقي به، خصوصا المرأة يوليها اهتماما خاصا والكثير من العناية والرعاية.
(ابتسمت أم عمار) وهي زوجة الابن والتي أثر في حياتها وتكوينها اهتمام الشيخ وشخصيته وحنانه.. أخبرتنا كيف كان الشيخ يساعدها في دراسة ما يصعب عليها فهو الذي شجعها ودفعها لمواصلة دراستها الجامعية.
ما يميز الشيخ أنه كان يولي زوجات أبنائه اهتماماً خاصاً (حبيبتي ...)هكذا كان يناديهن وفي حالة المشكلات بين أبنائه وزوجاتهم فانه يقف دائما وفي كل مرة إلى جانب الزوجة.
س : أم جميل، فترة غياب طويلة وفترات أخرى متقطعة بسبب سجن الجمري كيف تمكنت من التوفيق بين دور الأم ودور الأب؟
ج : مرحلة كانت صعبة جدا كنت مسؤولة عن بيت مليء بالأطفال وخالٍ من الرجال، فسجن منى (أم عمار) ومسؤولية أبنائها الباقين في نفس المنزل، و اعتقال عفاف قبلها كان المنزل يضم أبناء منى وأبناء عفاف وأبنائي، و سجن جميل وعبد الجليل والشيخ الجمري..
كنا نقوم بحجز مواعيد المقابلات للسجناء لا نكاد ننتهي من الأول حتى نرتب للثاني وهكذا عملية لا تنتهي ، وشغلي الشاغل البحث عمن سيذهب إلى لندن لتوصيل الأموال إن وجدت ومن سيذهب للسجن كي نرسل الرسائل والصور والملابس معه، بالتالي مكتب السجن للمقابلات هذه كانت حياتنا، الله سبحانه وتعالى أعطاني القدرة على تحمل كل ذلك.
س : موقف الشيخ عند سماعه لخبر اعتقال منى وعفاف ؟
ج : لم يسمع عن منى إلا متأخرا وحين علم عن عفاف – عن طريقهم - أضرب عن الطعام.
س : نبراس بما أنكِ البنت الأصغر كيف كانت علاقتكٍِ بوالدكِ وهل شعرتِ أن هنالك علاقة خاصة تربطِك بالشيخ؟ وكيف تعاملتِ مع اعتقاله؟
ج : رغم أن والدتي كانت تبذل الكثير لي إلا أن العلاقة العاطفية كانت تربطني بوالدي أكثر من والدتي، كان يغدق عليّ بحنان فياض، كنت أحبه كثيرا كان ينزل لمستواي حتى حين تعترضني مشكلات ويحدثني وكأنه بعمري، كنت أشعر أنه يفهمني كثيرا وقد أثر بي كثيرا سجنه وابتعاده عني رغم أنه لا يقضي الكثير من الوقت في البيت ويأتي آخر اليوم في الليل ورغم كثرة العدد في البيت من أولاده وأولاد أخواني إلا أنه ما كان يقصر في شيء وكان يعطي كل فرد حقه ، في مرحلة المراهقة ومع المشاكل التي تعترضني وحتى مشاكل المدرسة كان يتواصل ويحل المشكلة مع المدرسة وكان في البيت يحدثني ويعرف الطريقة التي يحل بها مشكلاتي لذلك كان صعب علي فراقه لأنه لم يكن مقصرا مع أي أحد منا أضافت نبراس والدموع تترقرق في عينيها:تأثرت كثيرا بفقد والدي.. فبسبب العلاقة العاطفية مع والدي فترة سجنه أتعبني كثيرا بعده عني وكنت في فترة المراهقة واعترتني بعض المشاكل النفسية وحاولت أمي مساعدتي لتخطي ذلك لكني كنت متعلقة بوالدي، ليس فقط من الناحية العاطفية كان اهتمامه بي فمع كل انشغالاته كان كل يوم يحضر الدروس معي خصوصا مادتي اللغة العربية والدين، كان يشعرني بعزة النفس والغنى والاكتفاء معه وعدم الحاجة للآخرين
لدرجة أن أزواجنا مهما حاولوا معنا يصعب عليهم إرضاؤنا، ولن يكونوا نفس والدي، كم نريدهم أن يكونوا نسخة منه لكنه مستحيل.
عفاف: بعدما توفي والدي كان يعتقد كل فرد من أخوتي انه الأحب والأقرب لوالدي لم نكن نقول ذلك لبعضنا خوفا من جرح المشاعر أبكي بشدة وأنا أصف علاقتي معه أخي كان يقول أن والدي يقول له نفس الكلمات متصورا أنه الأقرب لوالدي، لكثرة ما يغدق علينا من الاهتمام والعاطفة كل يعتقد نفسه أنه الأحب له.
تكمل عفاف وقد خنقتها العبرة: الآن أنا امرأة كم عمري لحد ما توفى وهو على فراش المرض أعود متعبة من الجامعة ، من العمل لا أتمكن إلا من المرور عليه كما اعتدت وأنا صغيرة أقول له بكل ما يصيبني وهو يتجاوب معي وفي الأخير أصبح لا يقدر على الكلام والرد علي أصبح يتجاوب بنظراته بضغطه على يدي اخرج وأنا مرتاحة أمر عليه وأتزود منه دائماً .... حين مات لست قادرة على إنهاء هذه العلاقة ولا يوجد ما يعوضني عنها بالنسبة لي لا يوجد بديل أبدا أنا منذ وعيت في هذه الدنيا لا أذكر إلا مسكته ليدي واصطحابي من مجلس لآخر رغم أنه شيخ! يعود للمنزل يطعمني ويتركني أنام على يديه وحين أتحدث في ذلك يقول أخوتي أنه كان يفعل ذلك معهم جميعا.. حتى كبرنا
زوجات إخوتي حتى الأشخاص في المحكمة والمراجعين يقولون نفس الكلام وكثيرا ما ألتقي بأفراد يعلموني بمواقف حدثت لهم معه بينت أنه مثل ما كان يعاملنا يعامل الناس.. فهو أسبغ حنانا على الجميع مع أنه نشأ يتيما توفي والده وعمره 11 سنة إلا أنه من هذا العمر اعتمد على نفسه فعمل حتى يعيش، لقد عاش محروما من الحنان وكانت حياته كلها شقاء ومشاكل ومع ذلك أسبغ الحنان على الجميع...
س: وكأن ذلك يلغي القول المأثور بأن فاقد الشيء لا يعطيه؟؟ ماذا عنكِ يا صغرى عشتِ شهور قليلة مع الجمري وأنتِ زوجة ولده كيف رأيت الشيخ؟
صغرى: هذه الفترة القصيرة بإمكانها أن تحكي الكثير، كل الناس تحب أولادها إلا أنه لا يوجد له مثيل، هل كل الناس تضم وتحتضن أبناءها على الدوام حتى عندما يكبرون أنا شهدت عمي يجلس منصور وجميل كل له نصيبه بالجلوس ملاصقين ومجاورين له كالأبناء الصغار، وهذا يصدر من شيخ رجل دين
إنه وبمجرد أن يعقد الزوجة لولده مباشرة يضمها ويقبلها ويقدم الهدية، أكملت وهي تمسح دموعها لا أنسَ كيف أنه وبعد أن عقد علينا برهن على وده لي بالهدية وبقبلاته الحانية..
تضيف ( مهدية الملا ) أخت أم جميل: حتى نحن أخوات زوجته فاض علينا من هذا الحنان وهذا الحب والود، أسبوعيا يوم الجمعة لابد من وجود غداء الجمعة ويتفقدنا واحدة تلو الأخرى يقف لتفقد الأخوات فردا فردا ، المعاملة مع الجميع متماثلة.
حتى في حالة سماعه لمشاكل الجيران وأبناء المنطقة فأنه يبادر شخصيا لمساعدتهم والمساهمة في حل مشكلاتهم
لا زلنا نتذكر قصة الطفلة الجريئة (....) ذات الأربع سنوات التي جاءته شاكية والديها لمشكلة حدثت بينهما ، فضحت والديها ، أخذ كلامها كله واتجه لوالديها ليحل المشكلة، شخصية عظيمة بهذا الكم الهائل من المشاغل والمسؤوليات يجلس وينصت لطفلة؟!
عفاف: صحيح، أحيانا أرافقه فأشعر بالتعب والإعياء من كثرة زياراته ، واستغرب من أين لوالدي كل هذه القوة، ليليا يصلي صلاة المغرب ويرى إذا كانت عليه قراءة أو لا وحتى إذا مرتبط بالقراءة في المأتم، يذهب حوالي المسجد الذي صلى فيه أكثر من عشرين بيت كل بيت يدخله يتفقد حاجاته يتحدث معهم، أتذكر في إحدى المرات خرجت معه ذهب بيت إحدى القريبات تبين أنها تعاني من مشكلة نفسية وقف لها هوّن عليها تحدث معها ودعى لها وإذا في جيبه شيء قدمه لها ويخرج عنها ويتجه للبيت الثاني و في أحد البيوت تبين أن صاحبه ت عنده مشكلة جنسية تحدث معه وطمأنه بأنه سيقوم بالقراءة له على الماء حتى أن أم جميل استغربت انه وصل لهذا الحد وتطرق لهذه المواضيع الحساسة .
س : ماذا عن المناسبات والأعياد هل كان للشيخ الجمري برنامجه الخاص؟
أم جميل: يوم العيد وبعد أن يصلي المغرب يذهب لعشرين أو ثلاثين بيت يدخله يسلم عليهم ويُعّيد.
أما عن العائلة فبعد أن يسلم عليهم يتأكد من أن أم جميل أعطت كل فرد عيديته فيبادر بالسؤال هل أعطتكم أم جميل عيديتكم ؟
إحدى زوجات الأبناء ارتبطت لشهور قليلة فقط وحدث انفصال لعدم وجود توفيق بينهما أرسل لها عيديتها حتى بعد الانفصال واستمر في الحديث معها عبر الهاتف للسؤال عنها..
س : كيف تمكن الشيخ من جمع شمل أفراد الأسرة وخلق الحب والانسجام رغم وجود الاختلاف الملحوظ في شخصياتهم؟
عفاف: توجد عدالة شديدة في الاهتمام بكل فرد لا أحد يشعر بالظلم ويوجد حب فياض يجمع الكل، إضافة لتمسكه بالدعاء والجدير بالذكر أنه كان لا يهمل أي مشكلة تحدث بين الإخوان فإذا حدثت مشكلة أو عدم اتفاق بيننا نخشى أن يعلم .
س : هل يتقبل تقسيم الأدوار داخل الأسرة بينه وبين زوجته؟
عفاف: نحن نحسد والدتي لأنه لا يوجد أحد يلقى مستوى السعادة التي عاشتها معه
أحد أزواج البنات يسأل ابنة الشيخ أنه( مستغرب من معاملة والدها لوالدتها كأنهما لازالا في سن الشباب كل أمورهما تتم بالمناقشة ورأسهما ببعضا ، مستحيل رجل بهذا العمر يحدث زوجته بهذه الطريقة وهذا الدلال ) .
ابتسمت مهدية "أم حسين" لتضيف: في إحدى المرات كانت أم جميل مسافرة وجئت لهنا وعندما سلمت إذا بالشيخ يقول لي أعيدي كرري، أعيد؟! أكرر ماذا ؟ قال صوتك صوت أم جميل تعالي أسمعك هذه القصيدة كتبتها في أم جميل.
أم جميل: حتى منى "أم عمار" يعطيها وقت يصعد لها يشرب معها الشاي يجلس معها يدللها، وكل ما تطلبه يلبيه لها ، إذا طلبنا شيء يخرج كل ما في جيبه ويقدمه لنا بحجة أنه سيحصل على غيره ( اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ).
عفاف: في إحدى المرات قارب زواج منصورة وكان زوجي مسجونا خجلت أن أخبره وكانت معيشته في ضيق ( بعد الفصل من القضاء ) كان يعيش و يصرف علينا من العقود والقراءة ،( حيث كان يستشكل من لمس الخمس مع أن هذا مورد شرعي و قد نصحه زميل دربه الشيخ عيسى قاسم حفظه الله ، بذلك و لكنه لم يفعل لأنه كما يقول لنا : لو فعلت فإنه إذا كان الآن يشبعكم رغيفان ساعتها سأعطيكم واحدا فقط و أنتم لم تعتادوا على ذلك ) على كل ، كان للتو قد استلم 30 دينارا أعطاني إياها كلها و ليس لديه غيرها .
تضيف عفاف: دائما يذكر هذه الكلمات: ( أنا أم جميل مستحيل أنساها وفت لي أفي لها طول عمري حين ذهبنا للنجف كانت الحياة صعبة والحياة فقيرة قامت ببيع ذهبها حتى نعيش بالإضافة إلى أني اترك لها البيت وأرجع للبحرين للمسؤوليات والمشاغل) فكان وفيا لها وحنونا عليها .
س : تأخذنا الذكريات ليوم وقفت أم جميل عام 88م بوجه قوات الشغب عندما كانت تريد اعتقال الشيخ، كيف وقفتِ بوجههم في وقت كانت فيه مداهمة السلطة للمنازل أمرا مخيفا ومرعبا ولم تكن المرأة قوية وثابتة كما هي اليوم؟
أم جميل: سنة88م لم تكن المرأة غير قوية فقط بل حتى الرجال يخافون ففي تلك الفترة لم تكن هناك مظاهرة ضد النظام، لا زلت أتذكر كيف وقفت عند الباب وأنا أقول للضابط عادل فليفل : لن تأخذ الشيخ ولن أسلمك الجواز قبل أن أنادي الناس وأريهم أعمال آل خليفة، قال لي : ناديهم ناديهم، أخذت الجواز عندي ورحت للمأذنة وقلت لأحد الرجال (عمران حسين ) شغل السماعة لأصرخ فيها: الله أكبر أيها الناس لقد اعتقل الشيخ الجمري..! ما هي إلا لحظات حتى احتشد الناس عند المنزل..
س : يوم السبت الأسود ما حدث فيه هل استشهد النجوم الثلاثة دفاعاً عن الشيخ؟ هل يوجد ما هو خاص بهذا اليوم وكيف كان موقف الشيخ مما حصل؟ذكرى هذا اليوم المنكوب؟ كيف كانت ردة فعل الأسرة والشيخ؟
الخالة (مهدية الملا ) : السبت الأسود..! دخلوا المنزل وخربوا كل ما فيه وأم جميل كانت تصرخ فيهم أسلحة تبحثون عن أسلحة بالله عليكم من أين؟؟ من الجو أو من البحر؟ ملكتم البر و البحر فهل هي بذر نزرعه فينبت ؟ إن وجدت هنا أسلحة فبالتأكيد أنتم من وضعها هنا كان الشيخ يحاول تسكيتها خوفا عليها منهم .
عفاف: كان يقدر عدد قوات الشغب 2500 اجتمعوا وتآمروا، ما حدث حينها أنهم دخلوا للبيت يفتشون تفتيشا دقيقا واقتحموا بيوت الجيران ، في البيت الواحد مالا يقل عن 60 من قواتهم المدججة هجروا عوائل الجيران بمنتصف الليل والكل لا يعلم ما هو حاصل حينها، حتى أن البعض اعتقد أنه سيتم حرق منزل الشيخ بمن فيه !
لقد فتشوا البيت تفتيشا دقيقا أهانوا أبي، عبد النبي وعادل فليفل عبد النبي أهان أبي إهانات لا توصف أمامنا، وكان أبي ساكت عنهم ولا يرد عليه ولكن حين أرادوا تكبيل يديه طلبوا منه الوقوف فمنعتهم والدتي وقالت بأنه لايحتمل ذلك بسبب ظهره، عندها لم يتحمل والدي فأخذ يسأل عادل فليفل هل عندك إذن بالتفتيش؟ والمفاجئة أنه ضحك باستهزاء وقال هذه المرة بأمر وبعلم من ولي العهد نفسه !
تضيف الخالة : لكثرة الدهشة والرعب والإزعاج الذي قام به الشغب أحد الجيران نسى ابنه نائما في البيت وصلوا حتى أبو صيبع ورجعوا مجددا لأخذه حتى ملأه الخوف من عدم السماح له بذلك...
أم جميل: قاموا بتفتيش البيت تفتيشا كاملا ثم أخذوا كل أجهزة الهاتف والراديو والتلفزيون من المنزل كيلا يكون هناك أي اتصال بالعالم الخارجي وأبعدوا الجيران وطردوهم من منازلهم كي لا نتواصل معهم عبر الأبواب أو النوافذ واحتلوا الجامع فلا يرى منه إلا الشغب في كل الجهات .
في البيت كل فرد موكل بحراسته حوالي عشرين من قوات الصاعقة وكان عددنا 19شخصا داخل البيت ! هذا عدا عن الحي كله وبني جمرة كلها محاطة بالآلاف .
عفاف: حين تم إبعاد الجيران كلهم من القرية كان هنالك موقف لجيراننا نعيمة وزوجها أستاذ عمران بعد صلاة الفجر أعلن في مكبر الصوت أنه تم اعتقال الشيخ أما زوجته فقامت بطرق النوافذ وأخبرتهم بأنهم هجموا على بيت الشيخ.
عندها خرجت الناس تعاطفا وجاءوا جريا للمنزل إلا أنهم تفاجئوا بامتلاء المنطقة كلها بقوات الشغب الذين بادروا بإطلاق الرصاص كي يتراجع الجميع أحدهم رفض فرشوا رجله بالرصاص ، حتى مع النساء عاملوهم بالمثل ..
تكمل عفاف: وصلوا لحالات مأساوية، كانوا يزحفون على بطونهم وهم ينزفون، كالشيخ محمد حبيب الجمري وهو الذي أخذ يزحف حتى وصل لأحد البيوت أخذ يضرب بابهم برأسه حتى انتشلوه، علما بأن المنطقة كانت محاصرة وهنالك صعوبة في إخراج الجرحى وإسعافهم البعض تمكن من الخروج عبر المدرسة والبعض من جانب( المرخ) وآخرين من جانب ( القريّـــة) كانت استباحة للقرية وكأنه هجوم ومذبحة دير ياسين، هجوم على القرية يسمح لهم بأن يقضوا على كل نفس متحرك لا يطيع .
تابعت عفاف: أكثر من خمسين جريحا وإصاباتهم حرجة (محمد جعفر) خطيب كوثر كان مجروحا فرفسه أحد قوات الشغب وقلبه فابتسم الشهيد سأله الشغب عن سبب ابتسامته فرد الشهيد: لأنك كلب ترفسني برجلك ، فغضب وفرّغ فيه رصاصه الحي عن قرب في رأسه!
تنفست عفاف الصعداء متابعة : مآسي، إن مطالبتهم لنا الآن في حديثهم عن العدالة الانتقالية وحديث فاطمة البلوشي وكلام صلاح علي أقول لهم انظروا ما قاسيناه حتى تفهمونا نحن علمنا ما تريدون ووعيناه، أنتم أيضا مطالبين بمعرفة ما لدينا وما نريد لأجل الوحدة الوطنية نحن ليس لدينا توجه طائفي لكن على الآخرين معرفة جراحات الآخر للوصول لشيء مشترك.
س: بعد استشهاد الشهيدين والشهيدة الثالثة لاحقا و فبلهم (محمد رضا ) بعد حوادث ليلة ويوم السبت الأسود ماذا كانت ردة فعل الشيخ؟
عفاف: شيء لا يوصف استمر الحصار لمدة أسبوعين في حين لم نكن نعلم ما الذي يدور حولنا ولا ما سيحدث لنا لم نكن نعلم أننا سنبقى كل هذه المدة نسمع طلقات أعيرتهم النارية كل العوائل المجاورة لنا تم تهجيرهم طوال هذه المدة إلى أن اعتقلوا الوالد بعد الأسبوعين حينها فقط سمحوا لهم بالعودة .
تتابع عفاف: في البيت القديم مع 19 طفل ومكان ضيق في ذاك الوقت بعد انتهاء الحصار ودخول أهل القرية علينا للمرة الأولى كانت تسود بشكل جلي مشاعر الغبن والبكاء والأسى ويدرك الجميع تعب الأطفال وإنهاكهم والذين أسرعوا خارجين بسبب المدة التي قضوها محجوزين في البيت .
تكمل حتى النافذة حين نفتحها فوهة الرشاش في وجوهنا بل ستارة النافذة يمنع علينا تحريكها وحين يحاول الأطفال القفز خارج قاعة المنزل فأنه يعود كالديك محمولا من ذراعيه من قبل اثنين من القوات التي تحيط بأرجاء البيت وكان أفراد الشغب يقومون بتكبيل كل حركة يقوم بها الأطفال حسين ومهدي وأحمد ، ابن عفاف( حسين ) يخاطب أحدهم هل وضعت القيود في يد بابا؟سأنتقم منك ! ليردوا قائلين لصادق اسمع ما يقوله الطفل،ثم يكتبون تقريرا فيه ما قاله الطفل!
لحظات حتى أحضرت أم جميل ما ألهب مشاعرنا وأثر فيها بشكل واضح وهو تسجيل صوتي شجي للشيخ يحدث فيه رفيقته في دربه زهرته أم جميل وينشد فيها أروع الأبيات التي تحكي امتنانه لها وشكره لصبرها وصمودها واعتزازه بها حين يقارنها بغيرها من النساء اللواتي يجزعن عند الشدة والبلاء ، وفي جزء آخر منه يتحدث عن رفقاء دربه حاملي لواء القضية المتشبثين بالألم لأجل الامة وكرامتها وحقوقها... ساد صمت وحزن لاح في العيون والنساء تستمع لصوت واليها الحنون الذي غيب في الثرى والجميع على قناعة بأنه خالد ماغيب يوما عن الألسنة والقلوب والعقول... فقر عينا يا أبا البحرين وجزاك الله لجهادك فينا خير الجزاء
o رغم ازدحام الذكريات إلا أنه توجد قضايا عالقة تراود فكركم( ذكريات.. كلمات.. وصايا.. مواقف أمور مفرحة وأخرى محزنة)
o أكثر وصية راسخة في القلب والذاكرة
o ما يكرره الشيخ ويؤكد عليه لكم ولنا؟
عفاف: واصلوا واستمروا بالمطالبة بالأسلوب الهادئ وليس بالفوضى وطالما تم فتح باب الحوار نستمر في ذلك وعدم السكوت عن حقوقنا .
_إذا حضر ضيوف فهو يكثر من الوصايا للتهيؤ لهم ويخشى عدم كفاية ما يقدم لضيافتهم يجب أن تكون المائدة كاملة كي لا يخجل أحد من عدم كفاية ما يقدم لهم ، ويردد بأنه ليس محتاجا وبأنه لم يدع إلا و هو مستعد ، و إذا انتهت المأدبة يقول الجميع في المنزل : خرج الشيخ فيتساءل : أين الوردة؟ أينها أم جميل .
إذا كان عنده بعض المشاكل هل كان يظهر ذلك عليه؟
أم جميل: نعم يظهر عليه فقد كان حساسا ولم يكن يهدأ حتى يحل الإشكال الذي يقع بينه وبين الآخرين وكان يردد لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال..)
وحتى لو كان الحق له أسأله هل تحدثت معه؟ هل سامحته بهذه السهولة؟ يقول لها نعم أيهما أفضل أن أكلمه اليوم أم غدا بين يدي الله تعالى.
تواصل عفاف: كان يواصل الجميع مع اختلاف الأطياف و حتى حين تم اعتقالهم لم يكن احد يكترث بعوائلهم باستثناء الشيخ الذي كان يحدد لهم راتبا شهريا حتى الإفراج عن معيلهم ، وكان البعض منهم ممن يسكن خارج المنطقة ويرى إحسان الشيخ وجميله على عوائلهم فأثر ذلك بهم ، حتى بعد وفاته .
تواصل أم جميل : أحد السلفيين الذي واظب طويلا على حضور مجالس وقراءات الشيخ بشكل أسبوعي يمدح كثيرا في أخلاق وتعامل الشيخ حتى بعد مرض الشيخ كان يحضر لزيارته دائماً.
وكذلك معارفه من دول الخليج العربي ففي فترة مرض الشيخ لم تكن تتوقف الوفود عن زيارته في المستشفى.
o الاعتصام_( الإضراب عن الطعام)
البيت المفتوح مع القلب الموجع .. حشود الجماهير التي لم تعد أرض البحرين قادرة على حملها في بقعة واحدة و التي على حسب أشهر التقديرات تربو على خمسين ألفا ، شهدها منزل الجمري .
نبراس: والدتي اعتادت على استقبال وفود سواء تعرفهم أولا تعرفهم، اضطررت للذهاب في أحيان كثيرة للدراسة في بيت الجيران لأنه صادف فترة الامتحانات إلا أن ذلك لم يكن يزعج أحدا لأنه ينم عن مشاعر الحب من الناس .
في الحصار الثاني فقط تم السماح لخالتي (مهدية ) بدخول بيت الشيخ التي كان يتلهف لملاقاتها لتنقل له أخيار القرية وشؤون الناس فيها...
س: حدثونا عن الجانب الإيماني للشيخ كيف كان؟ وماذا عن علاقته بمحرابه؟
نبراس: علاقة خاصة جدا مع ربه ومع الإمام الحسين بشكل أخص، الجانب الروحاني لديه قوي جدا وعلاقته بالإمام الحسين خاصة جدا كما لو كان صديقا له ويعيش معه، هو أمر لا يوصف .
تضيف عفاف: نحن نستغرب كيف يمكن أن يوزع وقته يستيقظ منتصف الليل يصلي صلاة الليل التي يطيل فيها كثيرا ويوصلها بالفجر ثم يتوجه للجامع ويرجع يعقب حتى طلوع الشمس ثم يأخذ له غفوة لا تزيد على الساعة كي يبدأ نهاره وهكذا حتى وهو مريض من الصباح الباكر يبدأ التسليم على الأئمة الاثني عشر (ع) بشكل يومي وحين ساءت حالته ولم يتمكن من الكلام المطول إن تمكن من نطق الكلمة فهي حتما كلمة في ذكر الله تعالى ، الجانب الروحاني شيء لا نتمكن من وصفه وإدراكه .
حياة الشيخ كانت مليئة بالمعاناة والشقاء التي تذيب وتؤلم قلوب محبيه، متعلق جدا بأم جميل من خلال أشعاره فيها وتصريحه بوده ومشاعره لها أمام الجميع من خلال معاملته الراقية لها؟
تفسر عفاف ذلك بأنه ربما لما تعرض له من مشاق كثيرة في حياته أو ربما لأنها تفهمه وتضيف عفاف: دائما يرجع للمنزل مقهورا ومتشبعا من القهر عاش الظلم من صغره ظلم كثيرا سواء من النخب أم من زملائه ومن الناس بل حتى من الأهل من جوانب كثيرة وعديدة لا نتمكن من التصريح بكل شيء فحياته كانت قطعة من المعاناة لكن ما كان يواجه بالمثل أبدا فقط كان ينفس لأم جميل وكان يسميها (خديجتي) فكان يناديها أينك ياخديجتي تعالي داوي جراحي، فمع طعام عشائه يبدأ بالتصريح لها وتفريغ همومه فلم يكن قادرا على الاستغناء عنها، يقول في أحد أبياته( فراقج يا حرة خلى السجن سجنين) .
تواصل الخالة: حتى أن بعض المسؤولين في سجنه ومن بينهم عادل فليفل أدركوا أن عليهم الضغط عليه بمنع عائلته من زيارته فمرات كثيرة كانوا يرفضون طلبات أسرته بزيارته وتم منع عفاف لأكثر من عام ونصف من زيارته وكانت هناك محاولات لمنع أم جميل أيضا
وكانت عفاف وأم جميل تجتمعان لتنقلا له أخبار البلد سرا، تستدرك عفاف: في كل مرة يتم عقابنا كانوا يضعون لنا كاميرات فيديو ومجسات توضع تحت الطاولات بنفس الغرفة،وعادل فليفل نفسه يجلس معنا وضباط آخرين ومسافة كبيرة تبعدنا عن والدي، وأحيانا كان أبي يستاء كثيرا من تصرفات عادل ومن معه بسبب كثرة التشديد والتضييق أثناء الزيارات وهو غالبا ما يدخل الزيارة والتوتر باد عليه بسبب عملية التفتيش التي يقوم بها أفراد الشرطة من الجنسيات الأخرى والتي يشعر فيها بالاهانة والقهر فيدخل في جدال معهم ويرتفع عنده الضغط ويوشك على الإغماء ويتعمد المسئولون ذلك قبيل زيارتنا له.
تضيف الخالة: كما كانوا يجتمعون قبل المقابلة بصادق لتوصيل تحذيراتهم المشددة للأسرة لعدم الخوض في أحاديث محظورة بل و يطلبون نقل أخبارا كاذبة للشيخ فيأخذ ذلك من وقت الزيارة التي عادة ما تكون قليلة ، وفي إحدى المرات وبسبب تضييق الخناق على أسرة الشيخ التي حضرت للزيارة اضطرت عفاف للحديث حول أمور أخرى لتكسر بها صمت الجلسة رغم أن الشيخ كان في شدة الضيق لرغبته في معرفة ما يجري في الساحة فتحدثت عن الاستنساخ ثم تطرقت لما حدث معها بالأمس حين اضطرت لضرب ابنها حسين
فقال لها الشيخ : ( يا ابنتي لا تستخدمي العنف !! استخدمي الكلمة الطيبة... )
فأجابت والدها ( نبدأ بالكلمة الطيبة وإن لم تنفع نلجأ للعنف..)
فوقف عادل فليفل وشدد في خطابه معها قائلا: ( أنت لو كان يفيدكم العنف لأفادكم هذا العام والعام الماضي..) وبدأ بكيل وابل من التهديد والوعيد لها ، وأنها تقصد الساحة وليس ابنها! حينها قالت له عفاف: بأني لو رغبت في الحديث عن الساحة لفعلت ولكني أتحدث هنا عن الأطفال ومن وجهة نظري أن الضعيف يمكن أن يغلب القوي بالكلمة الطيبة!!
فاستشاط غضبا وزاد في تهديده المباشر وطلب منها التريث والانتظار لتلق العقوبة المناسبة (حيث يرفع عنها تقريرا للوزير كما حدث في المرة السابقة و يستخرج تصريحا باعتقالها ) ، فتوقع الجميع اعتقالا ثان لعفاف ولكن صادفت تلك الفترة وجود وفود أجنبية حضرت لتفقد الأوضاع في السجون أو للرقابة بناء على ملاحظاتنا الاعتيادية هناك وهذا ما حجبه عنهم..
فما كان منه إلا أن حرمها كليا من زيارة والدها حتى خرج من السجن بعد عام ونصف.
o س: الشيخ الجمري كان رمزا للوحدة الوطنية .. وما كان ولن يكون من يتمكن من حمل هذا اللقب، ماذا يمكن أن نسمع منكم في هذا الخصوص؟
عفاف : لديه انفتاح وحب للإنسان مطلق الإنسان فعلا ليس لديه تحيز وهو هكذا فعلا ليس لديه طائفية، كانت له علاقات بالجميع من الشيعة والناس وكثيرا ما استضاف إخوانا سنة من أماكن أخرى ومن الإخوان الخليجيين وتربطه ببعضهم علاقات أخوية صادقة تبعد عن المجاملة والمداراة، و حين تم فك الحصار وبداية الانفتاح وتودد الأمير للشعب على عكس الوضع السابق حين كان يمر بالأردن كان يتعرض للاهانة و يسجن ويستجوب في مطار الأردن تمكن من السفر للأردن للعلاج التقى هناك إبراهيم غوشة من منظمة العمل الإسلامي -ربما- القادة الفلسطينيين الإسلاميين المقاومين الذين طردوا من الأردن وتم الاشتراط عليهم ترك القضية الفلسطينية للعودة للأردن ومن بينهم إبراهيم غوشة وغيره هؤلاء حين التقاهم الشيخ الجمري أصبح الفندق مليئا بالأفواج وكانت تسود جلساتهم علاقات حميمية يحدثهم كأخ حميم قبل ظهور موجة بن لادن والزرقاوي اللذان ساهما في تخريب الأجواء بين الشيعة والسنة .
o الدواوين الأدبية والشعرية للشيخ وأهم مؤلفاته
كل ذلك يشير لتميز الشيخ في الشعر الخطابة.. في السياسية .. في الجانب التربوي.. الاجتماعي.. كيف تمكن الشيخ من ذلك؟ وأتقن كل هذا؟
هذا الحس المرهف.. رجل الدين.. الرجل الصلب والثابت.. الأب .. الزوج.. كيف اجتمعت كل هذه الأمور في شيخنا بتميز وإتقان؟
عفاف: الأدب عنده سلس جدا وكأنه يشرب كأس ماء خلال خمس دقائق يمكن أن يسطر لك قصيدة، من بين الذكريات القديمة حوالي عام 1979 /1980 فترة استشهاد بنت الهدى كان منصور في سنته الأولى في لندن وكان نشيطا جدا حينها مع الشباب الإسلامي هناك، حين نزل للبحرين كان بيت الشيخ قد أسس عملا إسلاميا نسويا كان هناك تلاقح في الأفكار بين الجهتين الاسلاميتين في لندن والبحرين كانت تصدر حينها مجلة طريق الحق فطلب منصور منهم كتابة شعر بمناسبة استشهاد بنت الهدى فاستصعبت الأخوات الأمر فاقترح أن يكتب الشيخ الشعر ويكون باسم العمل الإسلامي النسوي، وحين استيقظ الشيخ من نومه كان يرغب الخروج في موعد خاص وجلس لشرب الشاي الذي كان مهما له حينها فطلب منه أن يكتب شعرا في بنت الهدى أمسك منصور بالقلم فترة تناوله كوب الشاي أنهى قصيدة رائعة بالشعر الحر لمدة لا تتجاوز العشر دقائق واستأذنوا أن يوقع باسم بنات بنت الهدى نشرته المجلة وإذاعة طهران أخذته وأذاعته لمرات عديدة بلحن شجي مؤثر...
تضيف مهدية : كل طفل يولد في العائلة يؤلف فيه قصيدة حتى شقيقة زوجته أرادت شعرا لابنتها فكتب لها قصيدة وسلمها لها...
وتواصل عفاف : قصائد كثيرة ألفها في السجن وتمت مصادرة أكثرها إذ كان في السجن الانفرادي يسلي نفسه بالشعر والإنشاد بلحنه ، و حين خرج من السجن وبقي في الإقامة الجبرية لم يكن مسموحا لزوج عفاف بمقابلته وحتى أفراد أسرته ( الأولاد والبنات ) مسموح لهم للساعة العاشرة فقط ولا يسمح لهم بالتأخر حتى لخمس دقائق إضافية و إلا يتم احتجازهم.
وتضيف أم جميل: في إحدى المرات وكانت عفاف حينها حاملا في الشهور الأخيرة عند الساعة العاشرة وخمس دقائق كانت بجوار المنزل تم إيقافها في الطريق ولم يسمح لها بالعودة من حيث أتت ولا التوجه لمنزلها وهو لا يرضى بذلك فيقهره ويرفع الضغط لديه ما يحدث مما أدخلهم في قضية شائكة مع قوات الشغب وطال الأمر حتى تم التواصل مع الضباط للسماح لها بالعودة لمنزلها..
أزواج البنات لم يكن مسموحا لهم بمقابلته فقط مهدية شقيقة أم جميل وأصر الشيخ كثيرا على مقابلة عبد الجليل زوج عفاف فاستعملوا معه حرب نفسية أثرت به كثيرا لدرجة أنه في إحدى المرات تعرض لفقدان الوعي لشدة تلاعبهم بالإذن له أو رفضه، ( و ذلك في المستشفى قبيل إجراء عملية القلب أثناء الحصار) فاقترح عبد الجليل استغلال فترة حصاره وجلوسه في كتابة سيرته الذاتية، وفعلا بدأ بالكتابة وكتب الكثير منها وهذا الشريط هو ما كان ينشده في السجن والذي تم مصادرة أغلبه وبناء على طلب من أبنائه بإعادة تسجيله لما يتمكن من تذكره وبنفس الطريقة والكيفية، وحين كان ينشد أهازيجه في السجن كانت السياسة المتبعة معه منعا لتعاطف الحراس معه فانه يتم وضع حراس باكستانيين ( لا يعرفونه و لا يتكلمون العربية ) و في إحدى المرات تعاطف احد الحراس معه وهو يستمع له يلقي أناشيده وبصوته الشجي الحزين الممزوج بدموعه وآلامه إلى أن قام بإحضار منشور الأحرار له وتم معاقبته حينها ...
من خلال لقاء الأسرة الصامدة وشعر صادق للأب الحاني نرغب توصيل رسالة للجميع بأنه من حديث الشيخ لزوجته وخليلته وهي امرأة كأي امرأة رغبت أن تكون مثالية بزواجها وأمومتها وحبها لدينها ووطنها من أسرة بحرينية بسيطة طيبة ككل الأسر الشامخة في الأرض الحبيبة
نقول فيها أنه بإمكانك أن تكوني كزوجة الشيخ
و رسالة أخرى للرجل كي يحب امرأته ويحترمها ويعاملها كما عامل الجمري المرأة
فكما تمكن الشيخ المربي رغم أنه رجل دين ومع ازدحام انشغالاته والضغط الهائل الذي يقع عليه أن يلم الأسرة ويعطيها هذا الحجم الهائل من حبه واهتمامه وحنانه
يعاني مجتمعنا من مشكلات الانحراف والخيانة والتوتر الأسري بسبب ما تعانيه المرأة من النقص والقصور في منزلها
كما يعتقد الكثير أن التوافق بين الزوجين وكلمات الحب تحدث فقط في بداية الزواج بينما أمامنا مثال بيت الشيخ الذي استمر في ذلك لآخر لحظة
أعطى أفضل معاملة وأرقى كلمات الحب، ولذلك عمل الجهلة على زعزعة الكيان الأسري لبيت الشيخ واستغلال حسه المرهف ورغبته الصادقة في خدمة الناس فقاموا بإرسال من تميله وتغويه، حتى في السجن كانوا يرسلون السجناء أنفسهم ويحاولون عرض صور الفتيات
عليه ووعدهم له بتوفيرهن له بالطريقة والكيفية التي يرغبها، وكل ذلك دون جدوى أو فائدة فالحياة الزوجية كانت فعلا مصدر قوة للشيخ
س : ما الذي يؤكد عليه الشيخ ويصر على الاستمرار فيه؟
أم جميل: حبه الشديد للناس ورفضه لمشاعر الضيق أو الضجر من أحد وإن كان متأخرا أو لحوحا أو ماشابه... أو إظهارهم لمشاعر التعب، فقد كانت كل الأسرة تعمل معه ومحشدة كفريق عمل معه للقضايا التي ترده وتصل إليه، وحديثنا هنا عن الأيام العادية وليس عن أيام الاعتصام والإضراب عن الطعام التي شعرنا فيها بحتمية واجبنا الذي كنا على قناعة ورضا وفخر بأدائه،ويؤثر ذلك على حياتنا ومشاغلنا وارتباطنا تستدرك أم جميل:حتى دراسة عفاف الجامعية تأخرت حينها بسبب ذلك فأبواب المنزل مشرعة ولا توجد مواعيد محددة وحجوزات ولا تقال كلمة لا لأحد مهما كانت طلباتهم حتى وإن اضطر للدفع من ماله الخاص فلم يكن يرد أحد وكان يرفض الشيخ إظهار التأفف أو الاستياء، وكان يوصي كثيرا بقيمة الإخلاص وصدق النوايا وأنه الله تعالى مطلع على ما الضمائر والقلوب والتذكير بالله وعدم التركيز على الأشياء الظاهرية بل ما تحويه الأنفس..
كلمات خاصة بأهالي سترة:
عائلة الشيخ: رائعون أهل سترة شعب ما شاء الله لا تشعر أن لديهم تحزبات وتكتلات بل مخلصون وتعجبنا كثيرا أهازيجهم المشهورة والتي منها مانذكره هنا:
إحنا أهالي سترة كلنا نوالي العترة
واللي في قلبه حرة يفجر عليه سلندر
النساء مع الرجال ومن الذكريات فترة المبادرة وكان في زيارة مع رجال المبادرة أو مع أستاذ عبد الوهاب وقد رافقته العائلة للمنطقة حينها تجمعت حشود هائلة لاستقبال الشيخ الذي توجه لاحقا لأسرة الشهيد
الشيخ كان يكن مشاعر خاصة لسترة البطلة، إحدى البنات الستراويات تقول أن والدها أعد مأدبة خاصة على شرف الشيخ بعد خروجه من السجن وبعد وفاة والدها ارتفعت معنويات الأسرة بزيارة الشيخ لمواساتهم وهي تتساءل نحن من نكون؟ مجرد أسرة فرحت بخروج الشيخ وأقامت مأدبة متواضعة على شرفه!!
تقول عفاف أن هذا هو ديدنه وما عهدناه منه بل أن هناك مسنات ومسنون كان الشيخ يقصدهم للزيارة ويشاطرهم الحديث
تراع شخص معتدل مرن لا يضع حدود أو حواجز في علاقته مع الناس ولا يدعي أنها امرأة فيمتنع عن التواصل مع الآخرين
ولم ينظر للمرأة نظرة غير عفيفة هو لم يتزوج بأخرى ولم يرتبط بالمتعة
يجلس مع النساء يجيب على استفساراتهن ومسائلهن وإشكالاتهن في مكان واحد وجها لوجه لا توجد عنده تعقيدات في هذه الناحية
إحدى النساء الغير محجبات تقول لابن الشيخ ( صادق) تقول بأني لست متدينة ولكني أحب شخصية أبيك، ففي السبعينيات رآني ولم أكن حينها محجبة مقارنة بالرجال الآخرين الذين يرمون بكلمات جارحة عليها أو يبتعدون عن طريقها أما هو فقد حدثني بلهجة الأب الحنون ولم يحدثني بشكل مباشر بل أهداني كتابه المرأة في ظل الإسلام الذي يحوي كل تعاليم المرأة وهو ما جعلني أغير نظرتي للدين
وفي القضايا في المحكمة يعتبر نصير المرأة ينصر المرأة بأي طريقة...وكان يشجع ويساند النشاط الحركي للمرأة ويبارك عملها ونشاطها في المجتمع إلى جانب الرجل لنصرة قضاياهم ورسالتهم
Sunday, February 17, 2008
Friday, February 15, 2008
في سنويــــــة الجمــــــــري
في سنويــــــة الجمــــــــري
عفاف الجمري
حققت انتفاضة التسعينات نجاحاً سياسياً كبيراً وباهراً بسبب عوامل عدة أحرى بنا أن نراجعها للاستفادة. ولا أدل على هذا النجاح من التأييد العالمي لها، بل حتى الخليجي الشعبي والرسمي والصحافة الكويتية - خصوصاً - قد ساندت الحركة المطلبية مثل مجلة «الطليعة»/ هذا غير تحرك وجهائها وبرلمانيها. والأهم هو مساندة الصحافة الغربية والبرلمان الأوروبي الذي يعتبر بحق حدثاً استثنائياً، فهناك كثير من القضايا العادلة في العالم، وشعوب تباد بأكملها من دون أن تتمكن من الحصول على مثل هذا التأييد، وهذا النجاح يتعلق بعدد من الأمور أهمها: عدالة القضية، اعتدالها، معقولية مطالبها، منطقيتها، وقابليتها للتنفيذ والإجماع الوطني عليها، وعدم منافاتها للأجندة الدولية.
والنقطة الأخيرة هذه تعتبر مراعاتها من الذكاء السياسي، حيث أي طرف ذكي في أي صراع يريد أن يكسب الرأي العام الدولي لجانبه (حيث هو الوسيلة الفاعلة للنجاح السياسي وهو ما حدث) فإنه يستهدف المطالب التي تلقى الإجماع الدولي. من أمثلة الصحافة الغربية المساندة للحركة الدستورية: صحيفة «ذي اندبندنت»، «تايمز»، «ذي غارديان»، «ذي سن»، «لوموند»، «فايننشال تايمز»، «إيكونومست»، «ذي وول ستريت جورنال» والقائمة تطول. هذا غير هيئة الإذاعة البريطانية التي وقفت بكل ثقلها وكانت ترسل مراسليها لداخل المعمعة، وما كانت لتفعل ذلك لولا قناعتها بعدالة القضية، فلو كانت طائفية أو تابعة لبلد أجنبي، لما فعلت ذلك. وتحت عنوان «الشعب يخاف الله ومن الشرطة»، كتبت الصحافية الدانمركية برنيلا برامينك مراسلة صحيفة «البوليتكن» في 8 يونيو/ حزيران 1996 «إن الحركة الشعبية المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان مازالت مستمرة رغم القمع، وتتصاعد تدريجياً تحت وطأة التدهور المريع في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ويمكن لهذه الأوضاع أن تتطور وتصل إلى عواقب خطيرة إذا ما أصرت حكومة البحرين على رفض تحقيق المطالب الشعبية، ورفض الحوار مع المعارضة [1]».
وفي خطبة للمرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري بتاريخ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني ,1995 يوضح فيها سمات الحركة، وأهدافها فيقول «إخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي.. مع التغيرات التي تشهدها المنطقة نجد أنفسنا ملزمين أن نتوقف عند بعض النقاط التي نشعر أنها تستحق التوضيح والتأكيد، دفعاً للاشتباه والالتباس، فبعض الصحف المغرضة والأقلام المأجورة تحاول يائسة في هذه الظروف أن تخلط الأوراق وتلصق التهم وتشوه الصور، قصداً منها للنيل من حركة الشعب الإصلاحية ومطالبه العادلة، وهيهات أن يتمكنوا من ذلك، وذلك لما يأتي: أولاً، إن توجه هذا الشعب مستقل ذاتي غير مدفوع من الخارج، لأنه توجه أوجدته الظروف والأوضاع السلبية المتراكمة، ولأنه توجه انطلق بدافع المصلحة العامة، رغبة منه في المشاركة الفعالة في صنع القرار السليم (...) ثانياً، إنه توجه مفتوح، عفوي، جماهيري، ليس حزبياً، أو متعصباً لأحد، يتفق ويتحد مع كل المخلصين العاملين لأجل مصلحة الوطن، فيه الإسلامي والوطني، الشيعي والسني، بعيداً عن الطائفية والقبلية، فأنا وأنت أبناء وطن، وأتعامل مع كل التوجهات في قضية وطن، الهموم والآمال والأهداف واحدة، لأنها للوطن، والكل مسؤول عن مصلحة وطنه وبلده، والعريضة الأولى عام ,1992 والعريضة الجماهيرية الثانية عام 1994 أكبر الأدلة على ذلك».
ويضيف «ثالثاً، إن أسلوب هذا التوجه سلمي يرفض العنف والتطرف والإرهاب، ويرفض استخدام القوة، ويعتبر الحوار الجاد المثمر هو الأسلوب الأمثل لتحقيق الأهداف العادلة، فقد استجاب توجه هذا الشعب للهدوء منذ أول يوم برزت فيه مبادرتنا السلمية، وطالبناه بالهدوء، ومازال وسيبقى محافظاً على الهدوء والاستقرار، لأنه توجه سلمي لا يريد إلا الإصلاح، وبيد الحكومة الموقرة ما وعدته على ذلك بالنظر في مطالبه وتحقيقها (...) رابعاً، إن أهداف هذا التوجه واضحة معتدلة موضوعية، لا تريد إسقاط الحكم ولا زعزعة الأمن، بل كل ما تريده تحقيق الأمن والاستقرار، وما هي هذه الأهداف؟ إنها كما أعلنت مراراً وتكراراً تفعيل الدستور، وعودة الحياة النيابية، وإطلاق سراح كافة المعتقلين، وعودة المبعدين»[2].
في حركة التسعينات دروس لكل من الحكومة والمعارضة، ففي بداية المشروع الإصلاحي أوشكنا أن نخرج من عنق الزجاجة إلى الأبد لولا الانتكاسات المتلاحقة، فأصبح الطرفان أمام تحدٍ كبير وأخطاء كبيرة، فالحكومة لديها ملفات كبيرة غير اعتيادية مخالفة للأجندة الدولية تضعف موقفها بشدة إن لم تعالجها بصدق وشفافية ولا نشير هنا إلى ملفات الفساد المالي والإداري والبطالة والأراضي، فهذه مشكلات عالمية تعالج - وإن كان ببطء - في البرلمان حتى لو لم تكن صلاحياته كبيرة. لكن ما نشير إليه هو ملف التقرير المثير، ملف الضحايا، ملف التمييز، والتجنيس، طبعاً إلى جانب ملف التعديلات غير المتوافق عليها. وما يزيد في صعوبة موقف الحكومة هو أن المعارضة أصبحت معارضتين: مشاركة ومقاطعة، وهو ما يشتت موقف الحكومة تجاهها وكلما ضيقت السبل أمام المعارضة المشاركة كلما زادت خيبة المعارضة المقاطعة، خصوصاً أن غالبيتها من الشباب المحروم اليائس، والذين يصعب السيطرة عليهم، خصوصاً في ظل عدم توحد القيادة كما كان سابقاً، وأن مواجهتهم بالعنف لا تؤدي إلا إلى عنف مضاد، يعيد البلد إلى المربع الأول.
هذا من جانب الحكومة. أما من جانب المعارضة (المقاطعة) فإنها أمام تحدي إثبات سلميتها أمام الرأي العام العالمي، وأنها ذات مطالب عادلة وليست إرهابية. وعليه، فإن الحوادث الأخيرة يتطلب علاجها الروية والعقل النابعين من الحرص على الوطن ولا أقل من فتح تحقيق نزيه ومحايد في ظروف وفاة الشاب المرحوم علي جاسم وتحميل الطرف المسؤول التبعات من تعويض عادل وغيره، إضافة إلى - وهو الأهم - فتح حوار جاد مع المعارضة ممثلة بأطيافها كافة، فلا ينفع الحكومة الهروب أو الالتفاف على حل المشكلات الرئيسة إنما الأولى مواجهتها بشفافية وجدية ووضع الحلول لها، كذلك المعارضة أمام تحدٍ كبير، فهي تحتاج إلى رص صفوفها والابتعاد عن كل ما يفرقها والالتفاف حول أجندة وطنية تكون محل إجماع، سواء بين الذين دخلوا البرلمان أو الذين خارجه، فلن تكون لهم كلمة مسموعة ما لم يتوحدوا ويتراصوا، وأن يحافظوا على سلمية الحركة.
[1] صحيفة «بوليتكن» الدانمركية، 1 يونيو/ حزيران .1996
[2] راجع: «دعاة حق وسلام»، ص ,45 يتضمن خطباً للراحل الشيخ عبدالأمير الجمري وبيانات ووثائق عن حوادث التسعينات.
عفاف الجمري
حققت انتفاضة التسعينات نجاحاً سياسياً كبيراً وباهراً بسبب عوامل عدة أحرى بنا أن نراجعها للاستفادة. ولا أدل على هذا النجاح من التأييد العالمي لها، بل حتى الخليجي الشعبي والرسمي والصحافة الكويتية - خصوصاً - قد ساندت الحركة المطلبية مثل مجلة «الطليعة»/ هذا غير تحرك وجهائها وبرلمانيها. والأهم هو مساندة الصحافة الغربية والبرلمان الأوروبي الذي يعتبر بحق حدثاً استثنائياً، فهناك كثير من القضايا العادلة في العالم، وشعوب تباد بأكملها من دون أن تتمكن من الحصول على مثل هذا التأييد، وهذا النجاح يتعلق بعدد من الأمور أهمها: عدالة القضية، اعتدالها، معقولية مطالبها، منطقيتها، وقابليتها للتنفيذ والإجماع الوطني عليها، وعدم منافاتها للأجندة الدولية.
والنقطة الأخيرة هذه تعتبر مراعاتها من الذكاء السياسي، حيث أي طرف ذكي في أي صراع يريد أن يكسب الرأي العام الدولي لجانبه (حيث هو الوسيلة الفاعلة للنجاح السياسي وهو ما حدث) فإنه يستهدف المطالب التي تلقى الإجماع الدولي. من أمثلة الصحافة الغربية المساندة للحركة الدستورية: صحيفة «ذي اندبندنت»، «تايمز»، «ذي غارديان»، «ذي سن»، «لوموند»، «فايننشال تايمز»، «إيكونومست»، «ذي وول ستريت جورنال» والقائمة تطول. هذا غير هيئة الإذاعة البريطانية التي وقفت بكل ثقلها وكانت ترسل مراسليها لداخل المعمعة، وما كانت لتفعل ذلك لولا قناعتها بعدالة القضية، فلو كانت طائفية أو تابعة لبلد أجنبي، لما فعلت ذلك. وتحت عنوان «الشعب يخاف الله ومن الشرطة»، كتبت الصحافية الدانمركية برنيلا برامينك مراسلة صحيفة «البوليتكن» في 8 يونيو/ حزيران 1996 «إن الحركة الشعبية المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان مازالت مستمرة رغم القمع، وتتصاعد تدريجياً تحت وطأة التدهور المريع في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ويمكن لهذه الأوضاع أن تتطور وتصل إلى عواقب خطيرة إذا ما أصرت حكومة البحرين على رفض تحقيق المطالب الشعبية، ورفض الحوار مع المعارضة [1]».
وفي خطبة للمرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري بتاريخ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني ,1995 يوضح فيها سمات الحركة، وأهدافها فيقول «إخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي.. مع التغيرات التي تشهدها المنطقة نجد أنفسنا ملزمين أن نتوقف عند بعض النقاط التي نشعر أنها تستحق التوضيح والتأكيد، دفعاً للاشتباه والالتباس، فبعض الصحف المغرضة والأقلام المأجورة تحاول يائسة في هذه الظروف أن تخلط الأوراق وتلصق التهم وتشوه الصور، قصداً منها للنيل من حركة الشعب الإصلاحية ومطالبه العادلة، وهيهات أن يتمكنوا من ذلك، وذلك لما يأتي: أولاً، إن توجه هذا الشعب مستقل ذاتي غير مدفوع من الخارج، لأنه توجه أوجدته الظروف والأوضاع السلبية المتراكمة، ولأنه توجه انطلق بدافع المصلحة العامة، رغبة منه في المشاركة الفعالة في صنع القرار السليم (...) ثانياً، إنه توجه مفتوح، عفوي، جماهيري، ليس حزبياً، أو متعصباً لأحد، يتفق ويتحد مع كل المخلصين العاملين لأجل مصلحة الوطن، فيه الإسلامي والوطني، الشيعي والسني، بعيداً عن الطائفية والقبلية، فأنا وأنت أبناء وطن، وأتعامل مع كل التوجهات في قضية وطن، الهموم والآمال والأهداف واحدة، لأنها للوطن، والكل مسؤول عن مصلحة وطنه وبلده، والعريضة الأولى عام ,1992 والعريضة الجماهيرية الثانية عام 1994 أكبر الأدلة على ذلك».
ويضيف «ثالثاً، إن أسلوب هذا التوجه سلمي يرفض العنف والتطرف والإرهاب، ويرفض استخدام القوة، ويعتبر الحوار الجاد المثمر هو الأسلوب الأمثل لتحقيق الأهداف العادلة، فقد استجاب توجه هذا الشعب للهدوء منذ أول يوم برزت فيه مبادرتنا السلمية، وطالبناه بالهدوء، ومازال وسيبقى محافظاً على الهدوء والاستقرار، لأنه توجه سلمي لا يريد إلا الإصلاح، وبيد الحكومة الموقرة ما وعدته على ذلك بالنظر في مطالبه وتحقيقها (...) رابعاً، إن أهداف هذا التوجه واضحة معتدلة موضوعية، لا تريد إسقاط الحكم ولا زعزعة الأمن، بل كل ما تريده تحقيق الأمن والاستقرار، وما هي هذه الأهداف؟ إنها كما أعلنت مراراً وتكراراً تفعيل الدستور، وعودة الحياة النيابية، وإطلاق سراح كافة المعتقلين، وعودة المبعدين»[2].
في حركة التسعينات دروس لكل من الحكومة والمعارضة، ففي بداية المشروع الإصلاحي أوشكنا أن نخرج من عنق الزجاجة إلى الأبد لولا الانتكاسات المتلاحقة، فأصبح الطرفان أمام تحدٍ كبير وأخطاء كبيرة، فالحكومة لديها ملفات كبيرة غير اعتيادية مخالفة للأجندة الدولية تضعف موقفها بشدة إن لم تعالجها بصدق وشفافية ولا نشير هنا إلى ملفات الفساد المالي والإداري والبطالة والأراضي، فهذه مشكلات عالمية تعالج - وإن كان ببطء - في البرلمان حتى لو لم تكن صلاحياته كبيرة. لكن ما نشير إليه هو ملف التقرير المثير، ملف الضحايا، ملف التمييز، والتجنيس، طبعاً إلى جانب ملف التعديلات غير المتوافق عليها. وما يزيد في صعوبة موقف الحكومة هو أن المعارضة أصبحت معارضتين: مشاركة ومقاطعة، وهو ما يشتت موقف الحكومة تجاهها وكلما ضيقت السبل أمام المعارضة المشاركة كلما زادت خيبة المعارضة المقاطعة، خصوصاً أن غالبيتها من الشباب المحروم اليائس، والذين يصعب السيطرة عليهم، خصوصاً في ظل عدم توحد القيادة كما كان سابقاً، وأن مواجهتهم بالعنف لا تؤدي إلا إلى عنف مضاد، يعيد البلد إلى المربع الأول.
هذا من جانب الحكومة. أما من جانب المعارضة (المقاطعة) فإنها أمام تحدي إثبات سلميتها أمام الرأي العام العالمي، وأنها ذات مطالب عادلة وليست إرهابية. وعليه، فإن الحوادث الأخيرة يتطلب علاجها الروية والعقل النابعين من الحرص على الوطن ولا أقل من فتح تحقيق نزيه ومحايد في ظروف وفاة الشاب المرحوم علي جاسم وتحميل الطرف المسؤول التبعات من تعويض عادل وغيره، إضافة إلى - وهو الأهم - فتح حوار جاد مع المعارضة ممثلة بأطيافها كافة، فلا ينفع الحكومة الهروب أو الالتفاف على حل المشكلات الرئيسة إنما الأولى مواجهتها بشفافية وجدية ووضع الحلول لها، كذلك المعارضة أمام تحدٍ كبير، فهي تحتاج إلى رص صفوفها والابتعاد عن كل ما يفرقها والالتفاف حول أجندة وطنية تكون محل إجماع، سواء بين الذين دخلوا البرلمان أو الذين خارجه، فلن تكون لهم كلمة مسموعة ما لم يتوحدوا ويتراصوا، وأن يحافظوا على سلمية الحركة.
[1] صحيفة «بوليتكن» الدانمركية، 1 يونيو/ حزيران .1996
[2] راجع: «دعاة حق وسلام»، ص ,45 يتضمن خطباً للراحل الشيخ عبدالأمير الجمري وبيانات ووثائق عن حوادث التسعينات.
ذكراك جمر ياأبي
ذكراك جمر ياأبي
أغبط سيدتي الزهراء على أمر- و كل ما لديها تغبط عليه – و لكنني أغبطها على أمر يهمني بقوة ، و هو لحوقها بأبيها سريعا ، نعم ذقت يا سيدتي المرارة التي ذقتها – مع فارق عظمة الشأن لديكم آل البيت – و أصبحت لا شعوريا استخدم نفس كلماتك - سيدتي – للتعبير عن حالي فأقول :( أصبحت بين كمد و غم ) ،فسلام الله عليك و على أبيك و آله الطاهرين و الطيبين .
حبيبي يا أبي :كلماتك لازالت تشنف آذاني في كل موقف و كل صغيرة و كبيرة و لا زلت أهتدي بها غير جملة واحدة كنت تقولها عندما كنت تذكر فارق رقة القلب لدى الآباء على الأبناء عنها لدى الأبناء على الآباء فتقول :( لأنهم منا ، و لسنا منهم) ،أجد نفسي مضطرة أن أصحح و أقول : بلى يا أبي إن رقة قلبي عليك بمستوى رقة قلبك علي ،و لو لم أعرف جياشة عاطفتك لقلت أكثر ، إنني أبكيك بكاء الثكلى و أحن عليك كما أحن على ابني كلما تذكرت معاناتك على مر السنين من الجور الذي أعلم كل دقائقه منذ سنين مما لا يعلم الناس عنه إلا القليل ، و يبقى رصيدا لك في كتابك ، و جمرا لي في قلبي لايفتر أبدا ، أبكيك أبا و ابنا و صديقا و حضنا و ملاذا و درعا و موجها و ملهما و مربيا ، كنت و لازلت عيني التي أرى بها و سمعي الذي أسمع به و لساني و يدي ، كنت ماضي و حاضري و مستقبلي ، لم أكن أتصور الدنيا بدونك ، منذ أن كنا صغارا في النجف عندما كنت في وقت الوجبة تعمل لنا سباقا أنا وإخوتي تجهز لقمة بيدك و تسميها (بيضة حمام) نركض بعيدا و نأتي مسرعين لنلتقمها لنعود بعد ذلك ، تمزج اللقمة بالغذاء الروحي بتوجيهاتك الجميلة الممزوجة بالعاطفة بالغذاء الفكري الذي تخصص له وقت الفجر بعد الصلاة ، و استمررت بذلك حتى آخر لحظة من حياتك حتى أصبحنا من شدة التمازج كأننا لسنا فقط أجزاء منك بل أنت ولا نقوى على الشعور بخلاف ذلك. جرحك يا أبي طري في قلبي و سيبقى لا يلتئم أبدا و لو كان الفراق لكفى ، و لكن ما يدميه دوما هو كل الألم و العذابات التي عانيتها على المدى الطويل الطويل من القريبين و البعيدين ناهيك عن رموز الظلم الكبرى ، غير أن ما قد يخفف نوعا ما من لوعة هذا الحزن هو مشاركة أبنائك من الشعب لنا هذا الحزن ،الشعب الذي أحببته من كل قلبك و عاملت أبناءه كما تعامل أعز أبنائك إن لم يزد ، ففي كل العروض التي عرضت عليك ، أن تستلم أبناءك الذين أخذوا كرهينة في مقابل التنازل عن أبناء الناس كنت ترفض بإصرار و تقول الشعب كلهم أبنائي ، كنت تضحي بكل أوقات راحتك و راحتنا – حيث تضمنا في كل أعمالك- لأجل خدمة الناس ، و إذا دار الأمر بين تقديم المنفعة لأحدنا أو لأحد من أبناء الشعب ، كنت تقدمه علينا حتى أننا نتبرم – لجهلنا – في بعض الأحيان ، و لكننا الآن نرى أن الذين شاركونا في أبوتك بل زادوا علينا ، شاركونا أيضا الآن في الحزن عليك و في الإصرار على المضي في الدرب الذي بدأته فجمعتنا في حياتك وجمعتنا في مماتك و أحرقت شمعتك لتدشن سلوك درب الجهاد ، فسلام عليك حيا و سلام عليك مع الصديقين و الشهداء ( و حسن أولئك رفيقا).
ابنتك الملتاعة : عفاف
أغبط سيدتي الزهراء على أمر- و كل ما لديها تغبط عليه – و لكنني أغبطها على أمر يهمني بقوة ، و هو لحوقها بأبيها سريعا ، نعم ذقت يا سيدتي المرارة التي ذقتها – مع فارق عظمة الشأن لديكم آل البيت – و أصبحت لا شعوريا استخدم نفس كلماتك - سيدتي – للتعبير عن حالي فأقول :( أصبحت بين كمد و غم ) ،فسلام الله عليك و على أبيك و آله الطاهرين و الطيبين .
حبيبي يا أبي :كلماتك لازالت تشنف آذاني في كل موقف و كل صغيرة و كبيرة و لا زلت أهتدي بها غير جملة واحدة كنت تقولها عندما كنت تذكر فارق رقة القلب لدى الآباء على الأبناء عنها لدى الأبناء على الآباء فتقول :( لأنهم منا ، و لسنا منهم) ،أجد نفسي مضطرة أن أصحح و أقول : بلى يا أبي إن رقة قلبي عليك بمستوى رقة قلبك علي ،و لو لم أعرف جياشة عاطفتك لقلت أكثر ، إنني أبكيك بكاء الثكلى و أحن عليك كما أحن على ابني كلما تذكرت معاناتك على مر السنين من الجور الذي أعلم كل دقائقه منذ سنين مما لا يعلم الناس عنه إلا القليل ، و يبقى رصيدا لك في كتابك ، و جمرا لي في قلبي لايفتر أبدا ، أبكيك أبا و ابنا و صديقا و حضنا و ملاذا و درعا و موجها و ملهما و مربيا ، كنت و لازلت عيني التي أرى بها و سمعي الذي أسمع به و لساني و يدي ، كنت ماضي و حاضري و مستقبلي ، لم أكن أتصور الدنيا بدونك ، منذ أن كنا صغارا في النجف عندما كنت في وقت الوجبة تعمل لنا سباقا أنا وإخوتي تجهز لقمة بيدك و تسميها (بيضة حمام) نركض بعيدا و نأتي مسرعين لنلتقمها لنعود بعد ذلك ، تمزج اللقمة بالغذاء الروحي بتوجيهاتك الجميلة الممزوجة بالعاطفة بالغذاء الفكري الذي تخصص له وقت الفجر بعد الصلاة ، و استمررت بذلك حتى آخر لحظة من حياتك حتى أصبحنا من شدة التمازج كأننا لسنا فقط أجزاء منك بل أنت ولا نقوى على الشعور بخلاف ذلك. جرحك يا أبي طري في قلبي و سيبقى لا يلتئم أبدا و لو كان الفراق لكفى ، و لكن ما يدميه دوما هو كل الألم و العذابات التي عانيتها على المدى الطويل الطويل من القريبين و البعيدين ناهيك عن رموز الظلم الكبرى ، غير أن ما قد يخفف نوعا ما من لوعة هذا الحزن هو مشاركة أبنائك من الشعب لنا هذا الحزن ،الشعب الذي أحببته من كل قلبك و عاملت أبناءه كما تعامل أعز أبنائك إن لم يزد ، ففي كل العروض التي عرضت عليك ، أن تستلم أبناءك الذين أخذوا كرهينة في مقابل التنازل عن أبناء الناس كنت ترفض بإصرار و تقول الشعب كلهم أبنائي ، كنت تضحي بكل أوقات راحتك و راحتنا – حيث تضمنا في كل أعمالك- لأجل خدمة الناس ، و إذا دار الأمر بين تقديم المنفعة لأحدنا أو لأحد من أبناء الشعب ، كنت تقدمه علينا حتى أننا نتبرم – لجهلنا – في بعض الأحيان ، و لكننا الآن نرى أن الذين شاركونا في أبوتك بل زادوا علينا ، شاركونا أيضا الآن في الحزن عليك و في الإصرار على المضي في الدرب الذي بدأته فجمعتنا في حياتك وجمعتنا في مماتك و أحرقت شمعتك لتدشن سلوك درب الجهاد ، فسلام عليك حيا و سلام عليك مع الصديقين و الشهداء ( و حسن أولئك رفيقا).
ابنتك الملتاعة : عفاف
منقول
ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف
الوسط - منصور الجمري
ذكريات النجف كثيرة، وهذه ستكون الحلقة الأخيرة... لقد كتبت الذكريات بشكل متناثر من دون تسلسل زمني؛ لأن الفكرة لم تكن لتسجيل ذكريات بتواريخ، وإنما استذكار جوانب مما كانت عليه مدينة النجف الأشرف في فترة مهمة كانت شهدت مجيء حزب البعث إلى الحكم في العام 1968. ما قبل تلك السنة لا أتذكر الكثير، كل ما أتذكره أنّا كنا نعيش في منزل آخر في حي العمارة (قبل الانتقال إلى حي الحويش لاحقاً)، وكان المنزل الأول في عقد (تقاطع) أبو الطابو... كنت صغيراً حينها، والذكريات ضعيفة... ولكني أتذكر شكل المنزل وكان لدينا جار اسمه «أبومفيد» وهو الشيخ حميد الإحسائي. وذات مرة كنت أمشي مع الوالد وفقدت الوالد وضللت الطريق.
وأثناء المشي في الطريق العام رأيت شخصاً اعتقدت أنه جارنا آنذاك الشيخ حميد الاحسائي (أبومفيد)، فتوجهت اليه وأمسكت بيديه للمشي باتجاه منزلنا... وفعلاً، وصلت إلى المنزل وكان الوالد - رحمه الله - خائفاً على مصيري، وسألني أين كنت وكيف جئت، فقلت له إني رأيت أبومفيد ومشيت معه إلى المنزل. ولكن الوالد استفسر من أبومفيد، واتضح من الحديث معه أنه لم يكن الشخص الذي مشى معي حتى اقتربت من المنزل، وكان شخصاً آخرَ من أهل الخير.
عندما كنا في «عقد أبو الطابو» سكن معنا عمي محمد - أخو الوالد ويكبره بسنتين ربما - وكان نجاراً ماهراً ويعمل في «بابكو»، ولكن الشركة أقالته لأنه أصيب بمرض الصرع، وهذا أثر كثيراً على نفسيته، فدعاه الوالد إلى السكن معه في النجف، وكان يقضي كثيراً من وقته في نجارة أبواب المنزل واحتياجاته، شريطة عدم وجودي بجنبه، إذ كان يصرخ عليّ كلما اقتربت من أدواته التي كان يعزها كثيراً.
عندما انتقلنا لاحقاً إلى عقد (تقاطع) السيد أبو الحسن في حي الحويش، كان الوالد أيضاً يجلب أحد أفراد الأسرة ليعيش معنا في هذه السنة أو تلك. وكانت جدتي (أم والدي) واسمها «طيبة» قد سكنت معنا مدة عام، وكانت طيبةً على اسمها، والوالد كان يحبها كثيراً ويلبي احتياجاتها. أيضاً سكنت معنا بنت عمي علي (مريم) مدة عام، ولكنها كانت تشتاق إلى البحرين كثيراً، وكانت بين الفترة والأخرى تقفل الباب لتبكي حسرةً على فراقها البحرين. وسكنت معنا خالتي (نجاح)، ودرست مدة عام واحد في مدرسة ابتدائية للبنات، مع أختي عفاف، وكانت المدرسة خاصةً وكانت تديرها الشهيدة بنت الهدى، أخت الشهيد الإمام محمدباقر الصدر.
في عقد (تقاطع) أبو الحسن (في الحويش) أتذكر أكثر لأني أصبحت أكبر عمراً هناك... أتذكر أنه كان يأتي عصر كل يوم بائع الآيسكريم أبوسهيلة، ويوقف عربته وينادي بصوت جميل، ونذهب لنشتري منه الآيسكريم. وسألته كيف يصنع ذلك الآيسكريم اللذيذ الذي يسميه العراقيون «دوندرمه»، فأخبرني كيف أصنعه بأسلوب مصغر. قال لي: «خذ «قوطي» كبيراً، وضع داخله «قوطي» أصغرَ منه. املأ الفراغ بين القوطيين بالثلج، وضع ملحاً فوق الثلج كيلا يذوب بسرعة. وضع داخل القوطي الداخلي حليباً وشكراً وماء ورد مقطراً، ثم اقلب القوطي الداخلي بسرعة حين تواصل (خوط) الحليب إلى أن يتحول إلى «دوندرمه»... هكذا كما أتذكر، ولقد جربتها آنذاك وتشكّل لي شيئاً يشبه «الدوندرمه»، ولكنه أبداً لم يكن مثل الذي كان يصنعه ويبيعه أبوسهيلة، ولم أواصل هواية صناعة «الدوندرمه» لأنها بدت لي متعبة، وبعد كل الجهد ينتج شيء بالكاد يكون قابلاً للتذوق!
كانت إحدى العوائل التي تسكن بالقرب منا يسمونها عائلة أبو الشربت؛ لأنهم كانوا يصنعون الشربت (شيء يشبه شراب الكراش البرتقالي ولكن من دون غاز)... وكانوا يبيعونه في سوق الحويش. كانوا يملأون القناني بالشربت، ويغلقونها بالفلين (خشب مضغوط ومرن قليلاً)، ومن ثم يضعون القناني في حاوية مملوءة بالماء والثلج. يسحبون تلك الحاوية الى سوق الحويش ويبيعون الشربت البارد على المارة بالقرب من الجامع الهندي. وكنت بعض الاحيان امشي معهم الى مكان البيع، وكانوا يمارسون المهنة كعائلة (الأخ الأكبر يأمر والأخ الأصغر ينفذ)... ومرة وصل الأخ الأصغر بالحاوية وعندما بدأ يبيع القناني اكتشف أن مغالق الفلين لم تكن محكمة ونقص مستوى الشربت منها... وبدا خائفاً من أخيه الأكبر، فما كان منه إلا أن قام بملئها بالماء المثلج الموجود بالحاوية (وهو غير نظيف لأنه يضع يده فيه ويسحب كل مرة قنينة عندما يبيعها على أحد المارة). رأيته يصنع ذلك، وقلت له: «كيف تفعل ذلك، فهذا غير صالح للشرب؟»... إلا أنه رد: «يابه شيوديني الحوش مره ثانيه هسه؟»... ومنها لم أشترِ منهم أي شربت... وبدلاً من ذلك كنت أشتري شربت «البلنكو»، وهو ماء وسكر وتوضع فيه حبيبات سوداء (تعتبر علاجاً طبيعياً)، وهذه الحبيبات يسميها البحرينيون «خاجة إبراهيم»... وكان سعر الكأس الكبيرة فلساً واحداً (نعم فَلس واحد فقط).
كان أحد جيراننا من بعيد يسمى أبوزهراء... ولكن الاطفال يركضون خلفه ويطلقون عليه لقب «الكحف»، بالكاف الفارسية... وهو كان (ربما) معوقاً قليلاً من الناحية الذهنية، وكان يرد على الأطفال: «والحسين أمك زانية...».
وعلى ذكر الحسين (ع)، فإن النجف تتحول إلى شيء آخر أيام عاشوراء، وكنت اشترك في عزاء للصغار وكانت لدينا «تكية»، وهي مأتم صغير، وكنا نشارك في المواكب، وهناك عدة أنواع من المشاركات. وكنت اسمع حينها رداديات غريبة، وكنت معجباً ببعضها. من تلك الرداديات في العزاء (مع الاعتذار إلى الإخوة العراقيين، ولكني اذكرها للتاريخ)... من تلك الرداديات كان الصغار يقولون: «ليش كتلته (قتلته) يا نغل يا كوفي»، وترد عليهم مجموعة اخرى من الصغار: «احنا كتلناه (قتلناه) وباللطم نوفي»!
وكنت احيانا ازور بيت أبوكاظم، وهي عائلة فقيرة (وصديقة لعائلتنا) تسكن في أطراف النجف (في منطقة منخفضة قريبة من شط، تسمى الشوافع)، وكانت ام كاظم أمية وتطلب مني ان اقرأ لها من اللطميات التي كان يحتويها كتاب لمؤلفه، كما اعتقد، كاظم المنظور... وكانت هي تستمع لما أقرأه وتبكي مصاب الحسين (ع).
وفي إحدى السنوات، قررت الشرطة منع موكب «المشاعل» دخول حضرة الإمام علي (ع)، وهو موكب يحمل مشاعلَ ناريةً، وكان العراقيون «يدبكون» مع المشاعل النارية في ليلة التاسع داخل الحرم... وحدثت تظاهرة خطيرة - لما يوجد من أدوات قاتلة لدى المعزين - الذين تحدوا الشرطة وبدأوا يهتفون: «دزوا خبر الكربلة (إلى كربلاء)، بالنجف صارت حادثة»... لم أشهد تلك الليلة العصيبة، ولكن سمعت أن المعزين أجبروا الشرطة على إعادة فتح أبواب الحضرة، وحينها هتفوا: «حيدر فتح بيبانه على عناد عدوانه».
حضرة الإمام علي (ع) هي المكان الذي أذهب إليه مع الوالد (وبعض الأحيان مع الوالدة) كل مساء لأداء صلاتي المغرب والعشاء. وقبل أن تدخل حضرة الإمام علي (ع) تعطي نعلك (أو حذاءك) لأحد الكيشوانية، والكيشواني هو الذي يحفظ النعل والأحذية أثناء دخول الزائر الحضرة. وعندما ندخل الحضرة، فالوالد عادة يصلي في المكان المكشوف، والوالدة في الداخل في المكان المخصص للنساء. وكنت أشارك الوالد في صلاته وفي أدعيته، ولكنه يطوّل كثيراً، فيتوفر لي وقت كثير للدوران داخل الحضرة. وهناك ترى كل مجموعة من الزوار يقودهم شخص يلبس طربوشاً (كشيدة) وهو متخصص في قراءة الزيارات مقابل أجر. وكنت اذهب مع هذه المجموعة أو تلك، وكانوا يقرأون دعاءً للسلام على النبي (ص) وجانب منه يقول: «السلام على البشير النذير، السراج المنير، الطهر الطاهر، البدر الزاهر، المنصور المؤيد...»، وكنت افرح كلما سمعت اسم (المنصور) يردده اصحاب الصوت الجميل، ومرة قاطعت أحدهم في قراءة الزيارة وقلت له: «أنا بعد اسمي منصور»، فغضب لأني قاطعته (وهو يتقاضى اجره من مجموعة من الزوار مقابل ما يقوم به)، وقال: «يابه وخر» (ابتعد من هنا).
قبل أن ينتهي الوالد من صلواته وأدعيته أكون قد وصلت إلى نهاية يومي، وكنت أرمي بنفسي بالقرب منه وأنام، وأحياناً أتظاهر بالنوم، فيضطر والدي إلى حملي على كتفه من الحضرة إلى المنزل... وفي حال كنت اتظاهر بالنوم، فإني استيقظ قبل أن يصل إلى المنزل، والوالد كان يقول لي: «أنا أدري انت ما كنت نايم».
حضرة الإمام علي (ع) كانت هي قطب الرحى، فالمرور بها أو حولها شأن يومي، وكنت عندما أعود من المدرسة اختصر بعض الأحيان المسافة وأدخل من بوابة سوق الكبير وأخرج من بوابة سوق الحويش... وعند بوابة سوق الكبير كان أحد الاشخاص (سمين الشكل) من الذين احتلوا منزلاً من منازل العراقيين الذين تم تهجيرهم لأنهم من أصل إيراني (العجم)... كان هذا الشخص يفترش قماشاً ويضع عليه أشياءً ويبيعها. وكنت أمقته لأنه يسكن في منزل ليس منزله أساساً، وأمر بالقرب منه وأردد: «تبة سمينة، تمن وقيمة» (ومعناها أن بطنه سمين بسبب أكله الرز وطبخة اللحم «القيمة») وأهرب، وكان يصرخ: «ابن المومن البحراني، أكمشك والله أكمشك...».
وعلى ذكر القيمة، فإنها من الأطباق المفضلة لدى العراقيين، وهي لذيذة ولا تشبه القيمة في البحرين التي أخذناها من الطبق الهندي... فالقيمة العراقية تستخدم اللحم المدقوق بالهاون، ولها طعم خاص جداً... وكان بعض الأطفال يرددون نشيداً متكرراً: «دلونا دلونا عالقيمة دلونا، صار إلنا سبع سنين وإحنا جواعى وميتين، دلونا دلونا عالقيمة دلونا» ولست أدري ما قصة هذا النشيد.
كنا (صغار السن في الحي) في منتصف شعبان نمر على المنازل (مثل قرقاعون البحرين) وأحد الصغار يحمل «دنبركة» وهي الطبل العراقي اليدوي (مصنوع من الفخار وإحدى فتحاته مغلقة بغشاء من الجلد)... وكان يضرب على الطبل اليدوي على حين يقف الصغار حوله بالقرب من أبواب المنازل ويرددون: «الله يخلي هذا البيت»، وترد مجموعة أخرى: «آمين»، إلى أن يخرج صاحب المنزل ويوزع شيئاً على الصغار.
أتذكر أن اسم الشيخ أحمد الوائلي كان كما يعرفه الجميع، مرتفعاً في السماء، وتتوافد الناس من كل مكان للاستماع إليه إذا حل في مكان ما. وانتشر في يوم من الأيام أنه سيقرأ في أحد الأماكن في النجف، وقرر أخي محمدجميل استخدام المسجلة الجديدة التي جئنا بها من البحرين لتسجيل ذلك المجلس الحسيني للشيخ الوائلي... وكانت المسجلة تبدو متطورةً جداً بالنسبة إلى ما هو متوافر في العراق آنذاك. غير أن هناك مشكلة، وهي أن الوائلي يكره المسجلات ويمنع التسجيل آنذاك. وقلنا فلنذهب ونخفي المسجلة وندخل ونسجل، وتوجهنا إلى مكان القراءة، وعندما وصلنا وجدنا الشيخ الوائلي جالساً على كرسي عند الباب يراقب الداخلين، ولم يكن بالإمكان إدخال المسجلة.
وعليه ذهبنا إلى شباك جانبي، ووقفنا إلى جنبه ومددنا اللاقط للتسجيل عندما بدأ الوائلي القراءة. ولكن المارة بدأوا يتوقفون وينظرون إلى ما لدينا وكيف نسجل، وبعضهم كان يتبرع بصوته وأهازيجه كي تدخل ضمن التسجيل، وبعد فترة وجيزة اكتشفنا استحالة تسجيل الوائلي بهذا الأسلوب وعدنا إلى المنزل من دون إكمال الاستماع اليه أو تسجيله.
مرةً كنت في مجلس الوالد - رحمه الله - وكان يتحدث مع بعض علماء الدين البحارنة، وكانوا يتحدثون عن «الأخبار» و «الأصول»... وبعد أن انتهوا سألته: «ماذا يعني الأخبار والأصول؟ ومن هم الأخباريون؟ ومن هم الأصوليون؟»، فابتسم الوالد وقال: «شيعة البحرين أكثرهم أخباريون، وشيعة العراق أكثرهم أصوليون... بس هذا الكلام لاتردده في المدرسة، هذا فقط لطلبة العلم».
الزيارة التي قام بها المغفور له سمو أمير البلاد الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة للنجف مازالت محفورةً في ذهني. فقد زار النجف الأشرف قبل إجراء الاستفتاء على استقلال البحرين (الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة وأجري في مارس/ آذار 1970) ربما أن الزيارة كانت في العام 1968 أو بعد ذلك بقليل. فقبل إجراء الاستفتاء للتعرف إلى رغبة البحرينيين في إذا ما كانوا يودون دولة عربية مستقلة أو الالتحاق بإيران، زار الأمير الراحل النجف الأشرف والتقى الإمام محسن الحكيم الذي كان له أثر كبير على المسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم. ولدى وصوله إلى النجف الأشرف قام أيضاً بزيارة حضرة الإمام علي (ع) وكنت مع زوج خالتي (ميرزا سعيد العرب) مع الذين وقفوا عند بوابة حضرة الإمام علي (ع) (المواجهة للسوق الكبير) ننتظر وصول الأمير. ولكن لصغري لم أستطع رؤيته فقام زوج خالتي برفعي على كتفه إلى الأعلى لرؤية الأمير وهو ينزع سلاحه الأبيض (الخنجر) قبل دخوله الحضرة وذلك احتراماً للإمام علي (ع).
بعد سنوات من تلك الزيارة عرفت تفاصيلَ أكثرَ عمّا دار بين الإمام الحكيم والأمير الراحل عندما التقيت ابنه السيدمهدي الحكيم في ثمانينات القرن الماضي في لندن قبل أن يتم اغتياله في الخرطوم في نهاية الثمانينات. فقد كان السيدمهدي يعيش في لندن آنذاك وفي أحد اللقاءات التي جمعتني معه قال لي إنه كان المرافق الرسمي للأمير الراحل أثناء زيارته وذكر تفاصيلَ عن اللقاءات والحوارات التي دارت آنذاك.
ومن تلك الحوارات ما نقله عن تأكيد الأمير مساواته البحرينيين بغض النظر عن مذهبهم، وأن حماية الشيعة وحقوقهم أمانة يتحمّلها، ودليل ذلك - بحسب ماذكره السيدمهدي - أن الحسينية التي كانت قد شيدت في مدينة عيسى (كانت المدينة جديدة للتو) كانت على نفقة الأمير. كما أن السيدعلي كمال الدين الذي غادر البحرين في نهاية الخمسينات بعد اشتراكه في قيادة انتفاضة 1954 - 1956 استطاع العودة إلى البحرين بعد زيارة الأمير النجف. وقد رد الأمير الراحل الشكر للحكيم لاحقاً عندما أصبح السيدمهدي مطلوباً للسلطات العراقية؛ ما اضطره إلى الهروب خارج بلاده وزار البحرين واستُقبل بحفاوة، وبقي فترة وجيزة وبعدها غادر إلى الإمارات، وبقي فترةً أطولَ هناك، ومن ثم انتقل إلى باكستان، وفي مطلع الثمانينات انتقل إلى لندن، وتم اغتياله في نهاية الثمانينات أثناء زيارته الخرطوم لحضور مؤتمر.
أخبار مفرحة كانت في انتظارنا في العام 1973. آنذاك كان جدي (من طرف والدتي) الملا عطية بن علي الجمري في النجف وألح على الوالد للرجوع للترشيح للمجلس الوطني. أما أنا فكان هذا أفضل خبر تسلمته على الإطلاق، فالبحرين بالنسبة إليّ «الحرية» و «الفرح الدائم».
بدأنا ضبط أغراضنا ما استطعنا وحزمنا الحقائب واتجهنا للسفر بالطائرة بدلاً من السفر بالبر والبحر الذي كان يعتبر مجازفة في كل مرة. ففي كل رحلة برية وبحرية نمر بتجارب بعضها مضحك وبضعها مخيف ومرعب. منزلنا في النجف بقي ملكاً للوالد ولكن لانعرف عنه شيئاً الآن بعد كل ماحدث في العراق، ولانعرف ان كان قد شمله «القص» وهي الخطة التي نفذها حزب البعث لتدمير حي العمارة، وأجزاء كبيرة من الأحياء الأخرى.
تركنا النجف في 1973، بعد أحد عشر عاماً هي فترة دراسة الوالد، وأحمد الله كثيراً وأفرح كلما أتذكر خبر العودة إلى البحرين... إلى بني جمرة.
الوسط - منصور الجمري
ذكريات النجف كثيرة، وهذه ستكون الحلقة الأخيرة... لقد كتبت الذكريات بشكل متناثر من دون تسلسل زمني؛ لأن الفكرة لم تكن لتسجيل ذكريات بتواريخ، وإنما استذكار جوانب مما كانت عليه مدينة النجف الأشرف في فترة مهمة كانت شهدت مجيء حزب البعث إلى الحكم في العام 1968. ما قبل تلك السنة لا أتذكر الكثير، كل ما أتذكره أنّا كنا نعيش في منزل آخر في حي العمارة (قبل الانتقال إلى حي الحويش لاحقاً)، وكان المنزل الأول في عقد (تقاطع) أبو الطابو... كنت صغيراً حينها، والذكريات ضعيفة... ولكني أتذكر شكل المنزل وكان لدينا جار اسمه «أبومفيد» وهو الشيخ حميد الإحسائي. وذات مرة كنت أمشي مع الوالد وفقدت الوالد وضللت الطريق.
وأثناء المشي في الطريق العام رأيت شخصاً اعتقدت أنه جارنا آنذاك الشيخ حميد الاحسائي (أبومفيد)، فتوجهت اليه وأمسكت بيديه للمشي باتجاه منزلنا... وفعلاً، وصلت إلى المنزل وكان الوالد - رحمه الله - خائفاً على مصيري، وسألني أين كنت وكيف جئت، فقلت له إني رأيت أبومفيد ومشيت معه إلى المنزل. ولكن الوالد استفسر من أبومفيد، واتضح من الحديث معه أنه لم يكن الشخص الذي مشى معي حتى اقتربت من المنزل، وكان شخصاً آخرَ من أهل الخير.
عندما كنا في «عقد أبو الطابو» سكن معنا عمي محمد - أخو الوالد ويكبره بسنتين ربما - وكان نجاراً ماهراً ويعمل في «بابكو»، ولكن الشركة أقالته لأنه أصيب بمرض الصرع، وهذا أثر كثيراً على نفسيته، فدعاه الوالد إلى السكن معه في النجف، وكان يقضي كثيراً من وقته في نجارة أبواب المنزل واحتياجاته، شريطة عدم وجودي بجنبه، إذ كان يصرخ عليّ كلما اقتربت من أدواته التي كان يعزها كثيراً.
عندما انتقلنا لاحقاً إلى عقد (تقاطع) السيد أبو الحسن في حي الحويش، كان الوالد أيضاً يجلب أحد أفراد الأسرة ليعيش معنا في هذه السنة أو تلك. وكانت جدتي (أم والدي) واسمها «طيبة» قد سكنت معنا مدة عام، وكانت طيبةً على اسمها، والوالد كان يحبها كثيراً ويلبي احتياجاتها. أيضاً سكنت معنا بنت عمي علي (مريم) مدة عام، ولكنها كانت تشتاق إلى البحرين كثيراً، وكانت بين الفترة والأخرى تقفل الباب لتبكي حسرةً على فراقها البحرين. وسكنت معنا خالتي (نجاح)، ودرست مدة عام واحد في مدرسة ابتدائية للبنات، مع أختي عفاف، وكانت المدرسة خاصةً وكانت تديرها الشهيدة بنت الهدى، أخت الشهيد الإمام محمدباقر الصدر.
في عقد (تقاطع) أبو الحسن (في الحويش) أتذكر أكثر لأني أصبحت أكبر عمراً هناك... أتذكر أنه كان يأتي عصر كل يوم بائع الآيسكريم أبوسهيلة، ويوقف عربته وينادي بصوت جميل، ونذهب لنشتري منه الآيسكريم. وسألته كيف يصنع ذلك الآيسكريم اللذيذ الذي يسميه العراقيون «دوندرمه»، فأخبرني كيف أصنعه بأسلوب مصغر. قال لي: «خذ «قوطي» كبيراً، وضع داخله «قوطي» أصغرَ منه. املأ الفراغ بين القوطيين بالثلج، وضع ملحاً فوق الثلج كيلا يذوب بسرعة. وضع داخل القوطي الداخلي حليباً وشكراً وماء ورد مقطراً، ثم اقلب القوطي الداخلي بسرعة حين تواصل (خوط) الحليب إلى أن يتحول إلى «دوندرمه»... هكذا كما أتذكر، ولقد جربتها آنذاك وتشكّل لي شيئاً يشبه «الدوندرمه»، ولكنه أبداً لم يكن مثل الذي كان يصنعه ويبيعه أبوسهيلة، ولم أواصل هواية صناعة «الدوندرمه» لأنها بدت لي متعبة، وبعد كل الجهد ينتج شيء بالكاد يكون قابلاً للتذوق!
كانت إحدى العوائل التي تسكن بالقرب منا يسمونها عائلة أبو الشربت؛ لأنهم كانوا يصنعون الشربت (شيء يشبه شراب الكراش البرتقالي ولكن من دون غاز)... وكانوا يبيعونه في سوق الحويش. كانوا يملأون القناني بالشربت، ويغلقونها بالفلين (خشب مضغوط ومرن قليلاً)، ومن ثم يضعون القناني في حاوية مملوءة بالماء والثلج. يسحبون تلك الحاوية الى سوق الحويش ويبيعون الشربت البارد على المارة بالقرب من الجامع الهندي. وكنت بعض الاحيان امشي معهم الى مكان البيع، وكانوا يمارسون المهنة كعائلة (الأخ الأكبر يأمر والأخ الأصغر ينفذ)... ومرة وصل الأخ الأصغر بالحاوية وعندما بدأ يبيع القناني اكتشف أن مغالق الفلين لم تكن محكمة ونقص مستوى الشربت منها... وبدا خائفاً من أخيه الأكبر، فما كان منه إلا أن قام بملئها بالماء المثلج الموجود بالحاوية (وهو غير نظيف لأنه يضع يده فيه ويسحب كل مرة قنينة عندما يبيعها على أحد المارة). رأيته يصنع ذلك، وقلت له: «كيف تفعل ذلك، فهذا غير صالح للشرب؟»... إلا أنه رد: «يابه شيوديني الحوش مره ثانيه هسه؟»... ومنها لم أشترِ منهم أي شربت... وبدلاً من ذلك كنت أشتري شربت «البلنكو»، وهو ماء وسكر وتوضع فيه حبيبات سوداء (تعتبر علاجاً طبيعياً)، وهذه الحبيبات يسميها البحرينيون «خاجة إبراهيم»... وكان سعر الكأس الكبيرة فلساً واحداً (نعم فَلس واحد فقط).
كان أحد جيراننا من بعيد يسمى أبوزهراء... ولكن الاطفال يركضون خلفه ويطلقون عليه لقب «الكحف»، بالكاف الفارسية... وهو كان (ربما) معوقاً قليلاً من الناحية الذهنية، وكان يرد على الأطفال: «والحسين أمك زانية...».
وعلى ذكر الحسين (ع)، فإن النجف تتحول إلى شيء آخر أيام عاشوراء، وكنت اشترك في عزاء للصغار وكانت لدينا «تكية»، وهي مأتم صغير، وكنا نشارك في المواكب، وهناك عدة أنواع من المشاركات. وكنت اسمع حينها رداديات غريبة، وكنت معجباً ببعضها. من تلك الرداديات في العزاء (مع الاعتذار إلى الإخوة العراقيين، ولكني اذكرها للتاريخ)... من تلك الرداديات كان الصغار يقولون: «ليش كتلته (قتلته) يا نغل يا كوفي»، وترد عليهم مجموعة اخرى من الصغار: «احنا كتلناه (قتلناه) وباللطم نوفي»!
وكنت احيانا ازور بيت أبوكاظم، وهي عائلة فقيرة (وصديقة لعائلتنا) تسكن في أطراف النجف (في منطقة منخفضة قريبة من شط، تسمى الشوافع)، وكانت ام كاظم أمية وتطلب مني ان اقرأ لها من اللطميات التي كان يحتويها كتاب لمؤلفه، كما اعتقد، كاظم المنظور... وكانت هي تستمع لما أقرأه وتبكي مصاب الحسين (ع).
وفي إحدى السنوات، قررت الشرطة منع موكب «المشاعل» دخول حضرة الإمام علي (ع)، وهو موكب يحمل مشاعلَ ناريةً، وكان العراقيون «يدبكون» مع المشاعل النارية في ليلة التاسع داخل الحرم... وحدثت تظاهرة خطيرة - لما يوجد من أدوات قاتلة لدى المعزين - الذين تحدوا الشرطة وبدأوا يهتفون: «دزوا خبر الكربلة (إلى كربلاء)، بالنجف صارت حادثة»... لم أشهد تلك الليلة العصيبة، ولكن سمعت أن المعزين أجبروا الشرطة على إعادة فتح أبواب الحضرة، وحينها هتفوا: «حيدر فتح بيبانه على عناد عدوانه».
حضرة الإمام علي (ع) هي المكان الذي أذهب إليه مع الوالد (وبعض الأحيان مع الوالدة) كل مساء لأداء صلاتي المغرب والعشاء. وقبل أن تدخل حضرة الإمام علي (ع) تعطي نعلك (أو حذاءك) لأحد الكيشوانية، والكيشواني هو الذي يحفظ النعل والأحذية أثناء دخول الزائر الحضرة. وعندما ندخل الحضرة، فالوالد عادة يصلي في المكان المكشوف، والوالدة في الداخل في المكان المخصص للنساء. وكنت أشارك الوالد في صلاته وفي أدعيته، ولكنه يطوّل كثيراً، فيتوفر لي وقت كثير للدوران داخل الحضرة. وهناك ترى كل مجموعة من الزوار يقودهم شخص يلبس طربوشاً (كشيدة) وهو متخصص في قراءة الزيارات مقابل أجر. وكنت اذهب مع هذه المجموعة أو تلك، وكانوا يقرأون دعاءً للسلام على النبي (ص) وجانب منه يقول: «السلام على البشير النذير، السراج المنير، الطهر الطاهر، البدر الزاهر، المنصور المؤيد...»، وكنت افرح كلما سمعت اسم (المنصور) يردده اصحاب الصوت الجميل، ومرة قاطعت أحدهم في قراءة الزيارة وقلت له: «أنا بعد اسمي منصور»، فغضب لأني قاطعته (وهو يتقاضى اجره من مجموعة من الزوار مقابل ما يقوم به)، وقال: «يابه وخر» (ابتعد من هنا).
قبل أن ينتهي الوالد من صلواته وأدعيته أكون قد وصلت إلى نهاية يومي، وكنت أرمي بنفسي بالقرب منه وأنام، وأحياناً أتظاهر بالنوم، فيضطر والدي إلى حملي على كتفه من الحضرة إلى المنزل... وفي حال كنت اتظاهر بالنوم، فإني استيقظ قبل أن يصل إلى المنزل، والوالد كان يقول لي: «أنا أدري انت ما كنت نايم».
حضرة الإمام علي (ع) كانت هي قطب الرحى، فالمرور بها أو حولها شأن يومي، وكنت عندما أعود من المدرسة اختصر بعض الأحيان المسافة وأدخل من بوابة سوق الكبير وأخرج من بوابة سوق الحويش... وعند بوابة سوق الكبير كان أحد الاشخاص (سمين الشكل) من الذين احتلوا منزلاً من منازل العراقيين الذين تم تهجيرهم لأنهم من أصل إيراني (العجم)... كان هذا الشخص يفترش قماشاً ويضع عليه أشياءً ويبيعها. وكنت أمقته لأنه يسكن في منزل ليس منزله أساساً، وأمر بالقرب منه وأردد: «تبة سمينة، تمن وقيمة» (ومعناها أن بطنه سمين بسبب أكله الرز وطبخة اللحم «القيمة») وأهرب، وكان يصرخ: «ابن المومن البحراني، أكمشك والله أكمشك...».
وعلى ذكر القيمة، فإنها من الأطباق المفضلة لدى العراقيين، وهي لذيذة ولا تشبه القيمة في البحرين التي أخذناها من الطبق الهندي... فالقيمة العراقية تستخدم اللحم المدقوق بالهاون، ولها طعم خاص جداً... وكان بعض الأطفال يرددون نشيداً متكرراً: «دلونا دلونا عالقيمة دلونا، صار إلنا سبع سنين وإحنا جواعى وميتين، دلونا دلونا عالقيمة دلونا» ولست أدري ما قصة هذا النشيد.
كنا (صغار السن في الحي) في منتصف شعبان نمر على المنازل (مثل قرقاعون البحرين) وأحد الصغار يحمل «دنبركة» وهي الطبل العراقي اليدوي (مصنوع من الفخار وإحدى فتحاته مغلقة بغشاء من الجلد)... وكان يضرب على الطبل اليدوي على حين يقف الصغار حوله بالقرب من أبواب المنازل ويرددون: «الله يخلي هذا البيت»، وترد مجموعة أخرى: «آمين»، إلى أن يخرج صاحب المنزل ويوزع شيئاً على الصغار.
أتذكر أن اسم الشيخ أحمد الوائلي كان كما يعرفه الجميع، مرتفعاً في السماء، وتتوافد الناس من كل مكان للاستماع إليه إذا حل في مكان ما. وانتشر في يوم من الأيام أنه سيقرأ في أحد الأماكن في النجف، وقرر أخي محمدجميل استخدام المسجلة الجديدة التي جئنا بها من البحرين لتسجيل ذلك المجلس الحسيني للشيخ الوائلي... وكانت المسجلة تبدو متطورةً جداً بالنسبة إلى ما هو متوافر في العراق آنذاك. غير أن هناك مشكلة، وهي أن الوائلي يكره المسجلات ويمنع التسجيل آنذاك. وقلنا فلنذهب ونخفي المسجلة وندخل ونسجل، وتوجهنا إلى مكان القراءة، وعندما وصلنا وجدنا الشيخ الوائلي جالساً على كرسي عند الباب يراقب الداخلين، ولم يكن بالإمكان إدخال المسجلة.
وعليه ذهبنا إلى شباك جانبي، ووقفنا إلى جنبه ومددنا اللاقط للتسجيل عندما بدأ الوائلي القراءة. ولكن المارة بدأوا يتوقفون وينظرون إلى ما لدينا وكيف نسجل، وبعضهم كان يتبرع بصوته وأهازيجه كي تدخل ضمن التسجيل، وبعد فترة وجيزة اكتشفنا استحالة تسجيل الوائلي بهذا الأسلوب وعدنا إلى المنزل من دون إكمال الاستماع اليه أو تسجيله.
مرةً كنت في مجلس الوالد - رحمه الله - وكان يتحدث مع بعض علماء الدين البحارنة، وكانوا يتحدثون عن «الأخبار» و «الأصول»... وبعد أن انتهوا سألته: «ماذا يعني الأخبار والأصول؟ ومن هم الأخباريون؟ ومن هم الأصوليون؟»، فابتسم الوالد وقال: «شيعة البحرين أكثرهم أخباريون، وشيعة العراق أكثرهم أصوليون... بس هذا الكلام لاتردده في المدرسة، هذا فقط لطلبة العلم».
الزيارة التي قام بها المغفور له سمو أمير البلاد الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة للنجف مازالت محفورةً في ذهني. فقد زار النجف الأشرف قبل إجراء الاستفتاء على استقلال البحرين (الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة وأجري في مارس/ آذار 1970) ربما أن الزيارة كانت في العام 1968 أو بعد ذلك بقليل. فقبل إجراء الاستفتاء للتعرف إلى رغبة البحرينيين في إذا ما كانوا يودون دولة عربية مستقلة أو الالتحاق بإيران، زار الأمير الراحل النجف الأشرف والتقى الإمام محسن الحكيم الذي كان له أثر كبير على المسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم. ولدى وصوله إلى النجف الأشرف قام أيضاً بزيارة حضرة الإمام علي (ع) وكنت مع زوج خالتي (ميرزا سعيد العرب) مع الذين وقفوا عند بوابة حضرة الإمام علي (ع) (المواجهة للسوق الكبير) ننتظر وصول الأمير. ولكن لصغري لم أستطع رؤيته فقام زوج خالتي برفعي على كتفه إلى الأعلى لرؤية الأمير وهو ينزع سلاحه الأبيض (الخنجر) قبل دخوله الحضرة وذلك احتراماً للإمام علي (ع).
بعد سنوات من تلك الزيارة عرفت تفاصيلَ أكثرَ عمّا دار بين الإمام الحكيم والأمير الراحل عندما التقيت ابنه السيدمهدي الحكيم في ثمانينات القرن الماضي في لندن قبل أن يتم اغتياله في الخرطوم في نهاية الثمانينات. فقد كان السيدمهدي يعيش في لندن آنذاك وفي أحد اللقاءات التي جمعتني معه قال لي إنه كان المرافق الرسمي للأمير الراحل أثناء زيارته وذكر تفاصيلَ عن اللقاءات والحوارات التي دارت آنذاك.
ومن تلك الحوارات ما نقله عن تأكيد الأمير مساواته البحرينيين بغض النظر عن مذهبهم، وأن حماية الشيعة وحقوقهم أمانة يتحمّلها، ودليل ذلك - بحسب ماذكره السيدمهدي - أن الحسينية التي كانت قد شيدت في مدينة عيسى (كانت المدينة جديدة للتو) كانت على نفقة الأمير. كما أن السيدعلي كمال الدين الذي غادر البحرين في نهاية الخمسينات بعد اشتراكه في قيادة انتفاضة 1954 - 1956 استطاع العودة إلى البحرين بعد زيارة الأمير النجف. وقد رد الأمير الراحل الشكر للحكيم لاحقاً عندما أصبح السيدمهدي مطلوباً للسلطات العراقية؛ ما اضطره إلى الهروب خارج بلاده وزار البحرين واستُقبل بحفاوة، وبقي فترة وجيزة وبعدها غادر إلى الإمارات، وبقي فترةً أطولَ هناك، ومن ثم انتقل إلى باكستان، وفي مطلع الثمانينات انتقل إلى لندن، وتم اغتياله في نهاية الثمانينات أثناء زيارته الخرطوم لحضور مؤتمر.
أخبار مفرحة كانت في انتظارنا في العام 1973. آنذاك كان جدي (من طرف والدتي) الملا عطية بن علي الجمري في النجف وألح على الوالد للرجوع للترشيح للمجلس الوطني. أما أنا فكان هذا أفضل خبر تسلمته على الإطلاق، فالبحرين بالنسبة إليّ «الحرية» و «الفرح الدائم».
بدأنا ضبط أغراضنا ما استطعنا وحزمنا الحقائب واتجهنا للسفر بالطائرة بدلاً من السفر بالبر والبحر الذي كان يعتبر مجازفة في كل مرة. ففي كل رحلة برية وبحرية نمر بتجارب بعضها مضحك وبضعها مخيف ومرعب. منزلنا في النجف بقي ملكاً للوالد ولكن لانعرف عنه شيئاً الآن بعد كل ماحدث في العراق، ولانعرف ان كان قد شمله «القص» وهي الخطة التي نفذها حزب البعث لتدمير حي العمارة، وأجزاء كبيرة من الأحياء الأخرى.
تركنا النجف في 1973، بعد أحد عشر عاماً هي فترة دراسة الوالد، وأحمد الله كثيراً وأفرح كلما أتذكر خبر العودة إلى البحرين... إلى بني جمرة.
منقول
ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف
الوسط - منصور الجمري
حادثة أخرى مع المدرس ذاته حدثت معي. فقد قرر الوالد أن يأخذني معه إلى البحرين في فترة أحد المواسم وهذا تطلب مني أن أغيب عن المدرسة، وكان الوالد يعود إلى البحرين من أجل ممارسة مهنة القراءة في المآتم الحسينية، وهي الوسيلة التي يستطيع من خلالها توفير جانب من المال الذي يحتاج إليه لمواصلة دراسته وحياته في النجف الأشرف. عندما عدت إلى النجف وذهبت إلى المدرسة، استقبلني المدرس المذكور في اليوم الأول، وكان غاضباً مني وقال: «أين الصوغة؟»، والصوغة هي الهدية. خفت منه، وقلت له: «إن شاء الله». في اليوم التالي، جاء إليّ وكرر الطلب: «الصوغة وينها؟»... عندها أخبرت والدتي بأن المدرس سيضربني أو سيسقطني إذا لم أعطه «صوغة».
وعليه بدأنا نفكر في شيء من الأشياء التي جاء بها الوالد من البحرين لكي نعطيه المدرس. بعد تفكير طويل، تذكرت الوالدة أن أخي الأكبر محمد جميل لديه قلم حبر جلبه الوالد له من البحرين، وهو يحب الكتابة باستخدام أقلام الحبر التي كانت تحتاج إلى عناية خاصة وإلى محبرة، وشكلها من الداخل يشبه الإبر الطبية القديمة إذ إن مستخدمها يحتاج إلى شفط الحبر كلما استهلك مابها من حبر في الكتابة.
وبعد حديث مطول اقتنع محمد جميل بضرورة إنقاذ الموقف، وتخلى عن قلمه الذي كان يعزه، وجاءت الوالدة «بطاسة» ماء كبيرة، وقمت بتنظيفه عبر سحب الماء إلى الداخل ومن ثم إخراجه مرات عدة إلى أن نظف القلم من لون الحبر وبدا وكأنه جديد. في اليوم التالي ذهبت مسرعاً إلى المدرس وقلت له «تفضل هذه هي الصوغة « وفرح بالقلم كثيراً، واطمأننت على نفسي من غضبه، وهو لم يغضب مني بعد ذلك أبداً.
أتذكر أنه في تلك الفترة أيضاً كنت ألعب مع أخي محمد جميل واختي عفاف، ولكن عفاف فضلت أن تلعب مع جميل وتتركني، وقام بعد ذلك جميل بتعييري بأن عفاف تفضل اللعب معه، وهذا أدى إلى بكائي وذهابي إلى الوالدة للشكوى، وهي كانت حينها مشغولة، فقالت لي «إذا عاندك افلعه». وبالفعل، قام «بمعاندتي» مرة اخرى، وبدلاً من اللجوء إلى البكاء حملت علبة حفظ نظارات الوالد رحمه الله (وكانت من النوع الثقيل) ورفعتها عالياً ورميتها بقوة على وجهه فأصابته في جبينه وخرج الدم من موقع الضربة، وهرعت الوالدة بعد أن سمعت الضوضاء وذهبت لمعالجة جميل وإيقاف الدم من جبينه، وهي تصرخ في وجهي «ويش سويت؟»، فقلت لها «أنت قلت افلعه إذا عاندك»، فردت عليّ «ولكن مو بهذا الشكل!».
أتذكر أيضاً أنني كنت قد قررت أن أصوم وأنا في عمر التاسعة، ولكن الجوع والعطش كانا ينهكاني وأنا أحتاج الذهاب إلى المدرسة ظهراً في بعض الأيام (المدرسة مزدحمة وكنا نداوم أحياناً في الصبح وأحياناً بعد الظهر)، فحاولت الوالدة إقناعي بأن أأكل وأشرب قليلا، ولكنني رفضت، وجانب من ذلك بسبب الإصرار على المنافسة مع أخي الأكبر والأصدقاء من أبناء البحارنة في المدرسة. لكن الوالدة كانت تعد لي كأساً من «الفيمتو» وتدخلني إلى المطبخ بالخفية (لكي لايراني جميل)، وتعطيني لكي أشرب، وكنت سأقاوم الشرب، لولا أنه كان شرابي المفضل آنذاك، الفيمتو!
ومن الذكريات اشتراكي في الكشافة، ولكن الكشافة في النجف ليست كالكشافة في البحرين. فقد كانت عبارة عن تدريب على المشي العسكري على نغم الموسيقى العسكرية مع أوامر تصدر بوسيلة «الصراخ المرتفع» من الأستاذ المسئول «يس... يم»، بمعنى قدم الرجل اليسرى، أو اليمنى... والاستاذ كان يتعامل معنا كما يتعامل العسكري مع فرقة مشاة.
وهذه الكشافة لا تخرج من المدرسة إلا في احتفال سنوي في يوم الجيش أو يوم آخر لا أتذكره، إذ كانت فرق الكشافة تتوجه إلى ملعب كبير تحت نغم الموسيقى العسكرية ضمن استعراضات عامة تشارك فيها المدارس. كما كنت في إحدى السنوات مشاركاً في «لوحة الشرف»، وهي استعراضات رياضية، وجميع هذه المشاركات كانت منسقة على مستوى المدارس كلها، وكانت هناك مسابقات سنوية بين جميع المدارس.
ومرة قرر الوالد العودة بجميع أفراد العائلة (على ما أعتقد لكي يقرأ في رمضان في البحرين)، ولكن محمد جميل لم يستطع المجيء معنا إلى البحرين، لأن لديه دراسة لايستطيع تركها، وعليه اتفق الوالد - رحمه الله - مع الشيخ عيسى أحمد قاسم أن يبقى جميل معه في النجف أثناء تلك الفترة. الوالدة ذهبت إلى السوق واشترت أشياء كثيرة إلى محمدجميل، ما جعلني أزعل، وطلبت منها أن تشتري لي كل ما اشترته إلى أخي بالتمام والكمال... غير أنها قالت لي «جميل سيبقى هنا في النجف وأنت ستأتي معنا إلى البحرين، والبحرين فيها كل الأشياء التي تحبها وهناك نشتري لك ماتريد». وبعد عدة أيام من الحن والزن اقتنعت بما قالته أمي، وتنازلت عن مطالبتي بالمساواة مع أخي، وذلك لأنه بالفعل عندما نكون في البحرين فقد كان يبدو لي أن البحرين فيها الكثير، بل أنه عندما كنت أعود إلى البحرين لا أريد أن أذهب إلى النجف مرة أخرى، على رغم أن الأهل والأصدقاء في بني جمرة كانوا يعيبون عليّ لهجتي التي تغلب عليها اللكنة العراقية في أكثر الأحيان. البحرين كانت بالنسبة لي قمة السعادة وفيها كنت أوجد بين أهلي وأصدقائي، والمنازل المحيطة بنا في بني جمرة مفتوحة طوال النهار وأدخل أي منزل، وهذا بعكس النجف التي لم نكن نذهب إلى مكان آخر متى ما شئنا وكيفما شئنا، وأبواب منازل النجف موصدة في كل الأوقات. بعد المقارنة بين البقاء في النجف والحصول على ماحصل عليه جميل، أو العودة إلى البحرين رضت نفسي كثيراً بالعودة إلى البحرين.
ومن الأمور التي اعتدت عليها في النجف هو شراء الحليب صباح كل يوم. فقد كانت والدتي ترسلني أحياناً لشراء الحليب، والحليب تبيعه مجموعة من النسوة يجلبن بقرهن إلى أماكن محددة ويحلبن البقر مباشرة ويبعن الحليب للمشترين. وفي الصباح الباكر يبيع العراقيون «المأكولات» المصنعة محلياً وهذه الوجبات لها خاصيتها التي تفوق جودتها أي مكان آخر. وجميع تلك المأكولات يمكن شراؤها بأسعار رخيصة لاعتماد الناس عليها في غذائهم اليومي ولوفرتها أيضاً... وفي كل ساعة من النهار يتوافر نوع من الأكل. في الفجر مع الأذان تحصل على الهريسة النجفية. بعد أذان الصبح تحصل على الجبن الأبيض وعلى الصمون وعلى القيمر والمربى - القيمر مصنوع من حليب الجاموس وهو من ألذ الأنواع، وفي الضحى ستحصل على اللبن والتمر وعلى الصمون مع الطرشي، وشراب الشوندر... في الظهر تحصل على الأكلات التي تناسب وجبات الغذاء، وفي الليل تبدأ مشاوي الكبدة واللحم بشكل مكثف بالقرب من حضرة الإمام علي (ع)... الخ.
ولحبنا للقيمر النجفي، فإن الوالدة استمرت في استخراج شيء يشبهه من حليب البقر (لا يوجد جاموس في البحرين) بعد رجوعنا، وكنا نستيقظ على جملة للوالدة «سبق لبق»، ومعناها أن من يستيقظ قبل غيره يستطيع أن يتذوق شيئاً يشبه قيمر النجف.
الشراء في أواخر أيام النجف كان بالأسلوبين القديم والجديد... ففي آخر فترة كنا فيها افتتح في النجف محل حديث كنا نعرفه باسم «أوريزديباك»، ووضع هذا المتجر الحديث إعلاناً يقول بأنه لايبيع أي شيء أقل من 25 فلساً... والخمسة والعشرين فلساً العراقية كانت تفعل أشياء مهمة، وكنت أسمع من يردد «شنو هاي يابه، مستغربين غلائه!
إلا أن حزب البعث شوه المجتمع العراقي كثيراً. ومثال ذلك أحد جيراننا (المذكور آنفاً) الذي كان لابساً العمامة وطالباً في الحوزة الدينية، ولكن فجأة نزع العمامة وأطال شعره ولبس البنطلون الذي كان ضيقاً من أعلى، وفسيحاً من الأسفل بحيث يغطي كل القدم، وكان النجفيون يطلقون مسمى «تشارلستون» على البنطلون. وهذا المسكين نزع العمامة ولبس بنطلون الموضة وسجل في البعث، ولكن انتهى أمره مهجراً على الحدود العراقية - الإيرانية مع عائلته.
الخدمات العامة كانت قليلة والناس تعتمد على بعضها بعضاً. فالأطباء موجودون ولكنه طب خاص، كما أن الأطباء «الشعبيين» كانوا موجودين ويمارسون مهنة الطب القديم المخلوط بالطب الحديث. وكنت قد شارفت على الموت ذات مرة وازدادت درجة الحرارة بصورة حرجة وكان والدي ينقلني من طبيب إلى طبيب حتى أنهم يئسوا من شفائي، وقام والدي بتوجيهي جهة القبلة لاعتقاده بأنني لن أعيش بعدها، غير أنه توجه بالدعاء ونذر لي، وبحسب رواية الوالد، كان اليوم التالي لدعائه بداية التحسن والشفاء.
كنا بين فترة وأخرى نسافر إلى العتبات المقدسة الأخرى مثل الكاظمية وكربلاء والكوفة وغيرها من المناطق. والسفر إلى تلك الأماكن كان متعة بحد ذاته، وكنت اختار إحدى اللهجتين إما لهجة أهل البحرين أو اللهجة العراقية النجفية بحسب الحاجة. فقد كنا نلتقي بأناس كثيرين من البحرين ومن المفضل أن لا أكون عرضة لتعليقاتهم ولذلك فإني كنت أحاول الابتعاد عن اللهجة العراقية. ولكن إذا تعاملت مع العراقيين فمن الأفضل أن التزم باللهجة النجفية لأن أهل النجف لهم احترام وهيبة...
وفي ذات مرة كنت في الكاظمية وكان أخي صادق يلعب بـ «قواطي» (علب) فارغة وهو واقف بجانب شباك، وحدث أن وقع أحد تلك «القواطي» الصغيرة من النافذة بالقرب من امرأة عراقية، وكانت تعلم أن أناساً من البحرين يسكنون تلك العمارة في العادة. فانهالت على أخي بالشتم والصراخ ولم تتوقف بل إنها كانت تصعد لهجتها وتطالب بالتعويض على رغم أن «القوطي» وقع بالقرب من رجلها وليس عليها ولم يجرحها ولم يؤذها...
كنت حينها أحاول إقناع أمي أن تعطيني بعض المال لشراء شيء ما، ولكن كلام المرأة الكظماوية كان مرتفعاً جداً لأن الشباك ليس بعيداً عن الأرض والطابق الأول (الذي كنا فيه) منخفض نسبياً... عندها ذهبت إلى الشباك لأعرف سبب الصراخ، ولكن المرأة ازدادت صراخاً عندما رأتني. كانت لدى صادق قوطية فارغة أخرى، فأخذتها وتوجهت إلى حافة الشباك وبدأت أصرخ على المرأة التي استغربت أن صبياً (كنت ربما في العاشرة) يرد عليها صراخها. ومن الكلام الذي رميته عليها «خالة شكو؟ شتريدين ... امشي هسه لا يجيك قوطي على راسك... امشي...». المرأة خافت وقالت «انتو النجفيين هوايا وكحين...» وهكذا انتهى صراخها علينا لأنها اعتقدت بأننا «نجفيين»! بينما كانت تصرخ بشدة في بداية الأمر على أساس أننا من البحرين.
زيارة العتبات المقدسة والمدن العراقية كانت متنفساً لنا من الروتين، فكربلاء والكاظمية والكوفة وغيرها أماكن جميلة لها مميزاتها التي يتمتع بها من يزرها. وأتذكر أن الوالد زار مرقد كميل بن زياد وفي الطريق إلى المرقد زار منزل المرحوم الشيخ أحمد الوائلي، وكان منزلاً وحديقة جميلة تعبر عن الذوق الرفيع للوائلي. وجلس الوالد مع الوائلي في الحديقة التابعة للمنزل، وقام الوائلي بوضع رجل على الأخرى أثناء جلوسه على الكرسي، فقمت بتقليده بوضع رجل على أخرى، ما أزعل الوالد، غير أن الوائلي قال «خليه، مايخالف».
ومرة أخذتنا المدرسة إلى مكان أثري وهو «قصر الأخيضر»، وكانت رحلة جميلة جداً، ولكن المدرس لم يتوقف من المبالغة وهو يشرح لنا تاريخ القصر، وكنا نحن التلاميذ نستمع إليه ونخاف من إبداء أية ابتسامة عندما يردد قصصه المبالغ فيها... فمن بين ماكان يقوله: انظروا إلى عظمة أجدادنا كيف بنوا هذا القصر العظيم منذ قديم الزمان، وأن سقوف القصر ليس لها أعمدة ولكنها لاتقع ... غير أننا كنا نرى مايخالف قوله، ولكننا لم ننطق بأية كلمة خوفاً منه ومن ماقد يصيبنا بعد ذلك.
مدرسة الطالبية كانت مملوءة بالطلاب وبالمشاهدات، وعدة أسماء لاتزال عالقة في ذهني، وحري بذكرها ضمن هذه الذكريات التي تبدو متناثرة، ولكنها ليست متناثرة... في العام 1971، كان في صفنا تلميذ اسمه أحمد، كان الأطول من بين كل التلاميذ، وكان أيضاً مراقب الصف، ويمتلك من الصفات ما يجعله محبوباً من الجميع... غير أن أحمد كان عراقياً من أصل إيراني (عجمي)، وهذا لم يغفر له كل حسناته لدى مدرس الرياضة، ذلك البعثي الشرس.
ففي أحد الأيام كان المطر يهطل علينا، ولم يكن بالإمكان الخروج من أجل الرياضة في ساحة المدرسة، فقرر مدرس الرياضة أن يعطينا درساً عن «حزب البعث العربي الاشتراكي» داخل الصف... دخلنا الصف، وبدأ يكتب شعارات الحزب على السبورة بهدف شرحها لنا... ومن ثم قام يشرحها. وكان شعار «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» يتكرر على لسان كل بعثي، وبدأ يشرح لنا ماهي الأمة العربية. في الأثناء رفع أحمد يده ليسأل سؤالاً، إلا أن مدرس الرياضة رد عليه «اسكت، أنت عجمي».
أحمد كان واقفاً في آخر الصف، وفوجىء بالرد، ووجهه تحول إلى اللون الأحمر، وتمتم ببعض الكلمات التي لم أسمعها... وبمجرد أنه تمتم بشيء ما، وإذا بذلك المدرس الشرس يهجم عليه هجوماً عنيفاً، إذ ركض إلى آخر الصف، وبدأ بالركل والضرب (وكان مدرس رياضة وصاحب عضلات)، ولم يتوقف عن أحمد إلا بعد أن أنهكه بالضرب والشتائم.
خلال بعض سنوات الدراسة الابتدائية، كان أحد أصدقائي العراقيين يدعى صباح، ووالده كان مدرساً في المدرسة، وكان والده صاحب هيبة وشخصية قوية جداً، وكان قيادياً في حزب البعث. كان صباح يحدثني أن والده سجن لمدة سنة أو سنتين (لا أذكر) وأنه أفرج عنه وعاد إلى التدريس مع وصول حزب البعث إلى الحكم في 1968. وكنا نخرج أحياناً بعد الدوام، ولكنه أخبرني بأن المكان المفضل لديه بعد المدرسة هو «منظمة الحزب»، وهو الفرع الذي يؤسسه حزب البعث في كل مدينة ومنطقة، وقال إنه يتمنى أن يكون مثل والده، بعثياً ومسئولاً في منظمة الحزب. لم أتحدث معه لاحقاً عن منظمة الحزب أو عن والده، فقد كان صديقاً عزيزاً (وأخلاقه كانت رفيعة)، واستمرت صداقتنا، وإن كانت بدرجة أخف من السابق.
الوسط - منصور الجمري
حادثة أخرى مع المدرس ذاته حدثت معي. فقد قرر الوالد أن يأخذني معه إلى البحرين في فترة أحد المواسم وهذا تطلب مني أن أغيب عن المدرسة، وكان الوالد يعود إلى البحرين من أجل ممارسة مهنة القراءة في المآتم الحسينية، وهي الوسيلة التي يستطيع من خلالها توفير جانب من المال الذي يحتاج إليه لمواصلة دراسته وحياته في النجف الأشرف. عندما عدت إلى النجف وذهبت إلى المدرسة، استقبلني المدرس المذكور في اليوم الأول، وكان غاضباً مني وقال: «أين الصوغة؟»، والصوغة هي الهدية. خفت منه، وقلت له: «إن شاء الله». في اليوم التالي، جاء إليّ وكرر الطلب: «الصوغة وينها؟»... عندها أخبرت والدتي بأن المدرس سيضربني أو سيسقطني إذا لم أعطه «صوغة».
وعليه بدأنا نفكر في شيء من الأشياء التي جاء بها الوالد من البحرين لكي نعطيه المدرس. بعد تفكير طويل، تذكرت الوالدة أن أخي الأكبر محمد جميل لديه قلم حبر جلبه الوالد له من البحرين، وهو يحب الكتابة باستخدام أقلام الحبر التي كانت تحتاج إلى عناية خاصة وإلى محبرة، وشكلها من الداخل يشبه الإبر الطبية القديمة إذ إن مستخدمها يحتاج إلى شفط الحبر كلما استهلك مابها من حبر في الكتابة.
وبعد حديث مطول اقتنع محمد جميل بضرورة إنقاذ الموقف، وتخلى عن قلمه الذي كان يعزه، وجاءت الوالدة «بطاسة» ماء كبيرة، وقمت بتنظيفه عبر سحب الماء إلى الداخل ومن ثم إخراجه مرات عدة إلى أن نظف القلم من لون الحبر وبدا وكأنه جديد. في اليوم التالي ذهبت مسرعاً إلى المدرس وقلت له «تفضل هذه هي الصوغة « وفرح بالقلم كثيراً، واطمأننت على نفسي من غضبه، وهو لم يغضب مني بعد ذلك أبداً.
أتذكر أنه في تلك الفترة أيضاً كنت ألعب مع أخي محمد جميل واختي عفاف، ولكن عفاف فضلت أن تلعب مع جميل وتتركني، وقام بعد ذلك جميل بتعييري بأن عفاف تفضل اللعب معه، وهذا أدى إلى بكائي وذهابي إلى الوالدة للشكوى، وهي كانت حينها مشغولة، فقالت لي «إذا عاندك افلعه». وبالفعل، قام «بمعاندتي» مرة اخرى، وبدلاً من اللجوء إلى البكاء حملت علبة حفظ نظارات الوالد رحمه الله (وكانت من النوع الثقيل) ورفعتها عالياً ورميتها بقوة على وجهه فأصابته في جبينه وخرج الدم من موقع الضربة، وهرعت الوالدة بعد أن سمعت الضوضاء وذهبت لمعالجة جميل وإيقاف الدم من جبينه، وهي تصرخ في وجهي «ويش سويت؟»، فقلت لها «أنت قلت افلعه إذا عاندك»، فردت عليّ «ولكن مو بهذا الشكل!».
أتذكر أيضاً أنني كنت قد قررت أن أصوم وأنا في عمر التاسعة، ولكن الجوع والعطش كانا ينهكاني وأنا أحتاج الذهاب إلى المدرسة ظهراً في بعض الأيام (المدرسة مزدحمة وكنا نداوم أحياناً في الصبح وأحياناً بعد الظهر)، فحاولت الوالدة إقناعي بأن أأكل وأشرب قليلا، ولكنني رفضت، وجانب من ذلك بسبب الإصرار على المنافسة مع أخي الأكبر والأصدقاء من أبناء البحارنة في المدرسة. لكن الوالدة كانت تعد لي كأساً من «الفيمتو» وتدخلني إلى المطبخ بالخفية (لكي لايراني جميل)، وتعطيني لكي أشرب، وكنت سأقاوم الشرب، لولا أنه كان شرابي المفضل آنذاك، الفيمتو!
ومن الذكريات اشتراكي في الكشافة، ولكن الكشافة في النجف ليست كالكشافة في البحرين. فقد كانت عبارة عن تدريب على المشي العسكري على نغم الموسيقى العسكرية مع أوامر تصدر بوسيلة «الصراخ المرتفع» من الأستاذ المسئول «يس... يم»، بمعنى قدم الرجل اليسرى، أو اليمنى... والاستاذ كان يتعامل معنا كما يتعامل العسكري مع فرقة مشاة.
وهذه الكشافة لا تخرج من المدرسة إلا في احتفال سنوي في يوم الجيش أو يوم آخر لا أتذكره، إذ كانت فرق الكشافة تتوجه إلى ملعب كبير تحت نغم الموسيقى العسكرية ضمن استعراضات عامة تشارك فيها المدارس. كما كنت في إحدى السنوات مشاركاً في «لوحة الشرف»، وهي استعراضات رياضية، وجميع هذه المشاركات كانت منسقة على مستوى المدارس كلها، وكانت هناك مسابقات سنوية بين جميع المدارس.
ومرة قرر الوالد العودة بجميع أفراد العائلة (على ما أعتقد لكي يقرأ في رمضان في البحرين)، ولكن محمد جميل لم يستطع المجيء معنا إلى البحرين، لأن لديه دراسة لايستطيع تركها، وعليه اتفق الوالد - رحمه الله - مع الشيخ عيسى أحمد قاسم أن يبقى جميل معه في النجف أثناء تلك الفترة. الوالدة ذهبت إلى السوق واشترت أشياء كثيرة إلى محمدجميل، ما جعلني أزعل، وطلبت منها أن تشتري لي كل ما اشترته إلى أخي بالتمام والكمال... غير أنها قالت لي «جميل سيبقى هنا في النجف وأنت ستأتي معنا إلى البحرين، والبحرين فيها كل الأشياء التي تحبها وهناك نشتري لك ماتريد». وبعد عدة أيام من الحن والزن اقتنعت بما قالته أمي، وتنازلت عن مطالبتي بالمساواة مع أخي، وذلك لأنه بالفعل عندما نكون في البحرين فقد كان يبدو لي أن البحرين فيها الكثير، بل أنه عندما كنت أعود إلى البحرين لا أريد أن أذهب إلى النجف مرة أخرى، على رغم أن الأهل والأصدقاء في بني جمرة كانوا يعيبون عليّ لهجتي التي تغلب عليها اللكنة العراقية في أكثر الأحيان. البحرين كانت بالنسبة لي قمة السعادة وفيها كنت أوجد بين أهلي وأصدقائي، والمنازل المحيطة بنا في بني جمرة مفتوحة طوال النهار وأدخل أي منزل، وهذا بعكس النجف التي لم نكن نذهب إلى مكان آخر متى ما شئنا وكيفما شئنا، وأبواب منازل النجف موصدة في كل الأوقات. بعد المقارنة بين البقاء في النجف والحصول على ماحصل عليه جميل، أو العودة إلى البحرين رضت نفسي كثيراً بالعودة إلى البحرين.
ومن الأمور التي اعتدت عليها في النجف هو شراء الحليب صباح كل يوم. فقد كانت والدتي ترسلني أحياناً لشراء الحليب، والحليب تبيعه مجموعة من النسوة يجلبن بقرهن إلى أماكن محددة ويحلبن البقر مباشرة ويبعن الحليب للمشترين. وفي الصباح الباكر يبيع العراقيون «المأكولات» المصنعة محلياً وهذه الوجبات لها خاصيتها التي تفوق جودتها أي مكان آخر. وجميع تلك المأكولات يمكن شراؤها بأسعار رخيصة لاعتماد الناس عليها في غذائهم اليومي ولوفرتها أيضاً... وفي كل ساعة من النهار يتوافر نوع من الأكل. في الفجر مع الأذان تحصل على الهريسة النجفية. بعد أذان الصبح تحصل على الجبن الأبيض وعلى الصمون وعلى القيمر والمربى - القيمر مصنوع من حليب الجاموس وهو من ألذ الأنواع، وفي الضحى ستحصل على اللبن والتمر وعلى الصمون مع الطرشي، وشراب الشوندر... في الظهر تحصل على الأكلات التي تناسب وجبات الغذاء، وفي الليل تبدأ مشاوي الكبدة واللحم بشكل مكثف بالقرب من حضرة الإمام علي (ع)... الخ.
ولحبنا للقيمر النجفي، فإن الوالدة استمرت في استخراج شيء يشبهه من حليب البقر (لا يوجد جاموس في البحرين) بعد رجوعنا، وكنا نستيقظ على جملة للوالدة «سبق لبق»، ومعناها أن من يستيقظ قبل غيره يستطيع أن يتذوق شيئاً يشبه قيمر النجف.
الشراء في أواخر أيام النجف كان بالأسلوبين القديم والجديد... ففي آخر فترة كنا فيها افتتح في النجف محل حديث كنا نعرفه باسم «أوريزديباك»، ووضع هذا المتجر الحديث إعلاناً يقول بأنه لايبيع أي شيء أقل من 25 فلساً... والخمسة والعشرين فلساً العراقية كانت تفعل أشياء مهمة، وكنت أسمع من يردد «شنو هاي يابه، مستغربين غلائه!
إلا أن حزب البعث شوه المجتمع العراقي كثيراً. ومثال ذلك أحد جيراننا (المذكور آنفاً) الذي كان لابساً العمامة وطالباً في الحوزة الدينية، ولكن فجأة نزع العمامة وأطال شعره ولبس البنطلون الذي كان ضيقاً من أعلى، وفسيحاً من الأسفل بحيث يغطي كل القدم، وكان النجفيون يطلقون مسمى «تشارلستون» على البنطلون. وهذا المسكين نزع العمامة ولبس بنطلون الموضة وسجل في البعث، ولكن انتهى أمره مهجراً على الحدود العراقية - الإيرانية مع عائلته.
الخدمات العامة كانت قليلة والناس تعتمد على بعضها بعضاً. فالأطباء موجودون ولكنه طب خاص، كما أن الأطباء «الشعبيين» كانوا موجودين ويمارسون مهنة الطب القديم المخلوط بالطب الحديث. وكنت قد شارفت على الموت ذات مرة وازدادت درجة الحرارة بصورة حرجة وكان والدي ينقلني من طبيب إلى طبيب حتى أنهم يئسوا من شفائي، وقام والدي بتوجيهي جهة القبلة لاعتقاده بأنني لن أعيش بعدها، غير أنه توجه بالدعاء ونذر لي، وبحسب رواية الوالد، كان اليوم التالي لدعائه بداية التحسن والشفاء.
كنا بين فترة وأخرى نسافر إلى العتبات المقدسة الأخرى مثل الكاظمية وكربلاء والكوفة وغيرها من المناطق. والسفر إلى تلك الأماكن كان متعة بحد ذاته، وكنت اختار إحدى اللهجتين إما لهجة أهل البحرين أو اللهجة العراقية النجفية بحسب الحاجة. فقد كنا نلتقي بأناس كثيرين من البحرين ومن المفضل أن لا أكون عرضة لتعليقاتهم ولذلك فإني كنت أحاول الابتعاد عن اللهجة العراقية. ولكن إذا تعاملت مع العراقيين فمن الأفضل أن التزم باللهجة النجفية لأن أهل النجف لهم احترام وهيبة...
وفي ذات مرة كنت في الكاظمية وكان أخي صادق يلعب بـ «قواطي» (علب) فارغة وهو واقف بجانب شباك، وحدث أن وقع أحد تلك «القواطي» الصغيرة من النافذة بالقرب من امرأة عراقية، وكانت تعلم أن أناساً من البحرين يسكنون تلك العمارة في العادة. فانهالت على أخي بالشتم والصراخ ولم تتوقف بل إنها كانت تصعد لهجتها وتطالب بالتعويض على رغم أن «القوطي» وقع بالقرب من رجلها وليس عليها ولم يجرحها ولم يؤذها...
كنت حينها أحاول إقناع أمي أن تعطيني بعض المال لشراء شيء ما، ولكن كلام المرأة الكظماوية كان مرتفعاً جداً لأن الشباك ليس بعيداً عن الأرض والطابق الأول (الذي كنا فيه) منخفض نسبياً... عندها ذهبت إلى الشباك لأعرف سبب الصراخ، ولكن المرأة ازدادت صراخاً عندما رأتني. كانت لدى صادق قوطية فارغة أخرى، فأخذتها وتوجهت إلى حافة الشباك وبدأت أصرخ على المرأة التي استغربت أن صبياً (كنت ربما في العاشرة) يرد عليها صراخها. ومن الكلام الذي رميته عليها «خالة شكو؟ شتريدين ... امشي هسه لا يجيك قوطي على راسك... امشي...». المرأة خافت وقالت «انتو النجفيين هوايا وكحين...» وهكذا انتهى صراخها علينا لأنها اعتقدت بأننا «نجفيين»! بينما كانت تصرخ بشدة في بداية الأمر على أساس أننا من البحرين.
زيارة العتبات المقدسة والمدن العراقية كانت متنفساً لنا من الروتين، فكربلاء والكاظمية والكوفة وغيرها أماكن جميلة لها مميزاتها التي يتمتع بها من يزرها. وأتذكر أن الوالد زار مرقد كميل بن زياد وفي الطريق إلى المرقد زار منزل المرحوم الشيخ أحمد الوائلي، وكان منزلاً وحديقة جميلة تعبر عن الذوق الرفيع للوائلي. وجلس الوالد مع الوائلي في الحديقة التابعة للمنزل، وقام الوائلي بوضع رجل على الأخرى أثناء جلوسه على الكرسي، فقمت بتقليده بوضع رجل على أخرى، ما أزعل الوالد، غير أن الوائلي قال «خليه، مايخالف».
ومرة أخذتنا المدرسة إلى مكان أثري وهو «قصر الأخيضر»، وكانت رحلة جميلة جداً، ولكن المدرس لم يتوقف من المبالغة وهو يشرح لنا تاريخ القصر، وكنا نحن التلاميذ نستمع إليه ونخاف من إبداء أية ابتسامة عندما يردد قصصه المبالغ فيها... فمن بين ماكان يقوله: انظروا إلى عظمة أجدادنا كيف بنوا هذا القصر العظيم منذ قديم الزمان، وأن سقوف القصر ليس لها أعمدة ولكنها لاتقع ... غير أننا كنا نرى مايخالف قوله، ولكننا لم ننطق بأية كلمة خوفاً منه ومن ماقد يصيبنا بعد ذلك.
مدرسة الطالبية كانت مملوءة بالطلاب وبالمشاهدات، وعدة أسماء لاتزال عالقة في ذهني، وحري بذكرها ضمن هذه الذكريات التي تبدو متناثرة، ولكنها ليست متناثرة... في العام 1971، كان في صفنا تلميذ اسمه أحمد، كان الأطول من بين كل التلاميذ، وكان أيضاً مراقب الصف، ويمتلك من الصفات ما يجعله محبوباً من الجميع... غير أن أحمد كان عراقياً من أصل إيراني (عجمي)، وهذا لم يغفر له كل حسناته لدى مدرس الرياضة، ذلك البعثي الشرس.
ففي أحد الأيام كان المطر يهطل علينا، ولم يكن بالإمكان الخروج من أجل الرياضة في ساحة المدرسة، فقرر مدرس الرياضة أن يعطينا درساً عن «حزب البعث العربي الاشتراكي» داخل الصف... دخلنا الصف، وبدأ يكتب شعارات الحزب على السبورة بهدف شرحها لنا... ومن ثم قام يشرحها. وكان شعار «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» يتكرر على لسان كل بعثي، وبدأ يشرح لنا ماهي الأمة العربية. في الأثناء رفع أحمد يده ليسأل سؤالاً، إلا أن مدرس الرياضة رد عليه «اسكت، أنت عجمي».
أحمد كان واقفاً في آخر الصف، وفوجىء بالرد، ووجهه تحول إلى اللون الأحمر، وتمتم ببعض الكلمات التي لم أسمعها... وبمجرد أنه تمتم بشيء ما، وإذا بذلك المدرس الشرس يهجم عليه هجوماً عنيفاً، إذ ركض إلى آخر الصف، وبدأ بالركل والضرب (وكان مدرس رياضة وصاحب عضلات)، ولم يتوقف عن أحمد إلا بعد أن أنهكه بالضرب والشتائم.
خلال بعض سنوات الدراسة الابتدائية، كان أحد أصدقائي العراقيين يدعى صباح، ووالده كان مدرساً في المدرسة، وكان والده صاحب هيبة وشخصية قوية جداً، وكان قيادياً في حزب البعث. كان صباح يحدثني أن والده سجن لمدة سنة أو سنتين (لا أذكر) وأنه أفرج عنه وعاد إلى التدريس مع وصول حزب البعث إلى الحكم في 1968. وكنا نخرج أحياناً بعد الدوام، ولكنه أخبرني بأن المكان المفضل لديه بعد المدرسة هو «منظمة الحزب»، وهو الفرع الذي يؤسسه حزب البعث في كل مدينة ومنطقة، وقال إنه يتمنى أن يكون مثل والده، بعثياً ومسئولاً في منظمة الحزب. لم أتحدث معه لاحقاً عن منظمة الحزب أو عن والده، فقد كان صديقاً عزيزاً (وأخلاقه كانت رفيعة)، واستمرت صداقتنا، وإن كانت بدرجة أخف من السابق.
منقول
ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف (الحلقة الثالثة)
الوسط - منصور الجمري
كان الوالد المرحوم الشيخ عبد الأمير الجمري يعزم اناس كثيرين الى منزله، وفي الصيف يفتح السرداب لانه ابرد، وكان يطلب من والدتي ان تقفل باب السرداب لكي لا أدخل عليه وعلى ضيوفه واعكر الجلسة عليهم بـ «الشطانة»... ولكن الوالدة تستطيع منع أخي الاكبر محمد جميل، غير انها لاتستطيع منعي، وكثيرا ماتتنازل وتفتح باب السرداب، واول ما انزل ويراني الوالد يبدأ بالاستعداد الى اخراجي من المكان، ولكنني اتوجه مباشرة واجلس الى جنبه. وفي بعض الاحيان يؤشر باصبع رجله اليمنى (بصورة خفية) على رجلي ليعلمني بانه يجب علي الخروج (لان ضيفه احد علماء الدين الكبار مثلا)، ولكنني ألتفت اليه واقول «لا تفلص» وذلك بصوت مرتفع يسمعه الضيف، وعليه فمن الأفضل ان يتركني وحالي.
كان من جيراننا «العلوية»، وهي زوجة السيدعلي كمال الدين (أحد قادة هيئة الاتحاد الوطني مابين 1954 - 1956)، وكان الوالد يمر عليها ويسلم عليها باستمرار. وكانت العلوية «عراقية»، وعندما رجع السيدعلي كمال الدين في مطلع السبعينات الى البحرين، بقيت في النجف الأشرف في منزل ابوجواد. وفي مرة من المرات شك البعثيون ان ابوجواد من العجم ودخلوا المنزل لسلبه وطرده من المنزل، وذهبوا ايضاً لسلب العلوية، الا انها قالت لهم انه ليس لديها مايستحق السلب سوى سجادة الصلاة وخاتم يدها، وتركوها لحالها.
وفي إحدى المرات كنت بجانب منزل «العلوية»، واذا بابنها «سلمان كمال الدين»، وحالياً ينشط مع الجمعي البحرينية لحقوق الإنسان، يقترب من المنزل وهو يلبس ثياباً عسكرية جميلة جداً، وبيده خيزرانة صغيرة كان يمسك بها... وكانت مجموعة من أطفال النجف تمشي خلفه للنظر الى بدلته العسكرية (كانت على ما أتذكر بيضاء اللون وعليها إشارات عسكرية)، فالتفت الى مجموعة الأطفال ونهرهم وطردهم من حوله وذلك عند اقترابه من منزل والدته «العلوية».
أتذكر أيضاً ان الوالد المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري كان يجمعني مع اخي محمدجميل واختي عفاف، ويدرسنا كتاب الفقه «تبصرة المتعلمين في أحكام الدين» للعلامة الحلي، وكان يمر على قضايا فقهية تتعلق بالكبار البالغين، ولم اكن افهم كثيرا مما يقول خصوصا في باب الطهارة بالنسبة للنساء. ولكن الجلسة معه ممتعة، خصوصا وانه زودنا بنسخ صغيرة وجميلة (طبعة النجف) من كتاب التبصرة.
كما كان الوالد يحفظنا اسماء اجدادنا كلها، وحينها كان يطلب مني ان اردد اسمي الكامل، فكنت اردد «اسمي منصور عبدالله (وكنا نستخدم اسم عبدالله بدلا من عبد الامير)... منصور عبدالله منصور محمد عبد الرسول محمد حسين ابراهيم مكي الشيخ سليمان الجمري البحراني». وبدأت اكتب هذا الاسم على بعض دفاتري المدرسية، مما أثار استغراب البعض في المدرسة، خصوصا وان المدرسين العراقيين يختصرون الاسماء، وكثيرا ما يكتبون اسم “منصور عبد” فقط.
أفضل الأوقات كنا نقضيها داخل المنزل مع قصص الوالدة التي كنا نطلب منها تكرارها دائماً لأنها جميلة ومؤثرة ولها معانٍ عدة. والوالدة آنذاك كانت تقص علينا قصصاً من التراث وقصصاً أخرى كانت تقرأها من كتب متوافرة في مكتبة الوالد كانت تستخدمها الوالدة لقراءة قصص علينا. وأحد الكتب كان يحتوي على قصص فرنسية مترجمة إلى العربية، وإحدى تلك القصص حزينة جدا تنتهي بانتحار الفتاة في القصة، وكنا نطلب من الوالدة قراءتها، وكنا (أنا وأخي محمد جميل وأختي عفاف) نصغي اليها ودموعنا في أعيننا لشدة تأثرنا بالقصة. وكنا نتسابق بأننا سنستمع إلى القصة مرة أخرى ولن نبكي ولم يكن ذلك سهلاً.
القصص الاخرى الجميلة التي تردده والدتي يوميا لا نمل منها، ومعظمها من التراث. احدى تلك القصص الجميلة تتحث عن سلطان له ابن، وهذا الإبن له «اذن» تشبه اذن الحمار، وكبر الطفل وطار شعره، واضطر السلطان ان يأتي بحلاق ويهدده اذا تحدث بما يراه فإنه سيقطع رقبته... وعندما قام الحلاق بمشاهدة اذن ابن السلطان اندهش من ذلك، ولكنه خرج مكبوتا يخاف الكلام. ولان الحلاق تصاحبه مهنة الثرثرة مع من يحلقهم، فإنه اصيب بمرض السكوت، وخاف عليه أهله واخذوه الى حكيم... وبعد ان عاينه الحكيم اخذه الى البر، وهناك حفر له حفرة وضعه فيها، وغطاها، وقال له: «قل مافي قلبك، لا أحد يسمعك ابداً»، وعندها بدأ الحلاق يصرخ بأعلى صوته «وليد ابن السلطان اذون بني آدم وأذون حمار...»، وكررها كثيرا الى ان هدأ روعه، وخرج معافى ومشافى... غير ان الحفرة انبتت شجرة، واوراق الشجرة بدأت تصفق وتغني باستمرار «اوليد ابن السلطان، اذون بني آدم، واذون حمار...». مات السلطان، واستلم ابنه الحكم، وخرج ذات يوم متبخترا للصيد في البر، ومن بعيد سمع اصواتا متعالية تفضح سره الذي اعتقد انه لايعرفه احد، وان من يعرفه يخاف على نفسه من الموت فلا يتكلم... قام ابن السلطان الذي اصبح سلطانا برمي نفسه من مكان عالٍ وانتحر لان الاصوات ارتفعت وفضحت امره...
قصة جميلة اخرى كانت الوالدة ترددها بأسلوبها الذي يؤدي بنا الى النوم مع انتهاء القصة، وتلك كانت قصة «أم الروازن» البنت الجميلة والفقيرة التي رآها احد الاغنياء وعطف عليها، وقرر تخليصها من الفقر عبر الزواج منها ووضعها في قصره... فكان له ما اراد، اذ دعاها الى قصره وتزوجها... غير ان الرجل الغني اكتشف انه بعد زواجه من تلك البنت الجميلة ازداد الذباب وازدادت الحشرات وازدادت الرائحة الكريهة في قصره، واستغرب من ذلك لان لديهم خدماً وحشماً ينظفون كل شيء... وفي ذات يوم بدأ يراقب زوجته، واذا بها تأخذ الطعام من على السفرة المملوءة بصنوف الاكل اللذيذ، وتذهب الى احدى الغرف، وتقوم بتوزيع الاكل على الرفوف (الروازن وهي جمع روزنة)، وبعد ذلك تقوم بالطرارة من الرفوف وتردد: «يا الله من مال الله»... وتأكل من كل رف شيء قليل، وبأسلوب رث، وتترك الباقي ليجلب النمل والذباب والحشرات... فاستغرب الرجل المحسن من ذلك وعرف ان المشكلة لم تكن في فقر الفتاة وانما في تطبعها على التسول والطرارة، واصبح هذا في دمها ولم تستطع التخلص منه حتى بعد ان من الله عليها بالنعمة... قصص اخرى جميلة قد لايتسع المجال لذكرها هنا كانت هي العوض عن التلفزيون الذي يجالس اطفالنا اليوم.
طفولة النجف احتوت أمورا جميلة كثيرة... فصوت المؤذن في حضرة الإمام علي (ع) وتوافد الناس على المشهد من كل مكان مظهر جميل، والالتقاء بالبحرينيين الذين كانوا يزورون منزلنا عند زيارتهم للنجف كان دائماً يبعث الفرحة فنيا. وكثير من الاقارب ومن البحرينيين كانوا يملأون قلوبنا بالفرح عند زيارتهم لنا...
وزارنا ذات عام المرحوم علي منصور الغسرة، وكنت اسير معه بصورة شبه يومية الى حضرة الامام علي واذهب الى المكان الذي استأجره اثناء بقائه في النجف (في حي العمارة)، وعند اقتراب عودته الى البحرين، قال لي «اعطني صورتك لكي اريها لابني في البحرين الذي يحمل اسمك ايضا»... ذهبت الى المنزل، ولكن ليس بالامكان ان توفر صورة في النجف، فتلك الايام الصورة تحتاج الى تخطيط كبير من المدرسة او من الوالد للحصول عليها... وعليه امسكت بورقة وقلم، وقمت برسم «خرابيش»، اعتقدت انها تشبه صورتي، وهرعت بها الى المرحوم علي بن منصور الغسرة، وقلت له «تفضل هذه رسمتي»، فخر ضاحكا على مافعلته.
تلك كانت النجف الجميلة، ولكن النجف بدأت تتحول الى بيئة موحشة بعد مجيء حزب البعث الى الحكم، وقيامه بتهجير العراقيين من أصل إيراني من منازلهم. بعد ذلك، بدأت اشكال همجية تتكاثر في منطقتنا، وكان من بينهم عائلة لديها «حمير» في مكان ما في النجف.
وكان احد أبناء هذه العائلة يأتي بأحد حميره من المكان البعيد الى الحي ويوقف الحمار أمام النزل الذي احتله بعد تهجير اصحابه العجم، كل يوم، ويبدأ بضرب الحمر بكل شيء موجع، بما في ذلك في أحد المرات انبوب حديد استخدمه لضرب الحمار على الوجه وعلى كل مكان حتى سال دم ذلك الحمار وبدأ يعرج ووجهه ينزف، ومنظره يثير الشفقة. مررت ذلك اليوم أمام المنزل المحتل، وقد تأثرت كثيراً لحال الحمار وقلت له: «خليه... خطية المطي... لاتضربه»، ومعناه «مسكين الحمار... لاتضربه». ولكن كيف أتجرأ واقول «خطية»؟... اذ هرع ذلك الوحش تجاهي بما كان بيده، ولو أمسكني لفعل بي ماشاء... منذ تلك الحادثة، وحتى خروجي من النجف (ربما سنة أو سنتين) كنت أخاف خوفاً شديداً من المرور أمام ذلك المنزل، ولا أمر أبداً الا اذا كان هناك اناس معي في الطريق.
الضاربون للحمير ازدادوا في منطقتنا، وكان أحدهم يأتي وقت الظهيرة ليجمع بقايا الطعام، ولم نكن نعلم ماذا يفعل بفضلات الطعام على رغم ان هناك كلاماً يتردد ان قشور البطيخ الأحمر يستخدمونه لصناعة الصابون والبقية يتم استخدامه كغذاء للحيوانات. وذات مرة قررت خالتي نجاح التي سكنت معنا لمدة سنة واحدة الانتقام من صاحب الحمار الذي لا يرحم الحيوان، فطلبت مني ان أجهز نفسي واستفيد من فرصة تركه الحمار في الزاوية التي يوجد فيها منزلنا من دون وجود صاحبه الذي يذهب لجلب الفضلات من زاوية أخرى وأقوم بقلب «عدة الحمار»... وفعلاً ما إن ترك صاحب الحمار حماره لأقل من دقيقة واحدة وإذا بكل ما جمعه سقط على الأرض وقد كان كثيراً جداً... بدأ ينظر يمنة ويسرة محاولاً اكتشاف الفاعل ونحن ننظر إليه من ثقب الباب الرئيسي، ولم يعرف الفاعل. ولو عرف انني الذي فعلت ذلك لنال مني وأسال دمي كما كان يسيل دم حماره ويثقله بفضلات الطعام.
واحدة من العادات السيئة التي كانت تنتشر آنذاك هي التعرض للذات الالهية وللاسماء المقدسة... وليس معروف كيف انتشرت تلك العادة، اذ ان الناس العاديون عندما يختلفون مع بعضهم البعض يصادف كثيرا ان تسمع احدهم يشتم الله، او احد الاسماء المقدسة. البعض يقول ان التشجيع على شتم الذات الالهية انتشر بسبب موجة الحادية، شهدتها العراق، وان الشيوعيين البعثيين ساعدوا على ذلك لاحقا، ولكنني لست متخصصا في الموضوع، ولست ادري ان كان ذلك صحيحا ام انه من الكلام السياسي الذي يحاول النيل من هذا الطرف او ذاك. كنت مرة في سوق الحويش بمحاذاة الجامع الهندي، وكانت احد النساء تبيع مجموعة من النعل (مجموع نعال)، وكانت بين فترة واخرى تحصي عددهم اثناء البيع، وتصادف ان كنت قريبا من الجامع عندما أحصت عدد مالديها، واكتشفت (او تصورت) ان احدهم قد سرق نعالا منها... فبدأت تتوتر وتردد عبارات عديدة مثل “من الذي سرق نعالا مني؟”، وبعد فترة رفعت رأسها الى السماء وأشرت باصبعها السبابة وتوجهت بالحديث الى الله “كل هذا من عندك... انت تدري انه واحد راح يسرقني اليوم... انت كله صوجك.” وبعد ذلك بدأت بشتم الله بكلمات لايمكن ذكرها.
النجف لم تحتوِي على وسائل ترفيه للأطفال، ولكن كانت هناك بدائل. فهناك لعبة الطائرات الورقية التي نشتريها ونطيرها من فوق سطوح المنازل في العصر. وكنا نتنافس فيما بيننا أي شخص يستطيع «تطيير» طائرته أعلى وأطول وقت. وكنا بعض الأحيان «نتحارب» إذ نحاول سحب طائرة أحدنا إلى الآخر أو قطعها.
وعملية القطع تحتاج إلى عمل آخر يجب علينا القيام به قبل تطيير الطائرات. فكنا نأتي بـ «زجاج» ونطحنه باستخدم «الهاون» المنزلي، ومن ثم نعجنه بالرز المطبوخ. وبعد ذلك نمرر العجينة على الخيوط وبعد ان تنشف الخيوط تصبح مثل المنشار. وبعد ذلك «نطير» الطائرة الورقية وحين يلامس الخيط «المنشارة» خيطاً آخر لا يحتوي على مادة الزجاج فإن صاحب المنشار «ينتصر»!
لعبة «الدعبل» (التيلة) كانت مشهورة وكذلك عدد من الألعاب الأخرى مشهورة أيضا. وفي ذات يوم كنت ألعب مع أبناء الجيران وكنت قد لبست ساعة يدوية جلبها لي والدي بعد أن عاد تواً من البحرين، اذ كان يسافر إلى البحرين في رمضان وعاشوراء من أجل «القراءة» ولتوفير بعض المال لمواصلة الدراسة. «الساعة اليدوية» كانت شيئاً غير متوافر آنذاك في النجف، وكنت أنا ألبسها وألعب خارج المنزل. مر علينا شاب ضخم جداً وتوقف يشاهدنا بعد أن شاهد الساعة اليدوية على يدي. وبعد دقيقة من وقوفه قال لي: «لا تلعب، يمكن توقع»... قلت له «وما دخلك؟» إلا انه هجم عليّ وسلبني الساعة اليدوية وولى هارباً بها.
السفر من وإلى البحرين له خاصيته على رغم المخاطر المحفوفة به، وكذلك القصص الطريفة التي تحصل باستمرار بسبب اختلاف اللهجة العراقية عن لهجة أهل البحرين الذين يزورون النجف وتحصل لهم الكثير من الأمور أثناء تعاملهم مع العراقيين. ولكن تبقى في الذكريات حوادث تعبر عن اجواء تلك المرحلة وظروفها.
اتذكر اننا مرة سافرنا من البحرين الى البصرة عبر باخرة، وتعطلت في وسط الخليج، وضج الناس، لاعتقادهم بأنها ستغرق، واتذكر مرور طائرة صغيرة جاءت لاستكشاف ماحدث لتلك الباخرة التي كانوا يطلقون عليها مسمى «التك»، وبعد توقف دام ربما يوم او اكثر، اشتغلت الباخرة ووصلت الى البصرة (وعلمنا انها غرقت بعد سنة او سنتين)... عندما وصلنا الى البصرة جاء احد اقاربنا لاستقبالنا، وقال لي الوالد ان لدينا اهلا من بني جمرة هاجروا الى البصرة قبل مئة عام للابتعاد عن بعض المظالم الواقعة عليهم (مازالوا يعيشون في البصرة ويزوروننا بين فترة واخرى). اخذنا اقاربنا الى بيتهم الواقع في «القصبة» آنذاك، بالقرب من البصرة، وهو بيت طيني كبير وجميل جدا، وعندما وصلنا في اليوم الاول مشيا بالاقدام اليه، وفي صباح اليوم الثاني وجدنا ان المنزل محاط بالمياه... وكان هذا شيئا طبيعيا، اذ ان لديهم قوارب توصلهم بين بعضهم البعض، والمنطقة تشهد هذا الامر يوميا.
ومن ذكريات المدرسة عندما دخلت الصف الأول في مدرسة الطالبية الابتدائية للبنين، وكان المدرس يأتي صباح كل يوم ويأمرنا أن ننام لربع ساعة ثم علينا ان نخبره بالحلم الذي شاهدناه أثناء النوم. وكنت أخشى أنني إذا لم احلم فإنه سيعاقبني ولذلك كنت اضع رأسي وأحاول أن اختلق قصة أقول إنها الحلم الذي شاهدته. المدرس كان - كما يبدو - متململاً من التدريس وكان يضيع وقت الدرس كل يوم بهذه الوسيلة، ولكن هذا الأسلوب توقف في يوم من الأيام. ففي ذلك اليوم وقف احد التلاميذ وقال للمدرس: «انا حلمت انك وأمك فوق بعير»... وهنا انفجر الصف ضاحكاً، ولكن المدرس لم يضحك ابدأ بل ركض تجاه التلميذ وأشبعه ضرباً. ففي العراق لا يمكن ان تذكر «الأم» الا للشتم كما ان كلمة «بعير» (أي جمل) تستخدم أيضا للشتم. ولكن التلميذ المسكين الذي حصل على ضرب مبرح ذلك اليوم خلصنا جميعاً من النوم الإجباري اليومي الذي كان يفرضه علينا المدرس، اذ لم يطلب منا أيّاً من ذلك في الأيام التالية.
الوسط - منصور الجمري
كان الوالد المرحوم الشيخ عبد الأمير الجمري يعزم اناس كثيرين الى منزله، وفي الصيف يفتح السرداب لانه ابرد، وكان يطلب من والدتي ان تقفل باب السرداب لكي لا أدخل عليه وعلى ضيوفه واعكر الجلسة عليهم بـ «الشطانة»... ولكن الوالدة تستطيع منع أخي الاكبر محمد جميل، غير انها لاتستطيع منعي، وكثيرا ماتتنازل وتفتح باب السرداب، واول ما انزل ويراني الوالد يبدأ بالاستعداد الى اخراجي من المكان، ولكنني اتوجه مباشرة واجلس الى جنبه. وفي بعض الاحيان يؤشر باصبع رجله اليمنى (بصورة خفية) على رجلي ليعلمني بانه يجب علي الخروج (لان ضيفه احد علماء الدين الكبار مثلا)، ولكنني ألتفت اليه واقول «لا تفلص» وذلك بصوت مرتفع يسمعه الضيف، وعليه فمن الأفضل ان يتركني وحالي.
كان من جيراننا «العلوية»، وهي زوجة السيدعلي كمال الدين (أحد قادة هيئة الاتحاد الوطني مابين 1954 - 1956)، وكان الوالد يمر عليها ويسلم عليها باستمرار. وكانت العلوية «عراقية»، وعندما رجع السيدعلي كمال الدين في مطلع السبعينات الى البحرين، بقيت في النجف الأشرف في منزل ابوجواد. وفي مرة من المرات شك البعثيون ان ابوجواد من العجم ودخلوا المنزل لسلبه وطرده من المنزل، وذهبوا ايضاً لسلب العلوية، الا انها قالت لهم انه ليس لديها مايستحق السلب سوى سجادة الصلاة وخاتم يدها، وتركوها لحالها.
وفي إحدى المرات كنت بجانب منزل «العلوية»، واذا بابنها «سلمان كمال الدين»، وحالياً ينشط مع الجمعي البحرينية لحقوق الإنسان، يقترب من المنزل وهو يلبس ثياباً عسكرية جميلة جداً، وبيده خيزرانة صغيرة كان يمسك بها... وكانت مجموعة من أطفال النجف تمشي خلفه للنظر الى بدلته العسكرية (كانت على ما أتذكر بيضاء اللون وعليها إشارات عسكرية)، فالتفت الى مجموعة الأطفال ونهرهم وطردهم من حوله وذلك عند اقترابه من منزل والدته «العلوية».
أتذكر أيضاً ان الوالد المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري كان يجمعني مع اخي محمدجميل واختي عفاف، ويدرسنا كتاب الفقه «تبصرة المتعلمين في أحكام الدين» للعلامة الحلي، وكان يمر على قضايا فقهية تتعلق بالكبار البالغين، ولم اكن افهم كثيرا مما يقول خصوصا في باب الطهارة بالنسبة للنساء. ولكن الجلسة معه ممتعة، خصوصا وانه زودنا بنسخ صغيرة وجميلة (طبعة النجف) من كتاب التبصرة.
كما كان الوالد يحفظنا اسماء اجدادنا كلها، وحينها كان يطلب مني ان اردد اسمي الكامل، فكنت اردد «اسمي منصور عبدالله (وكنا نستخدم اسم عبدالله بدلا من عبد الامير)... منصور عبدالله منصور محمد عبد الرسول محمد حسين ابراهيم مكي الشيخ سليمان الجمري البحراني». وبدأت اكتب هذا الاسم على بعض دفاتري المدرسية، مما أثار استغراب البعض في المدرسة، خصوصا وان المدرسين العراقيين يختصرون الاسماء، وكثيرا ما يكتبون اسم “منصور عبد” فقط.
أفضل الأوقات كنا نقضيها داخل المنزل مع قصص الوالدة التي كنا نطلب منها تكرارها دائماً لأنها جميلة ومؤثرة ولها معانٍ عدة. والوالدة آنذاك كانت تقص علينا قصصاً من التراث وقصصاً أخرى كانت تقرأها من كتب متوافرة في مكتبة الوالد كانت تستخدمها الوالدة لقراءة قصص علينا. وأحد الكتب كان يحتوي على قصص فرنسية مترجمة إلى العربية، وإحدى تلك القصص حزينة جدا تنتهي بانتحار الفتاة في القصة، وكنا نطلب من الوالدة قراءتها، وكنا (أنا وأخي محمد جميل وأختي عفاف) نصغي اليها ودموعنا في أعيننا لشدة تأثرنا بالقصة. وكنا نتسابق بأننا سنستمع إلى القصة مرة أخرى ولن نبكي ولم يكن ذلك سهلاً.
القصص الاخرى الجميلة التي تردده والدتي يوميا لا نمل منها، ومعظمها من التراث. احدى تلك القصص الجميلة تتحث عن سلطان له ابن، وهذا الإبن له «اذن» تشبه اذن الحمار، وكبر الطفل وطار شعره، واضطر السلطان ان يأتي بحلاق ويهدده اذا تحدث بما يراه فإنه سيقطع رقبته... وعندما قام الحلاق بمشاهدة اذن ابن السلطان اندهش من ذلك، ولكنه خرج مكبوتا يخاف الكلام. ولان الحلاق تصاحبه مهنة الثرثرة مع من يحلقهم، فإنه اصيب بمرض السكوت، وخاف عليه أهله واخذوه الى حكيم... وبعد ان عاينه الحكيم اخذه الى البر، وهناك حفر له حفرة وضعه فيها، وغطاها، وقال له: «قل مافي قلبك، لا أحد يسمعك ابداً»، وعندها بدأ الحلاق يصرخ بأعلى صوته «وليد ابن السلطان اذون بني آدم وأذون حمار...»، وكررها كثيرا الى ان هدأ روعه، وخرج معافى ومشافى... غير ان الحفرة انبتت شجرة، واوراق الشجرة بدأت تصفق وتغني باستمرار «اوليد ابن السلطان، اذون بني آدم، واذون حمار...». مات السلطان، واستلم ابنه الحكم، وخرج ذات يوم متبخترا للصيد في البر، ومن بعيد سمع اصواتا متعالية تفضح سره الذي اعتقد انه لايعرفه احد، وان من يعرفه يخاف على نفسه من الموت فلا يتكلم... قام ابن السلطان الذي اصبح سلطانا برمي نفسه من مكان عالٍ وانتحر لان الاصوات ارتفعت وفضحت امره...
قصة جميلة اخرى كانت الوالدة ترددها بأسلوبها الذي يؤدي بنا الى النوم مع انتهاء القصة، وتلك كانت قصة «أم الروازن» البنت الجميلة والفقيرة التي رآها احد الاغنياء وعطف عليها، وقرر تخليصها من الفقر عبر الزواج منها ووضعها في قصره... فكان له ما اراد، اذ دعاها الى قصره وتزوجها... غير ان الرجل الغني اكتشف انه بعد زواجه من تلك البنت الجميلة ازداد الذباب وازدادت الحشرات وازدادت الرائحة الكريهة في قصره، واستغرب من ذلك لان لديهم خدماً وحشماً ينظفون كل شيء... وفي ذات يوم بدأ يراقب زوجته، واذا بها تأخذ الطعام من على السفرة المملوءة بصنوف الاكل اللذيذ، وتذهب الى احدى الغرف، وتقوم بتوزيع الاكل على الرفوف (الروازن وهي جمع روزنة)، وبعد ذلك تقوم بالطرارة من الرفوف وتردد: «يا الله من مال الله»... وتأكل من كل رف شيء قليل، وبأسلوب رث، وتترك الباقي ليجلب النمل والذباب والحشرات... فاستغرب الرجل المحسن من ذلك وعرف ان المشكلة لم تكن في فقر الفتاة وانما في تطبعها على التسول والطرارة، واصبح هذا في دمها ولم تستطع التخلص منه حتى بعد ان من الله عليها بالنعمة... قصص اخرى جميلة قد لايتسع المجال لذكرها هنا كانت هي العوض عن التلفزيون الذي يجالس اطفالنا اليوم.
طفولة النجف احتوت أمورا جميلة كثيرة... فصوت المؤذن في حضرة الإمام علي (ع) وتوافد الناس على المشهد من كل مكان مظهر جميل، والالتقاء بالبحرينيين الذين كانوا يزورون منزلنا عند زيارتهم للنجف كان دائماً يبعث الفرحة فنيا. وكثير من الاقارب ومن البحرينيين كانوا يملأون قلوبنا بالفرح عند زيارتهم لنا...
وزارنا ذات عام المرحوم علي منصور الغسرة، وكنت اسير معه بصورة شبه يومية الى حضرة الامام علي واذهب الى المكان الذي استأجره اثناء بقائه في النجف (في حي العمارة)، وعند اقتراب عودته الى البحرين، قال لي «اعطني صورتك لكي اريها لابني في البحرين الذي يحمل اسمك ايضا»... ذهبت الى المنزل، ولكن ليس بالامكان ان توفر صورة في النجف، فتلك الايام الصورة تحتاج الى تخطيط كبير من المدرسة او من الوالد للحصول عليها... وعليه امسكت بورقة وقلم، وقمت برسم «خرابيش»، اعتقدت انها تشبه صورتي، وهرعت بها الى المرحوم علي بن منصور الغسرة، وقلت له «تفضل هذه رسمتي»، فخر ضاحكا على مافعلته.
تلك كانت النجف الجميلة، ولكن النجف بدأت تتحول الى بيئة موحشة بعد مجيء حزب البعث الى الحكم، وقيامه بتهجير العراقيين من أصل إيراني من منازلهم. بعد ذلك، بدأت اشكال همجية تتكاثر في منطقتنا، وكان من بينهم عائلة لديها «حمير» في مكان ما في النجف.
وكان احد أبناء هذه العائلة يأتي بأحد حميره من المكان البعيد الى الحي ويوقف الحمار أمام النزل الذي احتله بعد تهجير اصحابه العجم، كل يوم، ويبدأ بضرب الحمر بكل شيء موجع، بما في ذلك في أحد المرات انبوب حديد استخدمه لضرب الحمار على الوجه وعلى كل مكان حتى سال دم ذلك الحمار وبدأ يعرج ووجهه ينزف، ومنظره يثير الشفقة. مررت ذلك اليوم أمام المنزل المحتل، وقد تأثرت كثيراً لحال الحمار وقلت له: «خليه... خطية المطي... لاتضربه»، ومعناه «مسكين الحمار... لاتضربه». ولكن كيف أتجرأ واقول «خطية»؟... اذ هرع ذلك الوحش تجاهي بما كان بيده، ولو أمسكني لفعل بي ماشاء... منذ تلك الحادثة، وحتى خروجي من النجف (ربما سنة أو سنتين) كنت أخاف خوفاً شديداً من المرور أمام ذلك المنزل، ولا أمر أبداً الا اذا كان هناك اناس معي في الطريق.
الضاربون للحمير ازدادوا في منطقتنا، وكان أحدهم يأتي وقت الظهيرة ليجمع بقايا الطعام، ولم نكن نعلم ماذا يفعل بفضلات الطعام على رغم ان هناك كلاماً يتردد ان قشور البطيخ الأحمر يستخدمونه لصناعة الصابون والبقية يتم استخدامه كغذاء للحيوانات. وذات مرة قررت خالتي نجاح التي سكنت معنا لمدة سنة واحدة الانتقام من صاحب الحمار الذي لا يرحم الحيوان، فطلبت مني ان أجهز نفسي واستفيد من فرصة تركه الحمار في الزاوية التي يوجد فيها منزلنا من دون وجود صاحبه الذي يذهب لجلب الفضلات من زاوية أخرى وأقوم بقلب «عدة الحمار»... وفعلاً ما إن ترك صاحب الحمار حماره لأقل من دقيقة واحدة وإذا بكل ما جمعه سقط على الأرض وقد كان كثيراً جداً... بدأ ينظر يمنة ويسرة محاولاً اكتشاف الفاعل ونحن ننظر إليه من ثقب الباب الرئيسي، ولم يعرف الفاعل. ولو عرف انني الذي فعلت ذلك لنال مني وأسال دمي كما كان يسيل دم حماره ويثقله بفضلات الطعام.
واحدة من العادات السيئة التي كانت تنتشر آنذاك هي التعرض للذات الالهية وللاسماء المقدسة... وليس معروف كيف انتشرت تلك العادة، اذ ان الناس العاديون عندما يختلفون مع بعضهم البعض يصادف كثيرا ان تسمع احدهم يشتم الله، او احد الاسماء المقدسة. البعض يقول ان التشجيع على شتم الذات الالهية انتشر بسبب موجة الحادية، شهدتها العراق، وان الشيوعيين البعثيين ساعدوا على ذلك لاحقا، ولكنني لست متخصصا في الموضوع، ولست ادري ان كان ذلك صحيحا ام انه من الكلام السياسي الذي يحاول النيل من هذا الطرف او ذاك. كنت مرة في سوق الحويش بمحاذاة الجامع الهندي، وكانت احد النساء تبيع مجموعة من النعل (مجموع نعال)، وكانت بين فترة واخرى تحصي عددهم اثناء البيع، وتصادف ان كنت قريبا من الجامع عندما أحصت عدد مالديها، واكتشفت (او تصورت) ان احدهم قد سرق نعالا منها... فبدأت تتوتر وتردد عبارات عديدة مثل “من الذي سرق نعالا مني؟”، وبعد فترة رفعت رأسها الى السماء وأشرت باصبعها السبابة وتوجهت بالحديث الى الله “كل هذا من عندك... انت تدري انه واحد راح يسرقني اليوم... انت كله صوجك.” وبعد ذلك بدأت بشتم الله بكلمات لايمكن ذكرها.
النجف لم تحتوِي على وسائل ترفيه للأطفال، ولكن كانت هناك بدائل. فهناك لعبة الطائرات الورقية التي نشتريها ونطيرها من فوق سطوح المنازل في العصر. وكنا نتنافس فيما بيننا أي شخص يستطيع «تطيير» طائرته أعلى وأطول وقت. وكنا بعض الأحيان «نتحارب» إذ نحاول سحب طائرة أحدنا إلى الآخر أو قطعها.
وعملية القطع تحتاج إلى عمل آخر يجب علينا القيام به قبل تطيير الطائرات. فكنا نأتي بـ «زجاج» ونطحنه باستخدم «الهاون» المنزلي، ومن ثم نعجنه بالرز المطبوخ. وبعد ذلك نمرر العجينة على الخيوط وبعد ان تنشف الخيوط تصبح مثل المنشار. وبعد ذلك «نطير» الطائرة الورقية وحين يلامس الخيط «المنشارة» خيطاً آخر لا يحتوي على مادة الزجاج فإن صاحب المنشار «ينتصر»!
لعبة «الدعبل» (التيلة) كانت مشهورة وكذلك عدد من الألعاب الأخرى مشهورة أيضا. وفي ذات يوم كنت ألعب مع أبناء الجيران وكنت قد لبست ساعة يدوية جلبها لي والدي بعد أن عاد تواً من البحرين، اذ كان يسافر إلى البحرين في رمضان وعاشوراء من أجل «القراءة» ولتوفير بعض المال لمواصلة الدراسة. «الساعة اليدوية» كانت شيئاً غير متوافر آنذاك في النجف، وكنت أنا ألبسها وألعب خارج المنزل. مر علينا شاب ضخم جداً وتوقف يشاهدنا بعد أن شاهد الساعة اليدوية على يدي. وبعد دقيقة من وقوفه قال لي: «لا تلعب، يمكن توقع»... قلت له «وما دخلك؟» إلا انه هجم عليّ وسلبني الساعة اليدوية وولى هارباً بها.
السفر من وإلى البحرين له خاصيته على رغم المخاطر المحفوفة به، وكذلك القصص الطريفة التي تحصل باستمرار بسبب اختلاف اللهجة العراقية عن لهجة أهل البحرين الذين يزورون النجف وتحصل لهم الكثير من الأمور أثناء تعاملهم مع العراقيين. ولكن تبقى في الذكريات حوادث تعبر عن اجواء تلك المرحلة وظروفها.
اتذكر اننا مرة سافرنا من البحرين الى البصرة عبر باخرة، وتعطلت في وسط الخليج، وضج الناس، لاعتقادهم بأنها ستغرق، واتذكر مرور طائرة صغيرة جاءت لاستكشاف ماحدث لتلك الباخرة التي كانوا يطلقون عليها مسمى «التك»، وبعد توقف دام ربما يوم او اكثر، اشتغلت الباخرة ووصلت الى البصرة (وعلمنا انها غرقت بعد سنة او سنتين)... عندما وصلنا الى البصرة جاء احد اقاربنا لاستقبالنا، وقال لي الوالد ان لدينا اهلا من بني جمرة هاجروا الى البصرة قبل مئة عام للابتعاد عن بعض المظالم الواقعة عليهم (مازالوا يعيشون في البصرة ويزوروننا بين فترة واخرى). اخذنا اقاربنا الى بيتهم الواقع في «القصبة» آنذاك، بالقرب من البصرة، وهو بيت طيني كبير وجميل جدا، وعندما وصلنا في اليوم الاول مشيا بالاقدام اليه، وفي صباح اليوم الثاني وجدنا ان المنزل محاط بالمياه... وكان هذا شيئا طبيعيا، اذ ان لديهم قوارب توصلهم بين بعضهم البعض، والمنطقة تشهد هذا الامر يوميا.
ومن ذكريات المدرسة عندما دخلت الصف الأول في مدرسة الطالبية الابتدائية للبنين، وكان المدرس يأتي صباح كل يوم ويأمرنا أن ننام لربع ساعة ثم علينا ان نخبره بالحلم الذي شاهدناه أثناء النوم. وكنت أخشى أنني إذا لم احلم فإنه سيعاقبني ولذلك كنت اضع رأسي وأحاول أن اختلق قصة أقول إنها الحلم الذي شاهدته. المدرس كان - كما يبدو - متململاً من التدريس وكان يضيع وقت الدرس كل يوم بهذه الوسيلة، ولكن هذا الأسلوب توقف في يوم من الأيام. ففي ذلك اليوم وقف احد التلاميذ وقال للمدرس: «انا حلمت انك وأمك فوق بعير»... وهنا انفجر الصف ضاحكاً، ولكن المدرس لم يضحك ابدأ بل ركض تجاه التلميذ وأشبعه ضرباً. ففي العراق لا يمكن ان تذكر «الأم» الا للشتم كما ان كلمة «بعير» (أي جمل) تستخدم أيضا للشتم. ولكن التلميذ المسكين الذي حصل على ضرب مبرح ذلك اليوم خلصنا جميعاً من النوم الإجباري اليومي الذي كان يفرضه علينا المدرس، اذ لم يطلب منا أيّاً من ذلك في الأيام التالية.
منقول
ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف
عندما توفي الإمام محسن الحكيم (اعتقد ان ذلك كان في العام 1970) خرجت مظاهرات كبرى في النجف الاشرف تندد بحزب البعث الذي قطع الماء والكهرباء عن الحكيم وطارد ابنه السيدمهدي. وكنت مع اخي الاكبر محمد جميل والسيدعلي بن السيدجواد الوداعي في حضرة الإمام علي (ع) نشاهد واحدة من اكبر المظاهرات المعادية للنظام البعثي. وكان من الشعارات التي رفعها المتظاهرون آنذاك «سيدمهدي مو جاسوس، هذي اشاعة كاذبة». حينها التفت إلى محمدجميل وسألته «من الذي قال إن سيدمهدي جاسوس؟»... محمد جميل نظر الي وقال «شوش... بعدين»... بعد ذلك قال لي: «كيف ترفع صوتك والشرطة كانت بجانبنا، انهم هم الذين يقولون ان سيدمهدي جاسوس».
والدي (الشيخ عبدالأمير الجمري) كان مشاركاً في مراسم تشييع الامام الحكيم وألقى كلمة باسم طلاب علوم الدين البحارنة تهجم فيها على حكم حزب البعث، ومنذ تلك الحادثة الدينية اصبح اسمه في القائمة السوداء لدى المخابرات العراقية. لكنه نجا منهم حتى رجوعه إلى البحرين في 1973 ولم يكتشفوا ان الشخص الذي يبحثون عنه (عبدالأمير الجمري) كان مسجلاً لديهم باسم «عبدالله منصور محمد». فالوالد كان قد غير اسمه أثناء تواجده في العراق لأنه كان يسافر من وإلى العراق سنوياً عبر البر ويمر في الكويت والسعودية قبل ان يصل إلى البحرين أو العراق. وكان اسمه (عبدالأمير) يخلق له مشكلات لدى بعض مسئولي الجمارك عند عبوره الحدود لأن اسماء «عبد» تختص بالله بحسب احد التفاسير الدينية المتبعة في الجزيرة العربية. وبدلاً من خلق المشكلات اثناء السفر غير اسمه إلى «عبدالله منصور محمد» وثم اعاد اسمه الاصلي عندما استقر في البحرين لاحقاً.
وكان لهذا التغيير في الاسم نجاة من قبضة البعثيين الذين لم يكونوا سيرحموا أي شخص يتجرأ عليهم مهما كانت المناسبة والحدث الذي دعا إلى ذلك.
النجف الاشرف كانت مزدحمة بالعراقيين والإيرانيين والافغانيين والخليجيين وحتى الصينيين (من التيبت) وغيرهم الذين كانوا يفدون إلى مدينة الإمام علي (ع) إما للدراسة او للزيارة. وأسواقها لها اجواء خاصة وتحتوي على كل ما يحتاجه الدارس أو الزائر أو المقيم. وأجمل ما تشاهده في النجف السوق المخصصة لبيع الكتب والتي تتفرع من سوق «الحويش» والسوق الكبير وسوق العمارة.
وكنا نعيش بالقرب من سوقي الحويش والعمارة، ولكن ذهابنا إلى سوق العمارة اكثر لان منزل السيدشرف الخابوري ومنزل الشيخ عيسى أحمد قاسم كانا هناك، وكنا نتردد عليهما. منزل السيدشرف كان قريبا لمنزل الإمام محسن الحكيم وقريباً من حضرة الإمام علي (ع) وكان اكثر ما أستمتع به مشاهدة صلاة الجماعة في «الحضرة» للامام الحكيم. فعدد المصلين بالآلاف التي ينقطع النظر عندما يحاول متابعة الصفوف وعدد «العمائم» التي تركع وتسجد. وكنت اقول لوالدي «لو اراد واحد ان يصل إلى القمر فما عليه الا ان يجمع العمائم على بعضها ويركب عليها ليصل إلى السماء والقمر». تلك الجملة البريئة كانت تعبر عن العدد الكبير الذي يصلي خلف الحكيم. وكان العدد الكبير من المصلين يحتاج الى ادارة اثناء الصلاة، وكان هناك شخص او اكثر يصرخ باعلى الصوت بكلمات محددة (مثل: ركوع، سجود، سمع الله لمن حمده...) منوها ببدء كل ركعة وكل سجدة وكل فعل من افعال الصلاة، لأن الصفوف الخلفية لاترى الامام. وأروع من ذلك هي الرحلة القصيرة من ناحية المسافة والطويلة زمنياً التي يقطعها الحكيم من منزله إلى حضرة الإمام علي (ع) وبالعكس. فالرحلة تستغرق طويلاً للعدد الكبير الذي يمشي خلفه وكان بعض الناس يوقفون الموكب لتقبيل يد الإمام الحكيم. وكان هناك عدد من الذين يسيرون في الموكب يحاولون إبعاد الناس (لاسيما الاطفال أمثالنا) من الوقوف في الطريق أو محاولة ايقاف الموكب لتقبيل يد الحكيم وكانوا يؤشرون بأيديهم ويهمسون «وخر، وخر»، بمعنى «ابتعد، ابتعد».
بعد وفاة الإمام الحكيم تسلم ابنه السيديوسف إمامة الجماعة، وعندها تجرأتُ مرة واحدة وأوقفت الموكب لأقبل يده وسط غضب شديد من عدد من الذين كانوا يمشون خلفه.
أكبر مأساة شاهدتها في النجف كان «تسفير» العراقيين من أصل إيراني. فعندما وصل حزب البعث إلى الحكم اعلن الكراهية لكل شخص لديه صلة بالإيرانيين حتى لو كان من الجيل الثالث أو الرابع ممن عاشوا في العراق عشرات وربما مئات السنين. وكانت أول حملة تسفير في مطلع السبعينات (لا اتذكر متى، ولكن ربما العام 1971).
الشرطة العراقية كانت تهجم على المنازل وتسحب من فيها إلى الخارج وترميهم في شاحنات وسيارات من من دون ان تسمح لهم بأخذ شيء وترميهم على الحدود العراقية - الإيرانية. كان الطقس بارداً جداً، وبرد النجف شرس جداً لأنه لا يرحم حتى لو لبست كل ما لديك من ثياب، وشاهدت بأم عيني رجالاً ونساء كبارا في السن رمتهم الشرطة العراقية في عربات خشبية وهم من دون لباس يقيهم سوى ثياب منزلية خفيفة.
عراقيون آخرون (من أصل إيراني) تم اختطافهم من دكاكينهم وبقيت محلاتهم مفتوحة بينما هم يسفّرون إلى الحدود. الوضع سيئ جداً ولا يمكن تصوره أو احتماله وكان والدي يهمس مع طلاب العلوم الدينية البحرينيين عن الوضع وهم في رعب من هذه السياسة الهوجاء.
ولكن ما كان يرعبني أكثر هو تصرف بعض العراقيين العاديين الذين استغلوا تهجير إخوانهم (الذين يحملون جوازات سفر عراقية مثلهم) وبدأوا يسلبونهم، مضيفين إلى الألم السلطوي ألم الجهل الذي دفعهم لإيذاء غيرهم من دون أي رادع إنساني ذاتي.
وذات يوم كنا داخل المنزل وقد أغلقنا باب الغرفة وكان الجو قارساً، وكنت ألعب مع اخواني ووالدتي تحاول تهدئتنا ولكن من دون جدوى. غير اننا فوجئنا بصوت امرأة على باب الغرفة وهي تهتف «يا أهل الحوش» (يعني يا أهل البيت)...
خرجنا جميعاً وإذا بها في وسط المنزل ونحن نسأل كيف تمكنت من الدخول وخصوصا نحن نقفل الباب بثلاثة أنواع من القفول. ولكن يبدو أن الوالدة دخلت المنزل خلفنا ونسيت المفتاح في الباب من الجهة الخارجية وهذه من النوادر القليلة التي تنسى فيها المفتاح. فأخذت المرأة العراقية المفتاح (بعد أن فتحت الباب) ووضعته ما بين صدرها.
وهكذا هرعنا ونحن نسمعها تهتف «يا أهل الحوش»... سألناها ماذا تريد؟ ولكنها سألتنا «أنتم عرب لو عجم؟» فهتفنا جميعاً: «نحن عرب من البحرين»... وهنا قالت «لبالي» (بمعنى... أعتقدت شيئاً آخر)... ومدت يدها داخل صدرها وأخرجت المفتاح وسلمتنا إياه، وخرجت...
الوالدة كانت خائفة جداً، لان تسفير الإيرانيين كان يعني لبعض الأشخاص احتلال المنزل وسلب ما فيه، وكانت المرأة تتفحص الأمر وفيما لو كنا عراقيين من أصل إيراني (وسيتم تسفيرنا) كانت ستأتي بأشخاص آخرين معها لسلبنا واحتلال منزلنا... هكذا بكل شراسة كانت تجري الامور تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي.
منزلنا في اخر سوق الحويش واول سوق العمارة، في طريق (عقد) السيد بوالحسن، وكان من جيراننا الكثير ممن تعرضوا للاذى بعد قيام حزب البعث بتهجير العراقيين من اصل ايراني. كان أحد الشباب اسمه حسن كلستن، اختفى مع عائلته في ظروف قاسية، ومن جيراننا منزل لاحد علماء الدين الايرانيين نعرفه باسم الشيخ الخلخالي (لست ادري ان كان قريبا للشيخ الخلخالي الذي اشتهر اسمه لاحقا في إيران)، وكان لنا جار لديه دكان «عطار» اسمه جبار تبينه، وابناه حافظ وستار، وذات مرة مر عليه البعثيون في دكانه في سوق الحويش وسحبوه الى المخفر لتهجيره مع عائلته. وبعد بهدلات واهانات ثبت لهم انه عراقي من اصل عربي (تبعية عثمانية)، ولكن التجربة التي مر بها كانت مأسوية.
كان من جيراننا ابوعمار، وهو من العجم، وابنه عمار كان رجل دين يلبس العمامة. وعندما جاء البعث الى الحكم نزع العمامة ولبس ثياب «الافندية» وأطال شعره كثيرا، وانضم الى حزب البعث، ولكن هذا لم يرحمه ولم ينقذه من التهجير الذي طاله مع عائلته وظل بيتهم خاليا افترة من الزمن.
وكان من جيرانا ابو معين، ومنزلهم «آيل الى السقوط» وعندما يتساقط المطر لا تستطيع لمس الجدار لانه يكهرب اليد... وذات ليلة هطل مطر غزير وانهدم المنزل على من فيه، وتوفيت امرأة واحدة بسبب ذلك. اصبحنا الصباح واذا بالمنزل الواقع امام منزلنا قد انهدم بالكامل.
ربما ان من اجمل الاسواق كان سوق الكبير، والولد كان يزور دكان ابو مزهر، وهو متخصص في بيع العبي (البشوت)... ومن اجمل الاحياء التي كنا نزورها «حي المعلمين» و«حي السعد»، ومن افقر المناطق كانت «الشوافع» وهي قريبة من شاطيء، ومنطقة منخفضة جدا عن مستوى المنازل الاخرى. الاحياء الرئيسية في النجف القديمة والمحيطة بحضرة الامام علي هي البراق والمشراق والعمارة والحويش.
لم يكن السلب والنهب الذي ازداد بعد مجيء حزب البعث هو الأمر الوحيد، فلقد كان علماء الدين الذين يلبسون «العمامة» يعانون الأمرين كلما مروا في الطرقات، إذ كان يتجمع حولهم بعض السفلة ويهتفون «الموامنة جواسيس، الموامنة جواسيس». و«الموامنة» كلمة تحقيرية لعلماء الدين. والوالد كان يتصدى لهم ويرد عليهم باللهجة العراقية «أدب سز» (يا عديمي الاخلاق)، وثم يراددهم، وكانوا يخافون عندما يرد عليهم عالم الدين ولكنهم يستأسدون عليه اذا سكت عنهم. وفي مرة مر امام منزل احد علماء الدين الكبار المعروفين في النجف وأحاطه السفلة من كل مكان ولم يكتفوا بشتمه ولكن أيضاً أهانوه عبر بهدلته باليد وملامسة المناطق الحساسة بصورة سيئة وشديدة. وكنت قد هربت من الموقع واستمريت في المشاهدة من ثقب المنزل. ولكن لم يستطع احد فعل شيء لأن هؤلاء السفلة كانوا يأتمرون بحكومة البعث التي تعتمد على السفلة في كل شيء.
بدأ البعثيون يملأون المنازل في منطقتنا، وصادف ان توفيت جارتنا (أم علي) ما حدا بزوجها وابنيها الانتقال من منزلهم. وكان الشخص الذي حل محلهم احد أفراد المخابرات ومعه اثنتان من اخواته. وعرفنا انه من المخابرات لأنه يلبس ثياباً مدنية وفي كل يوم نشاهده عند احدى بوابات حضرة الإمام علي (ع) يتحدث إلى الشرطة بين فترة وأخرى ويتفحص كل ما يدور من حوله ويداوم يومياً في المكان نفسه.
لم يكتفِ بعمله بل بدأ باستهداف الوالد والتعرض اليه وكل يوم يوقف الوالد ويقول له «لدينا ماء في المنزل يأتي من جهتكم»... ومرة أخرى يقول شيئاً آخر، حتى تجرأ مرة وأوقف الوالد في سوق العمارة محاولاً الاعتداء عليه بالضرب. كان الوالد بالقرب من دكان «القصاب»، واسمه «لطيف»، الذي نشتري منه اللحم وكان القصاب صديق الوالد، وعندما شاهد شخصاً يحاول الاعتداء عليه حمل سكينه الكبيرة وركض باتجاه ذلك الشخص السيئ. وكالعادة، فالجبناء من أتباع حزب البعث يخافون عندما ترد عليهم، فما كان من ذلك الذئب المفترس إلا أن يخضع ويتنازل ويطلب مصالحة الوالد وانه جار يبحث عن تفاهم وليس عن مشكلات.
الوالد كان لديه اصدقاء كثيرون في الاسواق المحيطة بنا. فالرسائل والبرقيات من البحرين كانت تصل الى دكان في سوق العمارة لصاحبه «حسين العذاري»، والوالد يمر يوميا على الدكان. وكان هناك ايضا في سوق العمارة دكان جواد المظفر الذي كنا نشتري منه المواد الغذائية. كثير من الدكاكين كانت ترفع شعار «الدين ممنوع»، وكنت اسأل نفسي، لماذا يمنعون الدين، وكنت اعتقد ان المقصود بذلك دين الاسلام، الى ان عرف بعض افراد عائلتي تفسيري لما كنت اقرأه وسخروا مني وأوضحوا ان الشعار يعني «الاستلاف ممنوع».
كان الوالد يذهب يوميا تقريبا الى سوق لبيع الكتب محاذية لسوق الحويش، وكنت اذهب معه، وكان كل يوم يشتر كتاب صغير أو كبير... وقرر ذات يوم اعادة تنظيم مكتبته في المنزل، وقام بتجليد الكتب وجمع الكتب الصغيرة في مجلدات قوية، ومن ثم ذهب الى نجار وطلب منه صناعة طاولة تناسب جلسة الوالد على الارض، اذ كان الوالد يجلس على الارض ويسحب الطاولة لتغطي ركبتيه ويبدأ بالقراء والكتابة... وكنت قد ذهبت معه الى النجار عدة مرات، ويوم اكتملت الطاولة جاء بها فرحاً الى مجلسه إذ توجد مكتبته الخاصة، ووضعها وجربها وكان سعيدا بها، واعتبرها قوية جدا... فجأة خطرت ببالي فكرة لاختبار قوتها، وهرعت الى مطرقة كان يستخدمها الوالد، ورفعت المطرقة الى اعلى شيء وهويت بها على الطاولة، فما كان من مقدمة المطرقة الا واخترقت سطح الطاولة الجميل جدا...
الوالد غضب مني كثيرا، وركض خلفي لمعاقبتي لانني خربت طاولته في اليوم الاول لاستلامها، ولكنني اعرف كيف اوقف مطاردته لي، فهرعت الى أعلى السطح، وهناك اركب فوق حائط السطح المصنوع من مواد عدة من بينها «صفيح الجينكو»، وبعد ذلك أضع رجل على حائط منزلنا، ورجل اخرى على حائط الجيران... الوالد يتوقف فجأة، فالفكرة تنجح في كل مرة، لانه اذا طاردني فقد اقع بين الجدارين الى الارض، ولكنني لن اصل الى الأرض اذا وقعت، لان اسلاك الكهرباء الممدودة بين المنازل كثيرة، والموت ستكون نتيجة شبه مؤكدة. الوالد يتراجع الى الخلف وينزل من على السطح، وابقى فترة حتى يهدأ روعه وانزل من ذلك المكان... الفكرة كانت تتكرر وتنجح، ولذا، اذا كان الوالد يريد معاقبتي، فإن اول شيء يعمله هو قفل الباب المؤدي الى سطح المنزل.
عندما توفي الإمام محسن الحكيم (اعتقد ان ذلك كان في العام 1970) خرجت مظاهرات كبرى في النجف الاشرف تندد بحزب البعث الذي قطع الماء والكهرباء عن الحكيم وطارد ابنه السيدمهدي. وكنت مع اخي الاكبر محمد جميل والسيدعلي بن السيدجواد الوداعي في حضرة الإمام علي (ع) نشاهد واحدة من اكبر المظاهرات المعادية للنظام البعثي. وكان من الشعارات التي رفعها المتظاهرون آنذاك «سيدمهدي مو جاسوس، هذي اشاعة كاذبة». حينها التفت إلى محمدجميل وسألته «من الذي قال إن سيدمهدي جاسوس؟»... محمد جميل نظر الي وقال «شوش... بعدين»... بعد ذلك قال لي: «كيف ترفع صوتك والشرطة كانت بجانبنا، انهم هم الذين يقولون ان سيدمهدي جاسوس».
والدي (الشيخ عبدالأمير الجمري) كان مشاركاً في مراسم تشييع الامام الحكيم وألقى كلمة باسم طلاب علوم الدين البحارنة تهجم فيها على حكم حزب البعث، ومنذ تلك الحادثة الدينية اصبح اسمه في القائمة السوداء لدى المخابرات العراقية. لكنه نجا منهم حتى رجوعه إلى البحرين في 1973 ولم يكتشفوا ان الشخص الذي يبحثون عنه (عبدالأمير الجمري) كان مسجلاً لديهم باسم «عبدالله منصور محمد». فالوالد كان قد غير اسمه أثناء تواجده في العراق لأنه كان يسافر من وإلى العراق سنوياً عبر البر ويمر في الكويت والسعودية قبل ان يصل إلى البحرين أو العراق. وكان اسمه (عبدالأمير) يخلق له مشكلات لدى بعض مسئولي الجمارك عند عبوره الحدود لأن اسماء «عبد» تختص بالله بحسب احد التفاسير الدينية المتبعة في الجزيرة العربية. وبدلاً من خلق المشكلات اثناء السفر غير اسمه إلى «عبدالله منصور محمد» وثم اعاد اسمه الاصلي عندما استقر في البحرين لاحقاً.
وكان لهذا التغيير في الاسم نجاة من قبضة البعثيين الذين لم يكونوا سيرحموا أي شخص يتجرأ عليهم مهما كانت المناسبة والحدث الذي دعا إلى ذلك.
النجف الاشرف كانت مزدحمة بالعراقيين والإيرانيين والافغانيين والخليجيين وحتى الصينيين (من التيبت) وغيرهم الذين كانوا يفدون إلى مدينة الإمام علي (ع) إما للدراسة او للزيارة. وأسواقها لها اجواء خاصة وتحتوي على كل ما يحتاجه الدارس أو الزائر أو المقيم. وأجمل ما تشاهده في النجف السوق المخصصة لبيع الكتب والتي تتفرع من سوق «الحويش» والسوق الكبير وسوق العمارة.
وكنا نعيش بالقرب من سوقي الحويش والعمارة، ولكن ذهابنا إلى سوق العمارة اكثر لان منزل السيدشرف الخابوري ومنزل الشيخ عيسى أحمد قاسم كانا هناك، وكنا نتردد عليهما. منزل السيدشرف كان قريبا لمنزل الإمام محسن الحكيم وقريباً من حضرة الإمام علي (ع) وكان اكثر ما أستمتع به مشاهدة صلاة الجماعة في «الحضرة» للامام الحكيم. فعدد المصلين بالآلاف التي ينقطع النظر عندما يحاول متابعة الصفوف وعدد «العمائم» التي تركع وتسجد. وكنت اقول لوالدي «لو اراد واحد ان يصل إلى القمر فما عليه الا ان يجمع العمائم على بعضها ويركب عليها ليصل إلى السماء والقمر». تلك الجملة البريئة كانت تعبر عن العدد الكبير الذي يصلي خلف الحكيم. وكان العدد الكبير من المصلين يحتاج الى ادارة اثناء الصلاة، وكان هناك شخص او اكثر يصرخ باعلى الصوت بكلمات محددة (مثل: ركوع، سجود، سمع الله لمن حمده...) منوها ببدء كل ركعة وكل سجدة وكل فعل من افعال الصلاة، لأن الصفوف الخلفية لاترى الامام. وأروع من ذلك هي الرحلة القصيرة من ناحية المسافة والطويلة زمنياً التي يقطعها الحكيم من منزله إلى حضرة الإمام علي (ع) وبالعكس. فالرحلة تستغرق طويلاً للعدد الكبير الذي يمشي خلفه وكان بعض الناس يوقفون الموكب لتقبيل يد الإمام الحكيم. وكان هناك عدد من الذين يسيرون في الموكب يحاولون إبعاد الناس (لاسيما الاطفال أمثالنا) من الوقوف في الطريق أو محاولة ايقاف الموكب لتقبيل يد الحكيم وكانوا يؤشرون بأيديهم ويهمسون «وخر، وخر»، بمعنى «ابتعد، ابتعد».
بعد وفاة الإمام الحكيم تسلم ابنه السيديوسف إمامة الجماعة، وعندها تجرأتُ مرة واحدة وأوقفت الموكب لأقبل يده وسط غضب شديد من عدد من الذين كانوا يمشون خلفه.
أكبر مأساة شاهدتها في النجف كان «تسفير» العراقيين من أصل إيراني. فعندما وصل حزب البعث إلى الحكم اعلن الكراهية لكل شخص لديه صلة بالإيرانيين حتى لو كان من الجيل الثالث أو الرابع ممن عاشوا في العراق عشرات وربما مئات السنين. وكانت أول حملة تسفير في مطلع السبعينات (لا اتذكر متى، ولكن ربما العام 1971).
الشرطة العراقية كانت تهجم على المنازل وتسحب من فيها إلى الخارج وترميهم في شاحنات وسيارات من من دون ان تسمح لهم بأخذ شيء وترميهم على الحدود العراقية - الإيرانية. كان الطقس بارداً جداً، وبرد النجف شرس جداً لأنه لا يرحم حتى لو لبست كل ما لديك من ثياب، وشاهدت بأم عيني رجالاً ونساء كبارا في السن رمتهم الشرطة العراقية في عربات خشبية وهم من دون لباس يقيهم سوى ثياب منزلية خفيفة.
عراقيون آخرون (من أصل إيراني) تم اختطافهم من دكاكينهم وبقيت محلاتهم مفتوحة بينما هم يسفّرون إلى الحدود. الوضع سيئ جداً ولا يمكن تصوره أو احتماله وكان والدي يهمس مع طلاب العلوم الدينية البحرينيين عن الوضع وهم في رعب من هذه السياسة الهوجاء.
ولكن ما كان يرعبني أكثر هو تصرف بعض العراقيين العاديين الذين استغلوا تهجير إخوانهم (الذين يحملون جوازات سفر عراقية مثلهم) وبدأوا يسلبونهم، مضيفين إلى الألم السلطوي ألم الجهل الذي دفعهم لإيذاء غيرهم من دون أي رادع إنساني ذاتي.
وذات يوم كنا داخل المنزل وقد أغلقنا باب الغرفة وكان الجو قارساً، وكنت ألعب مع اخواني ووالدتي تحاول تهدئتنا ولكن من دون جدوى. غير اننا فوجئنا بصوت امرأة على باب الغرفة وهي تهتف «يا أهل الحوش» (يعني يا أهل البيت)...
خرجنا جميعاً وإذا بها في وسط المنزل ونحن نسأل كيف تمكنت من الدخول وخصوصا نحن نقفل الباب بثلاثة أنواع من القفول. ولكن يبدو أن الوالدة دخلت المنزل خلفنا ونسيت المفتاح في الباب من الجهة الخارجية وهذه من النوادر القليلة التي تنسى فيها المفتاح. فأخذت المرأة العراقية المفتاح (بعد أن فتحت الباب) ووضعته ما بين صدرها.
وهكذا هرعنا ونحن نسمعها تهتف «يا أهل الحوش»... سألناها ماذا تريد؟ ولكنها سألتنا «أنتم عرب لو عجم؟» فهتفنا جميعاً: «نحن عرب من البحرين»... وهنا قالت «لبالي» (بمعنى... أعتقدت شيئاً آخر)... ومدت يدها داخل صدرها وأخرجت المفتاح وسلمتنا إياه، وخرجت...
الوالدة كانت خائفة جداً، لان تسفير الإيرانيين كان يعني لبعض الأشخاص احتلال المنزل وسلب ما فيه، وكانت المرأة تتفحص الأمر وفيما لو كنا عراقيين من أصل إيراني (وسيتم تسفيرنا) كانت ستأتي بأشخاص آخرين معها لسلبنا واحتلال منزلنا... هكذا بكل شراسة كانت تجري الامور تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي.
منزلنا في اخر سوق الحويش واول سوق العمارة، في طريق (عقد) السيد بوالحسن، وكان من جيراننا الكثير ممن تعرضوا للاذى بعد قيام حزب البعث بتهجير العراقيين من اصل ايراني. كان أحد الشباب اسمه حسن كلستن، اختفى مع عائلته في ظروف قاسية، ومن جيراننا منزل لاحد علماء الدين الايرانيين نعرفه باسم الشيخ الخلخالي (لست ادري ان كان قريبا للشيخ الخلخالي الذي اشتهر اسمه لاحقا في إيران)، وكان لنا جار لديه دكان «عطار» اسمه جبار تبينه، وابناه حافظ وستار، وذات مرة مر عليه البعثيون في دكانه في سوق الحويش وسحبوه الى المخفر لتهجيره مع عائلته. وبعد بهدلات واهانات ثبت لهم انه عراقي من اصل عربي (تبعية عثمانية)، ولكن التجربة التي مر بها كانت مأسوية.
كان من جيراننا ابوعمار، وهو من العجم، وابنه عمار كان رجل دين يلبس العمامة. وعندما جاء البعث الى الحكم نزع العمامة ولبس ثياب «الافندية» وأطال شعره كثيرا، وانضم الى حزب البعث، ولكن هذا لم يرحمه ولم ينقذه من التهجير الذي طاله مع عائلته وظل بيتهم خاليا افترة من الزمن.
وكان من جيرانا ابو معين، ومنزلهم «آيل الى السقوط» وعندما يتساقط المطر لا تستطيع لمس الجدار لانه يكهرب اليد... وذات ليلة هطل مطر غزير وانهدم المنزل على من فيه، وتوفيت امرأة واحدة بسبب ذلك. اصبحنا الصباح واذا بالمنزل الواقع امام منزلنا قد انهدم بالكامل.
ربما ان من اجمل الاسواق كان سوق الكبير، والولد كان يزور دكان ابو مزهر، وهو متخصص في بيع العبي (البشوت)... ومن اجمل الاحياء التي كنا نزورها «حي المعلمين» و«حي السعد»، ومن افقر المناطق كانت «الشوافع» وهي قريبة من شاطيء، ومنطقة منخفضة جدا عن مستوى المنازل الاخرى. الاحياء الرئيسية في النجف القديمة والمحيطة بحضرة الامام علي هي البراق والمشراق والعمارة والحويش.
لم يكن السلب والنهب الذي ازداد بعد مجيء حزب البعث هو الأمر الوحيد، فلقد كان علماء الدين الذين يلبسون «العمامة» يعانون الأمرين كلما مروا في الطرقات، إذ كان يتجمع حولهم بعض السفلة ويهتفون «الموامنة جواسيس، الموامنة جواسيس». و«الموامنة» كلمة تحقيرية لعلماء الدين. والوالد كان يتصدى لهم ويرد عليهم باللهجة العراقية «أدب سز» (يا عديمي الاخلاق)، وثم يراددهم، وكانوا يخافون عندما يرد عليهم عالم الدين ولكنهم يستأسدون عليه اذا سكت عنهم. وفي مرة مر امام منزل احد علماء الدين الكبار المعروفين في النجف وأحاطه السفلة من كل مكان ولم يكتفوا بشتمه ولكن أيضاً أهانوه عبر بهدلته باليد وملامسة المناطق الحساسة بصورة سيئة وشديدة. وكنت قد هربت من الموقع واستمريت في المشاهدة من ثقب المنزل. ولكن لم يستطع احد فعل شيء لأن هؤلاء السفلة كانوا يأتمرون بحكومة البعث التي تعتمد على السفلة في كل شيء.
بدأ البعثيون يملأون المنازل في منطقتنا، وصادف ان توفيت جارتنا (أم علي) ما حدا بزوجها وابنيها الانتقال من منزلهم. وكان الشخص الذي حل محلهم احد أفراد المخابرات ومعه اثنتان من اخواته. وعرفنا انه من المخابرات لأنه يلبس ثياباً مدنية وفي كل يوم نشاهده عند احدى بوابات حضرة الإمام علي (ع) يتحدث إلى الشرطة بين فترة وأخرى ويتفحص كل ما يدور من حوله ويداوم يومياً في المكان نفسه.
لم يكتفِ بعمله بل بدأ باستهداف الوالد والتعرض اليه وكل يوم يوقف الوالد ويقول له «لدينا ماء في المنزل يأتي من جهتكم»... ومرة أخرى يقول شيئاً آخر، حتى تجرأ مرة وأوقف الوالد في سوق العمارة محاولاً الاعتداء عليه بالضرب. كان الوالد بالقرب من دكان «القصاب»، واسمه «لطيف»، الذي نشتري منه اللحم وكان القصاب صديق الوالد، وعندما شاهد شخصاً يحاول الاعتداء عليه حمل سكينه الكبيرة وركض باتجاه ذلك الشخص السيئ. وكالعادة، فالجبناء من أتباع حزب البعث يخافون عندما ترد عليهم، فما كان من ذلك الذئب المفترس إلا أن يخضع ويتنازل ويطلب مصالحة الوالد وانه جار يبحث عن تفاهم وليس عن مشكلات.
الوالد كان لديه اصدقاء كثيرون في الاسواق المحيطة بنا. فالرسائل والبرقيات من البحرين كانت تصل الى دكان في سوق العمارة لصاحبه «حسين العذاري»، والوالد يمر يوميا على الدكان. وكان هناك ايضا في سوق العمارة دكان جواد المظفر الذي كنا نشتري منه المواد الغذائية. كثير من الدكاكين كانت ترفع شعار «الدين ممنوع»، وكنت اسأل نفسي، لماذا يمنعون الدين، وكنت اعتقد ان المقصود بذلك دين الاسلام، الى ان عرف بعض افراد عائلتي تفسيري لما كنت اقرأه وسخروا مني وأوضحوا ان الشعار يعني «الاستلاف ممنوع».
كان الوالد يذهب يوميا تقريبا الى سوق لبيع الكتب محاذية لسوق الحويش، وكنت اذهب معه، وكان كل يوم يشتر كتاب صغير أو كبير... وقرر ذات يوم اعادة تنظيم مكتبته في المنزل، وقام بتجليد الكتب وجمع الكتب الصغيرة في مجلدات قوية، ومن ثم ذهب الى نجار وطلب منه صناعة طاولة تناسب جلسة الوالد على الارض، اذ كان الوالد يجلس على الارض ويسحب الطاولة لتغطي ركبتيه ويبدأ بالقراء والكتابة... وكنت قد ذهبت معه الى النجار عدة مرات، ويوم اكتملت الطاولة جاء بها فرحاً الى مجلسه إذ توجد مكتبته الخاصة، ووضعها وجربها وكان سعيدا بها، واعتبرها قوية جدا... فجأة خطرت ببالي فكرة لاختبار قوتها، وهرعت الى مطرقة كان يستخدمها الوالد، ورفعت المطرقة الى اعلى شيء وهويت بها على الطاولة، فما كان من مقدمة المطرقة الا واخترقت سطح الطاولة الجميل جدا...
الوالد غضب مني كثيرا، وركض خلفي لمعاقبتي لانني خربت طاولته في اليوم الاول لاستلامها، ولكنني اعرف كيف اوقف مطاردته لي، فهرعت الى أعلى السطح، وهناك اركب فوق حائط السطح المصنوع من مواد عدة من بينها «صفيح الجينكو»، وبعد ذلك أضع رجل على حائط منزلنا، ورجل اخرى على حائط الجيران... الوالد يتوقف فجأة، فالفكرة تنجح في كل مرة، لانه اذا طاردني فقد اقع بين الجدارين الى الارض، ولكنني لن اصل الى الأرض اذا وقعت، لان اسلاك الكهرباء الممدودة بين المنازل كثيرة، والموت ستكون نتيجة شبه مؤكدة. الوالد يتراجع الى الخلف وينزل من على السطح، وابقى فترة حتى يهدأ روعه وانزل من ذلك المكان... الفكرة كانت تتكرر وتنجح، ولذا، اذا كان الوالد يريد معاقبتي، فإن اول شيء يعمله هو قفل الباب المؤدي الى سطح المنزل.
منقول
ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف
الوسط - منصور الجمري
ارتبطت أماكن سكنت فيها سنوات كثيرة من عمري بشخصيتي وأثرت عليّ كثيراً... فمنذ أن كنت صغيراً أخذني والدي (المرحوم الشيخ عبد الامير الجمري) مع والدتي وأخي الأكبر محمد جميل الذي يكبرني بعامين إلى النجف الأشرف في العراق بعد أن قرر مواصلة علومه الدينية هناك، وذلك في العام 1962. كان عمري حينها عدة أشهر (ولدت في 17 ديسمبر 1961) وعندما فتحت عيني وبدأت أدرك ما حولي كانت والدتي قد أنجبت أختي عفاف التي تصغرني بسنتين... وعندما استقر الوالد في النجف نزل في منزل متواضع، ومن ثم انتقل الى آخر في منطقة الحويش.
النجف مدينة الإمام علي (ع) صعبة جداً في جوانب عدة... فهي مركز للعلوم الدينية ولمراجع الدين منذ الف عام وكثير من منشآتها تحمل اسماء ترتبط «بالهنود»، مثل الجامع الهندي والقناة الهندية، الخ، وذلك لأن الهنود الشيعة الذين كانوا يحكمون إحدى الولايات الهندية (ولاية عوض في شمال الهند) حتى القرن التاسع عشر الميلادي كانوا يدفعون الأموال الطائلة للمراجع ولمد قنوات المياه وتعمير المساجد وتوفير الخدمات في النجف الاشرف وفي كربلاء المقدسة أيضا. بيوت النجف تحتوي على «سرداب» والسرداب يحتوي على حفيرة (بئر ماء) مرتبطة تاريخياً بالقنوات التي كانت تمد المدينة بالماء. والسرداب عادة مظلم، بل إنه مخيف لارتباط كثير من حكايات وأساطير «الجن» بالبئر الموجود في السرداب. ولذلك فإنه مقفل إلا إذا قرر الوالد استخدامه في الصيف (لأنه بارد) لاستقبال الضيوف، أو لتبريد بعض المأكولات، مثل البطيخ الأحمر.
إقفال السرداب قد يخلصك من «الجن» ولكن عليك ان تقفل الباب الرئيسي بثلاثة أنواع من الأقفال وإلا فإنك قد تسرق في وضح النهار. كما ان عليك الامتناع عن الخروج من المنزل ما بين الساعة الثانية عشرة ظهراً حتى الثانية بعد الظهر وثم بعد العاشرة مساءً. في الظهيرة ينتشر بعض أصحاب السوء للسلب وغير السلب وفي الليل (بعد العاشرة مساء) تبدأ الكلاب الضالة، وبعضها حجمها كبير جداً وأصواتها مزعجة، بغزو طرق المدينة ومعهم أصحاب السوء أيضاً.
في الأوقات «الآمنة» الأخرى عليك الاحتراز فيما لو مر عليك شباب من أبناء إحدى العشائر النجفية... شباب العشائر يمشون جماعات جماعات ولهم الطريق والاولوية. وذات مرة كنا نلعب أمام منزل الشيخ علي الجزائري، وهو عالم دين فاضل كان يدرس لديه الوالد أصول الفقه، وبينما كنت ألعب مع ابنهم عصام لعبة «الدعبل» او ما يسميها أهل البحرين بـ «التيلة» مر علينا شخص واحد عرفنا لاحقاً انه من ابناء إحدى العشائر الكبيرة. هذا الشخص لم يتعطل عندما مر بنا اذ قام بجمع «الدعبل» التي كنا نلعب بها ووضعها في جيبه. غير ان احد ابناء الشيخ الجزائري (وكان يكبرنا سناً) كان موجوداً بالقرب منا فتدخل وأمسك بذلك الشخص وأمره بإرجاع «الدعبل» حالاً. فما كان من ذلك الشخص الا ان قال «هل تعلم انني من آل بو...؟». فرد عليه ابن الشيخ الجزائري «قز القط»، وهي الأقرب لما يقوله أهل البحرين «طز»... الشخص الذي سلبنا أرجع «الدعبل» إلينا، إلا انه قال إنه سيعود في يوم الغد مع شباب عشيرته لكي يلقننا درساً لن ننساه.
ابناء الشيخ الجزائري توجهوا لشباب الجيران في الحي الذي نعيش فيه (عقد ابو الحسن الواقع في حي الحويش) وأخبروهم بأن «آل بو...» سيهجمون علينا يوم غد وعلينا الاستعداد. الجيران كانوا من العراقيين، وبعضهم كان من أصل إيراني، ولكنهم شعروا بالخطر يدهمهم فبدأوا الاستعداد عبر جمع الاخشاب ووسائل الدفاع الأخرى عند اشتباك الأيدي.
في اليوم الثاني عصراً، هجم شباب العشيرة النجفية المذكورة وبدأ العراك والضرب والشتم وما يشبه تكسير الابواب. غير ان شباب الحي تصدوا بجدارة لشباب العشيرة التي كان يهابها الجميع. ولذلك قام شباب العشيرة بتحويل هجومهم؛ إذ صادف مرور شاب إيراني (ليس من الحي) وكان المسكين لا يدري ماذا يدور، فانهالوا عليه بالضرب المبرح ولم يتركوه الا بعد أن شارف على الموت... وبعد ذلك نادوا شباب الحي وصالحوهم قائلين ان «المشكلة هي مع العجم فقط».
كانت تلك السنوات العجاف هي بداية وصول حزب البعث للسلطة، وكان الحزب ينشر الشعارات المعادية للإيرانيين في المدارس وفي كل مكان. بل ان المدرسين المنتمين لحزب البعث كانوا يقولون لنا اثناء التدريس «تستطيعون ضرب أي شخص عجمي (يعني إيراني الاصل) ولا يستطيع ان يفعل شيئاً، واذا ذهب إلى الشرطة فإنه سيحصل على مزيد من الضرب».
عندما وصل حزب البعث إلى الحكم في العام 1968 بدأت الحياة تتغير كثيراً. فبالنسبة إلينا كطلاب في الابتدائية شاهدنا كثيراً من الامور. في البداية كانت الكتب تتغير، وبدلاً من سورة الحمد او آية البسملة على الصفحات الأولى من الكتاب وجدنا بعض الكلمات المنسوبة لـ «القائد أحمد حسن البكر».
المدرسون البعثيون يمشون بزهو ويستطيعون تغيير الدرس من أية مادة إلى موضوع عن حزب البعث العربي الاشتراكي وعن شعاراته «وحدة وحرية واشتراكية»، «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»... إلخ. لا يجرؤ أي شخص على الاعتراض لان المدرسة ليست فقط مدرسة. فكل مدرس وكل فراش يحمل بيده «خيزران» وكل واحد منهم (حتى الفراش / حارس المدرسة) يستطيع ايقاف أي تلميذ وضربه بصورة مبرحة جداً ولا يوجد احد ينقذه. بل ان المدرس يستطيع ان يستعمل «الفلقة» مع التلاميذ. ولاستخدام «الفلقة» يأمر المدرس التلميذ بنزع حذائه وثم يأمر اثنين من الاشخاص بوضع «الفلقة» على رجليه ويتم رفع الرجلين إلى اعلى وعندما ينكشف اسفل القدمين ينهال المدرس على التلميذ بالخيزران بصورة شرسة بحيث لا يستطيع التلميذ المشي بعد ذلك.
قلائل هم الذين لم يحصلوا على ضرب الفلقة، اما الخيزران فلا يوجد احد لم يحصل عليه. لان المدرس يضرب لأتفه الاسباب. ومن القلائل الذين لم يتعرضوا لضرب الفلقة هم التلاميذ البحرينيون، أو ما يسميهم العراقيون «البحارنة».
«البحارنة» في مدرستي آنذاك (مدرسة الطالبية) كانوا أنا وأخي الاكبر (وفي آخر سنة لي في النجف كنت في الصف الخامس وكان قد دخل الصف الأول اخي صادق الذي يصغرني بأربع سنوات) وابناء السيدجواد الوداعي وابناء السيدشرف الخابوري (والذي كانوا يعتبرونهم من «البحارنة» على رغم انهم عمانيون) وفي احدى السنوات كان معنا ايضا سامي ابن الشيخ عيسى أحمد قاسم قبل ان ينتقل إلى مدرسة أخرى، وعدد آخر من أبناء طلبة العلوم الدينية.
هؤلاء «البحارنة» كانوا اهدأ التلاميذ ويحاولون الابتعاد عن المشكلات ما استطاعوا ذلك. وكانوا هم ايضا الذين يلتزمون بالفرائض الدينية أكثر من غيرهم، ويبدو ذلك واضحاً في شهر رمضان. ففي هذا الشهر المبارك يصوم التلاميذ البحارنة (الصغار الذين لا يستطيعون الصيام يقللون من اكلهم)، كما ويصوم معهم مدير المدرسة ونائب المدير وعدد قليل من المدرسين وربما بعض التلاميذ. احد المعلمين كان عالم دين يلبس العمامة الدينية (ويطلق عليهم العراقيون موامنة، ومفرد ذلك مومن)، ومدرس آخر كان يصوم اسمه الاستاذ كاظم عرفت بعد سنوات عدة انه من التيار الاسلامي (حزب الدعوة) الذين نحر اكثرهم نظام حزب البعث في الثمانينات. فيما عدا ذلك، فإن شهر رمضان (في ظل حزب البعث العربي الاشتراكي) لم يكن له أي معنى في مدرسة ابتدائية في مدينة الإمام علي (ع)، فالأكثرية تأكل وتشرب وتدخن. عندما يدخل المدرس إلى الصف فان رائحة دخان السجائر تصل إلى كل مكان.
طابور المدرسة اقرب إلى طابور عسكري، وفي احد الأيام وصلنا المدرسة واذا بها مملوءة بالملصقات والشعارات التي تمجد «حزب البعث» وتتحدث عن امور عدة لم نكن نفهم كثيراً منها. فبالاضافة إلى شعار «نفط العرب للعرب» كانت هناك مقتطفات لـ «الاخ القائد أحمد حسن البكر» الذي كان رئيساً للجمهورية قبل ان يطيح به صدام حسين في العام 1979. وفوجئنا في صباح ذلك اليوم بوقوف نائب المدير الذي كان شخصاً محترماً ومتديناً (ومن اصول إيرانية على ما اعتقد) يخطب فينا عن الاعمال العظيمة التي قام بها حزب البعث لخدمة العراقيين. وبدأ يعدد انجازات الحزب في مدينة «دهوك» شمال العراق وفي بغداد وكيف اقام الطرق وسهل الامور... وبعد ذلك طلب منا ان نخرج في مظاهرة تأييدية لحزب العبث. كان ذلك كما اعتقد في العام 1970 أو 1971.
دخلنا الصفوف وكثير منا خائفون وكان يجلس بجانبي السيدعلي بن السيدشرف الخابوري وبعد عدة طاولات كان هناك السيدمحسن بن السيدجواد الوداعي، وبدأت انظر اليهما وماذا كان سيفعلان. التفت إلى السيدعلي وقلت له «لقد حذرني والدي من البعثيين والبعثي لايؤمن بالدين، مثل الكافر، ماذا نعمل؟». بعد عدة مداولات قررنا ان «نتظاهر» بالهتاف من خلال تحريك الشفاه ولكن من دون النطق بالشعارات لاننا اذا لم نشارك فان مصيراً اسود ربما ينتظرنا.
جاء المدرسون واخرجونا من الصفوف بعد ان هتفوا عدة شعارات مثل «وحدة وحرية واشتراكية، أحمد قائدنا واحنا بعثية»، «امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» إلخ... المقصود بأحمد هو أحمد حسن البكر الذي حكم ما بين 1968 و1979. خرجنا ونحن خائفون وبدأنا نحرك الشفاه من دون ان ننطق بأي من تلك الشعارات الصاخبة. امرنا المعلمون بالذهاب إلى المدارس الأخرى واخراج تلاميذها. وفعلاً كان يقودنا بعض المعلمين البعثيين لاسيما معلم الرياضة وكنا ندخل المدارس ونخرج التلاميذ. وعندما نمر امام مركز شرطة يزداد الحماس في الشعارات، ويقوم الشرطة برفع قبضات ايديهم مؤيدين لما نقول. ثم وصلنا إلى مدرسة رفض مديرها ان يخرج التلاميذ فما كان من تلاميذ مدرستنا الا انهالوا بالحجارة على المدرسة محاولين كسر بوابتها. واثناء القذف بالحجارة توقفت شعارات البعث وبدأت شعارات سوقية تشتم من بداخل تلك المدرسة. واخف شعار يمكن كتابته كان «ابو عقال لا تنقهر ترى الافندي قندرة». و«ابو عقال» هو الإنسان العادي الذي يلبس عقالا خارج المدرسة والافندي هم المدرسون والتلاميذ الذين يمنعون من لباس «العقال»، و»القندرة» تعني «الحذاء». ومعنى الشعار ان المدرس الذي منع تلاميذه عن الخروج انما هو «قندرة» (حذاء).
بعد ان أشبعوا تلك المدرسة رمياً بالحجارة توجهوا إلى مدرسة إيرانية بالقرب منها وانهالوا عليها بالحجارة والشتائم الشخصية والعنصرية التي كان يطلقها افراد حزب البعث (من المدرسين) الذي قادوا المظاهرة. ومن تلك الشعارات «العرب فوق المنارة والعجم بالطهارة»، و«الطهارة» هي المرحاض.
كنا اثناء القذف بالحجارة ننزوي بعيداً لكيلا نتورط في ايذاء أناس آخرين نتفق أساسا معهم في عدم الخروج. كنا صغار السن والحوادث كانت اكبر منا بكثير ولا نعلم شيئاً عن خلفياتها الهوجاء، فما عسى من كان عمره 9 او 10 أعوام ان يفهم كل الامور التي تدور حوله؟
مظاهرة اخرى خرجنا فيها - مرغمين - كانت ضد حزب البعث، والحزب الشيوعي هو الذي اخرجها، حملت احد شعاراته آنذاك «الوحدة الوحدة ياطلاب»... كنا قد انتقلنا لفترة وجيزة في مبنى مؤقت للمدرسة لاجراء بعض الاصلاحات في المدرسة الاصلية، وعند خروجنا من الدوام في احدى الايام الممطرة بدأ عدد من الطلاب الذين كانوا قد اتفقوا على اخراج التظاهرة بالضرب على الكتب والتصفيق والهتاف «الوحدة الوحدة ياطلاب»... الشعار كان جميلا، وسرعان ما اشترك الاكثرية في الهتاف، وتفرقت المظاهرة بسرعة... غير ان طابور اليوم التالي كان تحقيقا من المدرسين البعثيين بحثا عن الذين حرضوا عليها، وبالطبع فقد لاقى عدد من الطلاب نصيبهم من الضرب المبرح.
مظاهرة اخرى شاهدتها، من دون المشاركة فيها، كانت إما بمناسبة عيد الجيش او عيد العمال (لا أتذكر)، وكان كل الموظفين والعمال قد تركوا عملهم (ربما خوفا من العقاب او طمعا في المشي والصراخ) واشتركوا في تلك المظاهرة... اثناء انعقاد تلك المسيرة، كان المتظاهرون يضربون شخصا رفض الانضمام اليهم، وكانت وسيلة الضرب مؤلمة، فكل شخص يقوم بضربه بقوة خلف رقبته، ويدفعه الى الامام (أضرب وأشمر)، ويصرخ «خائن» ويأمر الآخرين بانه يتوجب عليهم ضربه الى ان يصل الى مقدمة المظاهرة، وهناك يتم تسليمه الى الشرطة... لم استطع الاستمرار في متابعة ماجرى لذلك الرجل المسكين، فالمظاهرة طويلة جدا، واحتمال اما انه اغمي عليه قبل ان يسلم الى الشرطة، وربما حدث له امر اسوأ من ذلك.
مدرستنا (الطالبية الابتدائية للبنين) كانت مكتظة جدا في الصباح، وفي المساء تتحول الى مدرسة اخرى باسم آخر، وفي المساء تتحول الى مدرسة ثالثة باسم آخر ايضا. فراش (حارس) المدرسة كان لقبه «عمي حسين»، وشخصيته قوية جداً وتنافس المدير، اذ كان يعتقد ان من حقه ان يأمر ويضرب التلاميذ سواء كانوا داخل المدرسة ام خارجها. اما نحن فكنا نغتنم بعض الفرص (خارج الدوام) لاثارته عبر اطلاق بعض العبارات والهرب قبل ان يرى وجوهنا ويتعرف علينا، ومن تلك العبارات «عمي حسين، اقعد زين، بيع الطماطة بفلسين». ولقد كنا نشتري المأكولات حينها بفلس او فلسين او عدة فلوس... وكانت عشرة الفلوس العراقية آنذاك شيء كبير اذ انها كانت تعطيك وجبة كاملة.
التحريض البعثي ضد «العجم» لم يكن له حدود، فكل عراقي من اصل إيراني (عجمي) خائن يجب طرده من العراق، وكل عراقي من اصل عربي ويعارض نظام البعث يلصقون به تهمة العمالة لتركيا آنذاك، وعلى العراقيين انذاك ان يختاروا بين ان يكونوا بعثيين، او عملاء لايران او عملاء لتركيا.
تهمة العمالة لتركيا ألصقت برموز عشائرية ودينية كبيرة. وعلى أساس ذلك تم اعتقال وإعدام ومطاردة عدد غير قليل من العراقيين عند وصول حزب البعث الى الحكم في 1968. ومن الذين أصابهم البعث بتهمه العمالة لتركيا كان الشهيد السيدمهدي بن الإمام محسن الحكيم الذي كان يعتبر الذراع اليمنى لوالده. وعندما وُجهت تهمة العمالة لتركيا هرب من العراق إلى البحرين ثم الامارات، وبعد ذلك إلى باكستان ثم إلى لندن وتم اغتياله في الخرطوم في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بعد قرابة عشرين عاماً من المطاردة البعثية.
الوسط - منصور الجمري
ارتبطت أماكن سكنت فيها سنوات كثيرة من عمري بشخصيتي وأثرت عليّ كثيراً... فمنذ أن كنت صغيراً أخذني والدي (المرحوم الشيخ عبد الامير الجمري) مع والدتي وأخي الأكبر محمد جميل الذي يكبرني بعامين إلى النجف الأشرف في العراق بعد أن قرر مواصلة علومه الدينية هناك، وذلك في العام 1962. كان عمري حينها عدة أشهر (ولدت في 17 ديسمبر 1961) وعندما فتحت عيني وبدأت أدرك ما حولي كانت والدتي قد أنجبت أختي عفاف التي تصغرني بسنتين... وعندما استقر الوالد في النجف نزل في منزل متواضع، ومن ثم انتقل الى آخر في منطقة الحويش.
النجف مدينة الإمام علي (ع) صعبة جداً في جوانب عدة... فهي مركز للعلوم الدينية ولمراجع الدين منذ الف عام وكثير من منشآتها تحمل اسماء ترتبط «بالهنود»، مثل الجامع الهندي والقناة الهندية، الخ، وذلك لأن الهنود الشيعة الذين كانوا يحكمون إحدى الولايات الهندية (ولاية عوض في شمال الهند) حتى القرن التاسع عشر الميلادي كانوا يدفعون الأموال الطائلة للمراجع ولمد قنوات المياه وتعمير المساجد وتوفير الخدمات في النجف الاشرف وفي كربلاء المقدسة أيضا. بيوت النجف تحتوي على «سرداب» والسرداب يحتوي على حفيرة (بئر ماء) مرتبطة تاريخياً بالقنوات التي كانت تمد المدينة بالماء. والسرداب عادة مظلم، بل إنه مخيف لارتباط كثير من حكايات وأساطير «الجن» بالبئر الموجود في السرداب. ولذلك فإنه مقفل إلا إذا قرر الوالد استخدامه في الصيف (لأنه بارد) لاستقبال الضيوف، أو لتبريد بعض المأكولات، مثل البطيخ الأحمر.
إقفال السرداب قد يخلصك من «الجن» ولكن عليك ان تقفل الباب الرئيسي بثلاثة أنواع من الأقفال وإلا فإنك قد تسرق في وضح النهار. كما ان عليك الامتناع عن الخروج من المنزل ما بين الساعة الثانية عشرة ظهراً حتى الثانية بعد الظهر وثم بعد العاشرة مساءً. في الظهيرة ينتشر بعض أصحاب السوء للسلب وغير السلب وفي الليل (بعد العاشرة مساء) تبدأ الكلاب الضالة، وبعضها حجمها كبير جداً وأصواتها مزعجة، بغزو طرق المدينة ومعهم أصحاب السوء أيضاً.
في الأوقات «الآمنة» الأخرى عليك الاحتراز فيما لو مر عليك شباب من أبناء إحدى العشائر النجفية... شباب العشائر يمشون جماعات جماعات ولهم الطريق والاولوية. وذات مرة كنا نلعب أمام منزل الشيخ علي الجزائري، وهو عالم دين فاضل كان يدرس لديه الوالد أصول الفقه، وبينما كنت ألعب مع ابنهم عصام لعبة «الدعبل» او ما يسميها أهل البحرين بـ «التيلة» مر علينا شخص واحد عرفنا لاحقاً انه من ابناء إحدى العشائر الكبيرة. هذا الشخص لم يتعطل عندما مر بنا اذ قام بجمع «الدعبل» التي كنا نلعب بها ووضعها في جيبه. غير ان احد ابناء الشيخ الجزائري (وكان يكبرنا سناً) كان موجوداً بالقرب منا فتدخل وأمسك بذلك الشخص وأمره بإرجاع «الدعبل» حالاً. فما كان من ذلك الشخص الا ان قال «هل تعلم انني من آل بو...؟». فرد عليه ابن الشيخ الجزائري «قز القط»، وهي الأقرب لما يقوله أهل البحرين «طز»... الشخص الذي سلبنا أرجع «الدعبل» إلينا، إلا انه قال إنه سيعود في يوم الغد مع شباب عشيرته لكي يلقننا درساً لن ننساه.
ابناء الشيخ الجزائري توجهوا لشباب الجيران في الحي الذي نعيش فيه (عقد ابو الحسن الواقع في حي الحويش) وأخبروهم بأن «آل بو...» سيهجمون علينا يوم غد وعلينا الاستعداد. الجيران كانوا من العراقيين، وبعضهم كان من أصل إيراني، ولكنهم شعروا بالخطر يدهمهم فبدأوا الاستعداد عبر جمع الاخشاب ووسائل الدفاع الأخرى عند اشتباك الأيدي.
في اليوم الثاني عصراً، هجم شباب العشيرة النجفية المذكورة وبدأ العراك والضرب والشتم وما يشبه تكسير الابواب. غير ان شباب الحي تصدوا بجدارة لشباب العشيرة التي كان يهابها الجميع. ولذلك قام شباب العشيرة بتحويل هجومهم؛ إذ صادف مرور شاب إيراني (ليس من الحي) وكان المسكين لا يدري ماذا يدور، فانهالوا عليه بالضرب المبرح ولم يتركوه الا بعد أن شارف على الموت... وبعد ذلك نادوا شباب الحي وصالحوهم قائلين ان «المشكلة هي مع العجم فقط».
كانت تلك السنوات العجاف هي بداية وصول حزب البعث للسلطة، وكان الحزب ينشر الشعارات المعادية للإيرانيين في المدارس وفي كل مكان. بل ان المدرسين المنتمين لحزب البعث كانوا يقولون لنا اثناء التدريس «تستطيعون ضرب أي شخص عجمي (يعني إيراني الاصل) ولا يستطيع ان يفعل شيئاً، واذا ذهب إلى الشرطة فإنه سيحصل على مزيد من الضرب».
عندما وصل حزب البعث إلى الحكم في العام 1968 بدأت الحياة تتغير كثيراً. فبالنسبة إلينا كطلاب في الابتدائية شاهدنا كثيراً من الامور. في البداية كانت الكتب تتغير، وبدلاً من سورة الحمد او آية البسملة على الصفحات الأولى من الكتاب وجدنا بعض الكلمات المنسوبة لـ «القائد أحمد حسن البكر».
المدرسون البعثيون يمشون بزهو ويستطيعون تغيير الدرس من أية مادة إلى موضوع عن حزب البعث العربي الاشتراكي وعن شعاراته «وحدة وحرية واشتراكية»، «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»... إلخ. لا يجرؤ أي شخص على الاعتراض لان المدرسة ليست فقط مدرسة. فكل مدرس وكل فراش يحمل بيده «خيزران» وكل واحد منهم (حتى الفراش / حارس المدرسة) يستطيع ايقاف أي تلميذ وضربه بصورة مبرحة جداً ولا يوجد احد ينقذه. بل ان المدرس يستطيع ان يستعمل «الفلقة» مع التلاميذ. ولاستخدام «الفلقة» يأمر المدرس التلميذ بنزع حذائه وثم يأمر اثنين من الاشخاص بوضع «الفلقة» على رجليه ويتم رفع الرجلين إلى اعلى وعندما ينكشف اسفل القدمين ينهال المدرس على التلميذ بالخيزران بصورة شرسة بحيث لا يستطيع التلميذ المشي بعد ذلك.
قلائل هم الذين لم يحصلوا على ضرب الفلقة، اما الخيزران فلا يوجد احد لم يحصل عليه. لان المدرس يضرب لأتفه الاسباب. ومن القلائل الذين لم يتعرضوا لضرب الفلقة هم التلاميذ البحرينيون، أو ما يسميهم العراقيون «البحارنة».
«البحارنة» في مدرستي آنذاك (مدرسة الطالبية) كانوا أنا وأخي الاكبر (وفي آخر سنة لي في النجف كنت في الصف الخامس وكان قد دخل الصف الأول اخي صادق الذي يصغرني بأربع سنوات) وابناء السيدجواد الوداعي وابناء السيدشرف الخابوري (والذي كانوا يعتبرونهم من «البحارنة» على رغم انهم عمانيون) وفي احدى السنوات كان معنا ايضا سامي ابن الشيخ عيسى أحمد قاسم قبل ان ينتقل إلى مدرسة أخرى، وعدد آخر من أبناء طلبة العلوم الدينية.
هؤلاء «البحارنة» كانوا اهدأ التلاميذ ويحاولون الابتعاد عن المشكلات ما استطاعوا ذلك. وكانوا هم ايضا الذين يلتزمون بالفرائض الدينية أكثر من غيرهم، ويبدو ذلك واضحاً في شهر رمضان. ففي هذا الشهر المبارك يصوم التلاميذ البحارنة (الصغار الذين لا يستطيعون الصيام يقللون من اكلهم)، كما ويصوم معهم مدير المدرسة ونائب المدير وعدد قليل من المدرسين وربما بعض التلاميذ. احد المعلمين كان عالم دين يلبس العمامة الدينية (ويطلق عليهم العراقيون موامنة، ومفرد ذلك مومن)، ومدرس آخر كان يصوم اسمه الاستاذ كاظم عرفت بعد سنوات عدة انه من التيار الاسلامي (حزب الدعوة) الذين نحر اكثرهم نظام حزب البعث في الثمانينات. فيما عدا ذلك، فإن شهر رمضان (في ظل حزب البعث العربي الاشتراكي) لم يكن له أي معنى في مدرسة ابتدائية في مدينة الإمام علي (ع)، فالأكثرية تأكل وتشرب وتدخن. عندما يدخل المدرس إلى الصف فان رائحة دخان السجائر تصل إلى كل مكان.
طابور المدرسة اقرب إلى طابور عسكري، وفي احد الأيام وصلنا المدرسة واذا بها مملوءة بالملصقات والشعارات التي تمجد «حزب البعث» وتتحدث عن امور عدة لم نكن نفهم كثيراً منها. فبالاضافة إلى شعار «نفط العرب للعرب» كانت هناك مقتطفات لـ «الاخ القائد أحمد حسن البكر» الذي كان رئيساً للجمهورية قبل ان يطيح به صدام حسين في العام 1979. وفوجئنا في صباح ذلك اليوم بوقوف نائب المدير الذي كان شخصاً محترماً ومتديناً (ومن اصول إيرانية على ما اعتقد) يخطب فينا عن الاعمال العظيمة التي قام بها حزب البعث لخدمة العراقيين. وبدأ يعدد انجازات الحزب في مدينة «دهوك» شمال العراق وفي بغداد وكيف اقام الطرق وسهل الامور... وبعد ذلك طلب منا ان نخرج في مظاهرة تأييدية لحزب العبث. كان ذلك كما اعتقد في العام 1970 أو 1971.
دخلنا الصفوف وكثير منا خائفون وكان يجلس بجانبي السيدعلي بن السيدشرف الخابوري وبعد عدة طاولات كان هناك السيدمحسن بن السيدجواد الوداعي، وبدأت انظر اليهما وماذا كان سيفعلان. التفت إلى السيدعلي وقلت له «لقد حذرني والدي من البعثيين والبعثي لايؤمن بالدين، مثل الكافر، ماذا نعمل؟». بعد عدة مداولات قررنا ان «نتظاهر» بالهتاف من خلال تحريك الشفاه ولكن من دون النطق بالشعارات لاننا اذا لم نشارك فان مصيراً اسود ربما ينتظرنا.
جاء المدرسون واخرجونا من الصفوف بعد ان هتفوا عدة شعارات مثل «وحدة وحرية واشتراكية، أحمد قائدنا واحنا بعثية»، «امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» إلخ... المقصود بأحمد هو أحمد حسن البكر الذي حكم ما بين 1968 و1979. خرجنا ونحن خائفون وبدأنا نحرك الشفاه من دون ان ننطق بأي من تلك الشعارات الصاخبة. امرنا المعلمون بالذهاب إلى المدارس الأخرى واخراج تلاميذها. وفعلاً كان يقودنا بعض المعلمين البعثيين لاسيما معلم الرياضة وكنا ندخل المدارس ونخرج التلاميذ. وعندما نمر امام مركز شرطة يزداد الحماس في الشعارات، ويقوم الشرطة برفع قبضات ايديهم مؤيدين لما نقول. ثم وصلنا إلى مدرسة رفض مديرها ان يخرج التلاميذ فما كان من تلاميذ مدرستنا الا انهالوا بالحجارة على المدرسة محاولين كسر بوابتها. واثناء القذف بالحجارة توقفت شعارات البعث وبدأت شعارات سوقية تشتم من بداخل تلك المدرسة. واخف شعار يمكن كتابته كان «ابو عقال لا تنقهر ترى الافندي قندرة». و«ابو عقال» هو الإنسان العادي الذي يلبس عقالا خارج المدرسة والافندي هم المدرسون والتلاميذ الذين يمنعون من لباس «العقال»، و»القندرة» تعني «الحذاء». ومعنى الشعار ان المدرس الذي منع تلاميذه عن الخروج انما هو «قندرة» (حذاء).
بعد ان أشبعوا تلك المدرسة رمياً بالحجارة توجهوا إلى مدرسة إيرانية بالقرب منها وانهالوا عليها بالحجارة والشتائم الشخصية والعنصرية التي كان يطلقها افراد حزب البعث (من المدرسين) الذي قادوا المظاهرة. ومن تلك الشعارات «العرب فوق المنارة والعجم بالطهارة»، و«الطهارة» هي المرحاض.
كنا اثناء القذف بالحجارة ننزوي بعيداً لكيلا نتورط في ايذاء أناس آخرين نتفق أساسا معهم في عدم الخروج. كنا صغار السن والحوادث كانت اكبر منا بكثير ولا نعلم شيئاً عن خلفياتها الهوجاء، فما عسى من كان عمره 9 او 10 أعوام ان يفهم كل الامور التي تدور حوله؟
مظاهرة اخرى خرجنا فيها - مرغمين - كانت ضد حزب البعث، والحزب الشيوعي هو الذي اخرجها، حملت احد شعاراته آنذاك «الوحدة الوحدة ياطلاب»... كنا قد انتقلنا لفترة وجيزة في مبنى مؤقت للمدرسة لاجراء بعض الاصلاحات في المدرسة الاصلية، وعند خروجنا من الدوام في احدى الايام الممطرة بدأ عدد من الطلاب الذين كانوا قد اتفقوا على اخراج التظاهرة بالضرب على الكتب والتصفيق والهتاف «الوحدة الوحدة ياطلاب»... الشعار كان جميلا، وسرعان ما اشترك الاكثرية في الهتاف، وتفرقت المظاهرة بسرعة... غير ان طابور اليوم التالي كان تحقيقا من المدرسين البعثيين بحثا عن الذين حرضوا عليها، وبالطبع فقد لاقى عدد من الطلاب نصيبهم من الضرب المبرح.
مظاهرة اخرى شاهدتها، من دون المشاركة فيها، كانت إما بمناسبة عيد الجيش او عيد العمال (لا أتذكر)، وكان كل الموظفين والعمال قد تركوا عملهم (ربما خوفا من العقاب او طمعا في المشي والصراخ) واشتركوا في تلك المظاهرة... اثناء انعقاد تلك المسيرة، كان المتظاهرون يضربون شخصا رفض الانضمام اليهم، وكانت وسيلة الضرب مؤلمة، فكل شخص يقوم بضربه بقوة خلف رقبته، ويدفعه الى الامام (أضرب وأشمر)، ويصرخ «خائن» ويأمر الآخرين بانه يتوجب عليهم ضربه الى ان يصل الى مقدمة المظاهرة، وهناك يتم تسليمه الى الشرطة... لم استطع الاستمرار في متابعة ماجرى لذلك الرجل المسكين، فالمظاهرة طويلة جدا، واحتمال اما انه اغمي عليه قبل ان يسلم الى الشرطة، وربما حدث له امر اسوأ من ذلك.
مدرستنا (الطالبية الابتدائية للبنين) كانت مكتظة جدا في الصباح، وفي المساء تتحول الى مدرسة اخرى باسم آخر، وفي المساء تتحول الى مدرسة ثالثة باسم آخر ايضا. فراش (حارس) المدرسة كان لقبه «عمي حسين»، وشخصيته قوية جداً وتنافس المدير، اذ كان يعتقد ان من حقه ان يأمر ويضرب التلاميذ سواء كانوا داخل المدرسة ام خارجها. اما نحن فكنا نغتنم بعض الفرص (خارج الدوام) لاثارته عبر اطلاق بعض العبارات والهرب قبل ان يرى وجوهنا ويتعرف علينا، ومن تلك العبارات «عمي حسين، اقعد زين، بيع الطماطة بفلسين». ولقد كنا نشتري المأكولات حينها بفلس او فلسين او عدة فلوس... وكانت عشرة الفلوس العراقية آنذاك شيء كبير اذ انها كانت تعطيك وجبة كاملة.
التحريض البعثي ضد «العجم» لم يكن له حدود، فكل عراقي من اصل إيراني (عجمي) خائن يجب طرده من العراق، وكل عراقي من اصل عربي ويعارض نظام البعث يلصقون به تهمة العمالة لتركيا آنذاك، وعلى العراقيين انذاك ان يختاروا بين ان يكونوا بعثيين، او عملاء لايران او عملاء لتركيا.
تهمة العمالة لتركيا ألصقت برموز عشائرية ودينية كبيرة. وعلى أساس ذلك تم اعتقال وإعدام ومطاردة عدد غير قليل من العراقيين عند وصول حزب البعث الى الحكم في 1968. ومن الذين أصابهم البعث بتهمه العمالة لتركيا كان الشهيد السيدمهدي بن الإمام محسن الحكيم الذي كان يعتبر الذراع اليمنى لوالده. وعندما وُجهت تهمة العمالة لتركيا هرب من العراق إلى البحرين ثم الامارات، وبعد ذلك إلى باكستان ثم إلى لندن وتم اغتياله في الخرطوم في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بعد قرابة عشرين عاماً من المطاردة البعثية.
منقول من شبكة البتول
العلامة المجاهد الشيخ الجمري والجانب الأسري في حياته
حسين الناصري - 08/01/2008م - 10:51 م
--------------------------------------------------------------------------------
حينما تتصفح الصفحات الأسرية تجد كيف أن هذه الشخصية العظيمة كانت تعيش حياة سعيدة بفضل إيمانه ودماثة خلقه وسلوكياته العالية مع أقرب الناس إليه وهي زوجته "زهراء" والذي ساعد على ذلك هو التوافق بين الطرفين إيمانيا و وعيا للحياة وكيفية حسن البعولة والمعاملة ، يذكر سماحة الشيخ الجمري أن زوجته المؤمنة كانت تكن له حبا كبيرا وهو يكن لها كذلك حبا كبيرا ...
العلامة المجاهد الشيخ الجمري والجانب الأسري في حياته
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[1] .
منذ أن خلق الله الإنسان جعل في حياته سنة وفطرة وهي تكوين الأسرة ولاتتحقق هذه الأسرة إلا بزوجين وأبناء، ووضع الله تعالى قوانين وشرائع تقوم هذه الحياة وتضمن لها سلامة الإستمرار وفق التعاليم الربانية وتعاليم الأنبياء والأئمة المعصومين (ع) ومن ركائز نجاح الأسرة المثالية هي المودة والرحمة كما ورد في الآية الشريفة الآنفة الذكر ومن خلال كلمة مودة ورحمة تندرج في سياقها الصدق ،الوفاء ،التضحية ،الإباء ،الحوار ،التفاهم التفاني ، التواضع ، التعاون ، الإيثار ... الخ .
الشيخ الجمري رائدا أسريا:ـ
سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري (رض) كونه رائدا وقائدا وعالما ومعلما وقدوة للأجيال المؤمنة مثل في شخصيته وبفطرته السليمة وتمسكه بأخلاقيات أهل البيت "عليهم السلام" وتعاليمهم المعصومية شكلت هذه المعطيات بأن يكون سماحة الشيخ شخصية مثالية في الجانب الأسري وكيفية التعامل السلوكي أسريا مع الزوجة والأبناء وكيف يربي أسرة مؤمنة مثالية وفي ذات الوقت الذي جاهد نفسه للرقي بأسرته أخلاقيا وسلوكيا وجعلها متمسكة دينيا ومتمسكة بفطرتها الطبيعية وعرفت بأسرة قويمة مستقيمة هذه المثالية أصبحت مرآة للمجتمع وللأجيال المؤمنة وهذا هو ديدن القيادات الرابانية من أمثال شيخنا الجمري يسعون في تربية إطارهم الأسري وإطارهم المجتمعي .
الشيخ الجمري مع زوجته:ـ
حينما تتصفح الصفحات الأسرية تجد كيف أن هذه الشخصية العظيمة كانت تعيش حياة سعيدة بفضل إيمانه ودماثة خلقه وسلوكياته العالية مع أقرب الناس إليه وهي زوجته "زهراء" والذي ساعد على ذلك هو التوافق بين الطرفين إيمانيا و وعيا للحياة وكيفية حسن البعولة والمعاملة ، يذكر سماحة الشيخ الجمري أن زوجته المؤمنة كانت تكن له حبا كبيرا وهو يكن لها كذلك حبا كبيرا وكيف أن زوجته تحملت فقره في الحضر والسفر وتحملت غربته أثناء دراسته الحوزوية على الرغم من معارضة أهلها بعدم سفرها وتغربها إلا أنها أصرت أن تبقى مع زوجها في كل مواقع الحياة وكيف تحملت المعاناة التي لاحقت شيخنا الجمري أثناء نضاله وجهاده ومواجهته وتحديه للظلم والفساد الذي جثم على شعب البحرين من زمرة أمن الدولة الفاسدين والجلادين القساة في بحريننا العزيزة وكيف صبرت وتحملت سجن إبنها البكر لمدة عشرة اعوام وسجن زوج إبنتها لمدة سبعة اعوام وغربة أبنائها قهرا خارج وطنهم وبلدهم البحرين وهنا نص ما ذكره سماحة الشيخ (رض) من شهادة في حق زوجته أم جميل: "ولقد كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام " .. " أما أخلاقها معي وصبرها وحبّها لي فذلك في اعلى المستويات، كما ان حبي لها يكاد يتجاوز الحدود الطبيعية، فحياتنا الزوجية سعيدة جدا، لله الحمد والمنة على حسن توفيقه، وبالنسبة لما يحدث من خلاف في الرأي حول بعض المسائل والأمور المعيشية والبيتية وبعض القضايا ما اسرع ان يزول لوجود التفاهم والحوار وعدم التعصب وبناء الامور على القناعة، واشهد الله اني استفيد من النقاش معها" وفي هذا السياق تذكر ام جميل أن سماحة الشيخ الجمري حينما ينتابهم شيئا من الزعل البسيط يناديها بكلمة زهوري وبكلمات من شأنها ترفع حالة التشنج والزعل وبهذا الإسلوب تعود المياه لمجراها الطبيعي.
ويؤكد شيخنا الجمري أن أم جميل كانت في النجف الأشراف كانت تقوم بكل لوازم البيت من حيث شراء الحاجات وترتيب المنزل وتربية الأولاد وسائر الشؤون، وأنا كنت مشغولا بدراستي فقط. وكنت أسافر إلى البحرين كل عام مرة أو مرتين لقراءة شهر رمضان وعشرة عاشوراء واتركها غالبا في النجف مع الأولاد فتقوم بالرعاية وتدبير الأمور خير قيام. فكانت خير مؤازر ومعين، وأثناء اعتقال سماحة الشيخ الجمري في فترة انتفاضة التسعينات ووفاء لزوجته نظم أبيات من الشعر في حق زوجته ومن المعروف بأن شيخنا الجمري كان شخصية أدبية وله باع بارع في نظم الشعر ويشهد له بذلك سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم "حفظه الله " إذ يقول عن سماحته أنه كان أديبا وقوي شعره وسريع في نظم الشعر ، والأبيات هي كما يلي:
حبتك السماء بإنسانــــــةٍ حمدتَ ولازلتَ منها الشّيَــــــم
مؤازرةٍ عبرَ كلّ الظـــــــروف معاونةٍ، من عظيم القِسَـــــــم
ألستَ تخاطبها قــــــــــائلاً مقالة شخص بها قد جـــــــزم
خديجةُ لي انتِ أُمَّ الجميل يجازيك خيراً اله النّعـــــــــــــم
أنرت حياتي ملأت الضميــر كذا العينَ، سُلِّمت من كلّ ذم
ضرورة الإقتداء بالعظماء:ـ
هذه بعض مقتطفات نورانية تتحدث عن الجانب الأسري في حياة سماحة العلامة المجاهد الشهيد الشيخ عبدالأمير الجمري رضوان الله تعالى عليه، ونأمل من عشاق جمري هذه الأمة أن تحذو حذوه في كل سلوكياته واخلاقياته وتمتثل لمواقفه في هذا الشأن وتقتدي أثره فإن الإقتداء به منج ومفيد لمستقبل الأ مة من الناحية التربوية والسلوكية والتعاملية والأسرية وكم هو جميل أن نقرأ شخصيات علمائنا وكيف يتعاملون مع أسرهم وهنا اتذكر أيضا كيف إن الإمام الخميني (رض) شخصية مثالية في مسألة التعامل السلوكي والتربوي مع زوجته ومع أبنائه وأحفاده وكيف كانت زوجته تتعامل مع زوجها القائد الإمام الخميني (رض) ، ولا يسع المقام لذكر الأمثلة الناصعة التي تبين نورانية العلاقة بين الإمام وزوجته المؤمنة ، وكل ذلك بفضل الإقتداء ببيت فاطمة وعلي "عليهما السلام" في هذا الشأن التربوي والسلوكي والأسري ، وعلينا جميعا أن نتصفح سيرة عظمائنا كي نحذو حذوهم المبارك من أجلنا ومن أجل الأمة والأجيال.
والحمدلله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الروم: 21 .
حسين الناصري - 08/01/2008م - 10:51 م
--------------------------------------------------------------------------------
حينما تتصفح الصفحات الأسرية تجد كيف أن هذه الشخصية العظيمة كانت تعيش حياة سعيدة بفضل إيمانه ودماثة خلقه وسلوكياته العالية مع أقرب الناس إليه وهي زوجته "زهراء" والذي ساعد على ذلك هو التوافق بين الطرفين إيمانيا و وعيا للحياة وكيفية حسن البعولة والمعاملة ، يذكر سماحة الشيخ الجمري أن زوجته المؤمنة كانت تكن له حبا كبيرا وهو يكن لها كذلك حبا كبيرا ...
العلامة المجاهد الشيخ الجمري والجانب الأسري في حياته
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[1] .
منذ أن خلق الله الإنسان جعل في حياته سنة وفطرة وهي تكوين الأسرة ولاتتحقق هذه الأسرة إلا بزوجين وأبناء، ووضع الله تعالى قوانين وشرائع تقوم هذه الحياة وتضمن لها سلامة الإستمرار وفق التعاليم الربانية وتعاليم الأنبياء والأئمة المعصومين (ع) ومن ركائز نجاح الأسرة المثالية هي المودة والرحمة كما ورد في الآية الشريفة الآنفة الذكر ومن خلال كلمة مودة ورحمة تندرج في سياقها الصدق ،الوفاء ،التضحية ،الإباء ،الحوار ،التفاهم التفاني ، التواضع ، التعاون ، الإيثار ... الخ .
الشيخ الجمري رائدا أسريا:ـ
سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري (رض) كونه رائدا وقائدا وعالما ومعلما وقدوة للأجيال المؤمنة مثل في شخصيته وبفطرته السليمة وتمسكه بأخلاقيات أهل البيت "عليهم السلام" وتعاليمهم المعصومية شكلت هذه المعطيات بأن يكون سماحة الشيخ شخصية مثالية في الجانب الأسري وكيفية التعامل السلوكي أسريا مع الزوجة والأبناء وكيف يربي أسرة مؤمنة مثالية وفي ذات الوقت الذي جاهد نفسه للرقي بأسرته أخلاقيا وسلوكيا وجعلها متمسكة دينيا ومتمسكة بفطرتها الطبيعية وعرفت بأسرة قويمة مستقيمة هذه المثالية أصبحت مرآة للمجتمع وللأجيال المؤمنة وهذا هو ديدن القيادات الرابانية من أمثال شيخنا الجمري يسعون في تربية إطارهم الأسري وإطارهم المجتمعي .
الشيخ الجمري مع زوجته:ـ
حينما تتصفح الصفحات الأسرية تجد كيف أن هذه الشخصية العظيمة كانت تعيش حياة سعيدة بفضل إيمانه ودماثة خلقه وسلوكياته العالية مع أقرب الناس إليه وهي زوجته "زهراء" والذي ساعد على ذلك هو التوافق بين الطرفين إيمانيا و وعيا للحياة وكيفية حسن البعولة والمعاملة ، يذكر سماحة الشيخ الجمري أن زوجته المؤمنة كانت تكن له حبا كبيرا وهو يكن لها كذلك حبا كبيرا وكيف أن زوجته تحملت فقره في الحضر والسفر وتحملت غربته أثناء دراسته الحوزوية على الرغم من معارضة أهلها بعدم سفرها وتغربها إلا أنها أصرت أن تبقى مع زوجها في كل مواقع الحياة وكيف تحملت المعاناة التي لاحقت شيخنا الجمري أثناء نضاله وجهاده ومواجهته وتحديه للظلم والفساد الذي جثم على شعب البحرين من زمرة أمن الدولة الفاسدين والجلادين القساة في بحريننا العزيزة وكيف صبرت وتحملت سجن إبنها البكر لمدة عشرة اعوام وسجن زوج إبنتها لمدة سبعة اعوام وغربة أبنائها قهرا خارج وطنهم وبلدهم البحرين وهنا نص ما ذكره سماحة الشيخ (رض) من شهادة في حق زوجته أم جميل: "ولقد كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام " .. " أما أخلاقها معي وصبرها وحبّها لي فذلك في اعلى المستويات، كما ان حبي لها يكاد يتجاوز الحدود الطبيعية، فحياتنا الزوجية سعيدة جدا، لله الحمد والمنة على حسن توفيقه، وبالنسبة لما يحدث من خلاف في الرأي حول بعض المسائل والأمور المعيشية والبيتية وبعض القضايا ما اسرع ان يزول لوجود التفاهم والحوار وعدم التعصب وبناء الامور على القناعة، واشهد الله اني استفيد من النقاش معها" وفي هذا السياق تذكر ام جميل أن سماحة الشيخ الجمري حينما ينتابهم شيئا من الزعل البسيط يناديها بكلمة زهوري وبكلمات من شأنها ترفع حالة التشنج والزعل وبهذا الإسلوب تعود المياه لمجراها الطبيعي.
ويؤكد شيخنا الجمري أن أم جميل كانت في النجف الأشراف كانت تقوم بكل لوازم البيت من حيث شراء الحاجات وترتيب المنزل وتربية الأولاد وسائر الشؤون، وأنا كنت مشغولا بدراستي فقط. وكنت أسافر إلى البحرين كل عام مرة أو مرتين لقراءة شهر رمضان وعشرة عاشوراء واتركها غالبا في النجف مع الأولاد فتقوم بالرعاية وتدبير الأمور خير قيام. فكانت خير مؤازر ومعين، وأثناء اعتقال سماحة الشيخ الجمري في فترة انتفاضة التسعينات ووفاء لزوجته نظم أبيات من الشعر في حق زوجته ومن المعروف بأن شيخنا الجمري كان شخصية أدبية وله باع بارع في نظم الشعر ويشهد له بذلك سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم "حفظه الله " إذ يقول عن سماحته أنه كان أديبا وقوي شعره وسريع في نظم الشعر ، والأبيات هي كما يلي:
حبتك السماء بإنسانــــــةٍ حمدتَ ولازلتَ منها الشّيَــــــم
مؤازرةٍ عبرَ كلّ الظـــــــروف معاونةٍ، من عظيم القِسَـــــــم
ألستَ تخاطبها قــــــــــائلاً مقالة شخص بها قد جـــــــزم
خديجةُ لي انتِ أُمَّ الجميل يجازيك خيراً اله النّعـــــــــــــم
أنرت حياتي ملأت الضميــر كذا العينَ، سُلِّمت من كلّ ذم
ضرورة الإقتداء بالعظماء:ـ
هذه بعض مقتطفات نورانية تتحدث عن الجانب الأسري في حياة سماحة العلامة المجاهد الشهيد الشيخ عبدالأمير الجمري رضوان الله تعالى عليه، ونأمل من عشاق جمري هذه الأمة أن تحذو حذوه في كل سلوكياته واخلاقياته وتمتثل لمواقفه في هذا الشأن وتقتدي أثره فإن الإقتداء به منج ومفيد لمستقبل الأ مة من الناحية التربوية والسلوكية والتعاملية والأسرية وكم هو جميل أن نقرأ شخصيات علمائنا وكيف يتعاملون مع أسرهم وهنا اتذكر أيضا كيف إن الإمام الخميني (رض) شخصية مثالية في مسألة التعامل السلوكي والتربوي مع زوجته ومع أبنائه وأحفاده وكيف كانت زوجته تتعامل مع زوجها القائد الإمام الخميني (رض) ، ولا يسع المقام لذكر الأمثلة الناصعة التي تبين نورانية العلاقة بين الإمام وزوجته المؤمنة ، وكل ذلك بفضل الإقتداء ببيت فاطمة وعلي "عليهما السلام" في هذا الشأن التربوي والسلوكي والأسري ، وعلينا جميعا أن نتصفح سيرة عظمائنا كي نحذو حذوهم المبارك من أجلنا ومن أجل الأمة والأجيال.
والحمدلله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الروم: 21 .
Subscribe to:
Posts (Atom)