Wednesday, December 16, 2009

تاريخ الانتفاضة ( منقول من متدى توبلي )

البحرين انتفاضة 1994 ـ 1999 ( مقتبس من مقالات ج. ي. بيترسن )

وقعت آخر حلقات التاريخ الطويل من الصراع بين الحكومة البحرينية وشعبها خلال فترة (1994-1999)، رغم أن بعض الآثار اللاحقة استمرت أثناء السنوات الأولى من حكم الشيخ حمد بن عيسى. كانت أسباب الاضطرابات[1]، إلى حدٍّ بعيد، نفس الأسباب التي قادت إلى فتراتٍ سابقة من الانشقاق: رفض الأسرة الحاكمة السماح بمشاركة سياسية فعالة في النظام، والحرمان الاقتصادي، والتمييز الحكومي المنهجي ضد الغالبية السكانية الشيعية. بدا وكأن قيادة المعارضة تدور حول أقطابٍ ثلاثة: الرموز القيادية الدينية والعلمانية الشيعية؛ والمنفيين في لندن الذين شكّلوا حركة تحرير البحرين؛ والمنفيين الآخرين في إيران الذين تجمّعوا ضمن الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين[2].

بدأت اضطرابات التسعينات منذ أوائل 1994 بعمليةٍ لقوات الأمن من أجل منع خطبة في أحد المساجد الشيعية، واستمرت عبر عدد من المظاهرات أثناء الصيف. كان أحد الموقوفين واحداً من مشايخ الشيعة الشباب واسمه الشيخ علي سلمان، وقد تمت مصادرة جواز سفره[3].

في تشرين الثاني 1994، تضافرت عدة أحداث لإبراز المسألة من جديد.

قدمت للأمير عريضة ثانية تحمل أكثر من 20000 توقيع، وقد طالبت بعودة الجمعية الوطنية المنتخبة (التي تم تعليقها عام 1975). لم يتم اتخاذ أيّة إجراءات بشأن العريضة، وقد وُجِدت ادعاءات بحدوث بعض المضايقات ضد عدد من الموقعين عليها[4]. في نفس الوقت تقريباً، تم إلقاء الحجارة على العدائين المشاركين في ماراثون خيري أثناء مرورهم بقريةٍ شيعية؛ وقد ادعي أن ذلك كان بسبب ملابسهم الفاضحة. وقد تم اعتقال عدد من شباب القرية. في أعقاب ذلك، اعتقل الشيخ علي سلمان كمحرّضٍ ومنظمٍ للاحتجاج على الاعتقالات السابقة، وذلك تبعاً لوزارة الداخلية البحرينية، ولأنه كان قد وقّع العريضة حسب أقوال الشيخ علي نفسه[5]. انفجرت احتجاجات استمرت لأسبوعين، وانتشرت عبر القرى الشيعية وفي العاصمة المنامة.

ردّت قوات الأمن بقوة ونجحت في استعادة النظام في الوقت المناسب، وذلك قبيل قمة مجلس التعاون الخليجي تماماً. لكن ما يصل إلى أربعة متظاهرين، إضافةً إلى شرطي واحد على الأقل، قد قتلوا؛ وبذلك فقد بُذِرَت بذور دورةٍ طويلةٍ من القمع والعنف.

لقد وضع الانفجار الأول نموذجاً للسنين التالية. كانت قوات الأمن، ومعظمها من غير البحرينيين، تتصرف بعنفٍ وقسوة تجاه المتظاهرين معتقلةً أعداداً كبيرةً منهم. وقد قدّمت الحكومة أول ادعاء، من بين ادعاءات كثيرة، بأن تلك الجماعات المدعومة من الخارج ـ والمقصود إيران وحزب الله اللبناني ـ هي من يقف خلف الاضطرابات. سرعان ما بدأت المعارضة بإنتاج قادتها، وأبرزهم الشيخ عبد الأمير الجمري ويليه مباشرةً الشيخ الشاب علي سلمان.

وقعت سلسلة جديدة من المظاهرات المطالبة بالديمقراطية في أواسط كانون الثاني 1995، وقد تميّزت بمقتل أحد المتظاهرين وبإحراق عدد من محلات أشرطة الفيديو؛ وقد تلا ذلك اعتقالاتٌ كثيرة في مظاهرةٍ قامت أثناء جنازة المتظاهر القتيل. تضاربت الأقوال بشأن عدد المعتقلين: فقد سجلت المعارضة اعتقال 2500 شخص، بينما ادعت الحكومة اعتقال 600 فقط.

سعت الحكومة إلى نزع فتيل الوضع المتأزم، في 15 كانون الثاني، وذلك بإبعاد ثلاثة مشايخ هم علي سلمان، وحمزة الديري، وحيدر الستري، إلى دبي التي سافروا منها إلى لندن.

تم إبعاد أربعة مشايخ آخرين إلى دبي في الأيام التالية. وقد أطلق ذلك شرارة مزيدٍ من الاحتجاجات حتى نهاية كانون الثاني. كان شباط 1995 هادئاً، لكن الوضع تدهور في آذار.

قدمت عريضة جديدة إلى الأمير، وقد حملت تواقيع مواطنين بارزين يمثلون الطائفتين[6]. وقد شهد عيد الفطر عودة الاحتجاجات، وقُتل شرطي آخر في قرية نويدرة أثناء مظاهرات قامت احتجاجاً على اعتقال قائد للمعارضة هو عبد الوهاب حسين بسبب إلقاءه كلمةً تحث الحكومة على بدء الحوار. ازداد العنف سوءاً أثناء الشهر مع موت أول عامل أجنبي[7]، ومقتل أحد الطلاب أثناء احتجاجٍ مدرسي، وحرق شرطي حتى الموت عندما ألقيت زجاجة حارقة على سيارته في بلدة سترة الشيعية.

تابعت أحداث نيسان 1995 منحدر التدهور نفسه. أدت عريضة تدعوا للحقوق الديمقراطية، موقعة من 310 نساء، إلى استدعاء 92 موظفة حكومية من بين الموقعات على العريضة وإنذارهن بالفصل من العمل ما لم يسحبن تواقيعهن[8]. استمرت الحكومة على موقفها المتشدد بأن اعتقلت الشيخ عبد الأمير الجمري والشيخ حسن سلطان وخليل سلطان في قرية بني جمرة. وقد انتهى اللقاء الأول بين الأمير الشيخ عيسى بن سلمان مع 20 من قادة الشيعة البارزين من غير نتيجة عندما تم إبلاغهم أن الحكومة لن تعمد إلى البدء بالإصلاح السياسي تحت الضغط. استمرت الاحتجاجات بالنمو، وبنهاية الشهر هاجمت شرطة مكافحة الشغب الجامعة وتم إصدار أول حكم بالسجن على من اتهموا بالتخريب.

استمر العنف طيلة الصيف، وقُتل ما وصل مجموعه إلى 13 مدني وثلاثة من رجال الشرطة. صدرت أحكامٌ بالسجن، وحكمٌ واحدٌ بالإعدام، في تموز وذلك بسبب قتل شرطي. وقد قمع التواجد الكثيف للشرطة في قرى الشيعة معظم الاحتجاجات.

لاحت أول بارقة تشير إلى الحوار في آب وأيلول. فقد التقى وزير الداخلية، الشيخ محمد بن خليفة، بالقادة المعتقلين بمن فيهم عبد الأمير الجمري وحسن سلطان وعبد الوهاب حسين وحسن مشيمى والسيد إبراهيم. وفي ردٍّ على مطالبة قادة الشيعة بإنهاء العنف وعدت الحكومة بأنها ستطلق سراح جميع الموقوفين بنهاية أيلول، وبأنها ستسمح بعودة المبعدين، وأنها ستتحاور مع المعارضة بشأن المطالب الأخرى في مرحلةٍ لاحقة. تم إطلاق سراح الدفعة الأولى من الموقوفين في 17 آب، كما أطلق سراح عدد من الآخرين ـ بمن فيهم عبد الوهاب حسين ـ في بداية أيلول. لكن الحوار تعثّر عندما طالبت المعارضة بأن تصبح محادثات المصالحة السرية علنيةً، وبأن يوضع جدولٌ زمني لمناقشة المطالب الأخرى بما فيها عودة الجمعية الوطنية. لقد قيل أن الحكومة كانت حريصةً على الحفاظ على الوحدة الوطنية وحل المشاكل الاقتصادية والسياسية الأخرى لكنها لم تكن مستعدةً للاستجابة لمطالب المعارضة في تلك المرحلة. ومع ذلك، فقد أطلق سراح الشيخ عبد الأمير الجمري في 25 أيلول، وقد أخبر أنصاره بأن هناك "حواراً بين المعارضة والحكومة وبأن ثمة مبادرةً للمعارضة.... تتضمن إطلاق سراح جميع الموقوفين على مراحل وإعادة جوازات سفرهم إليهم والسماح بعودتهم إلى أعمالهم"[9].

وعدت الحكومة أيضاً بإطلاق سراح 500 سجين آخر، لكنها لم تفرج إلا عن مجموعات صغيرة حتى نهاية تشرين الأول عندما بدأ الشيخ الجمري وستة من قادة الشيعة إضراباً عن الطعام استمر تسعة أيام لإجبار الحكومة على إطلاق سراح بقية الناشطين. تم الإفراج عن عدد من المعتقلين بموجب عفو أميري بمناسبة العيد الوطني في السادس عشر من كانون الأول، لكن ما لا يقل عن عدة مئات من المعتقلين ظلّوا في السجن. وبالنتيجة، فقد استمرت الاحتجاجات وقد تميّزت الأيام القليلة الأخيرة من عام 1995 باحتجاجات في الديراز وبني جمرة. وقد فُرض على الشيخ الجمري منعٌ من مغادرة منزله، وانفجرت شحناتٌ ناسفة في المنامة ليلةَ رأس السنة.

وقعت اشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين في جمعات متتالية من شهر كانون الثاني 1996، مما دفع السلطات البحرينية لاستدعاء الشيخ الجمري وعدد من قادة الشيعة إلى وزارة الداخلية حيث أُمِروا بالتوقف عن استخدام المساجد لنشر العصيان. تضمنت الاحتجاجات سلسلة من أحداث العنف، بما في ذلك انفجار قنبلة في أحد الفنادق البارزة، وحالات من التخريب وحرق الممتلكات باستخدام أسطوانات الغاز. وفي 22 كانون الثاني، اعتقلت الشرطة ثمانية من قادة المعارضة بسبب "التحريض على جرائم الشغب والتخريب..."، وهم الشيخ عبد الأمير الجمري وعبد الوهاب حسين وحسن مشيمى وعلي أحمد حوراه وحسن علي محمد سلطان وإبراهيم عدنان ناصر العلوي هاشم وعلي عبد الله عاشور الستراوي وحسين علي حسن الدائخي. استمر عدد الموقوفين بالتزايد، متراوحاً بين التقدير الحكومي بوجود 544 شخصاً فقط في الحجز، وبين ادعاء المعارضة بحدوث 2000 اعتقال. بالإضافة إلى ذلك، فقد نفي عشرات البحرينيين من البلاد. وفي نفس الوقت أصرت الحكومة على اتهامها إيران بالوقوف وراء الاحتجاجات، وطردت أحد الدبلوماسيين الإيرانيين[10].

رغم الموقف الحكومي القوي، فقد استمر العنف والكراهية بالنمو الشديد في الأشهر اللاحقة. وبتواترٍ مقلق ، بدأت الإنفجارات بضرب الفنادق والسيارات الواقفة في العاصمة وغيرها، ومراكز التسوق، ومعارض السيارات والمطاعم، والمتاجر الصغيرة قرب القرى الشيعية.

استمرت المظاهرات في الكثير من القرى الشيعية واستمرت قوات الأمن بمهاجمتها واعتقال المتظاهرين. واستمرت محكمة أمن الدولة، وهي هدفٌ للاحتجاجات على نحوٍ خاص، بإصدار الأحكام بجرائم الحرق والتخريب. وفي آذار قتلت زجاجة مولوتوف ألقيت على أحد المطاعم البنغالية في سترة سبعةً من العمال البنغال. وقد قيل أن البحرينيين الثلاثة الذين حكموا بالإعدام بسبب تلك الجريمة كانوا قد اعترفوا بها تحت التعذيب. وبعد أسبوع، تم إعدام بحريني مدان بقتل شرطي، وهو حكم الإعدام الأول الذي يتم تنفيذه منذ 1977. وبعد 40 يوماً من موته، اندلعت موجة أخرى من التظاهر وأعمال الحرق. استمرت الاعتقالات بالتزايد، إلى جانب وجود ادعاءات بأن ثمة أطفالاً ونساء من بين الذين تم اعتقالهم وضربهم. اندلعت أحداث شغب في آب عند قبر رجل في التاسعة عشرة من العمر قيل أنه عُذِّب حتى الموت.

تواصلت هجمات الحرق خلال 1997، مع مقتل عدد من العمال الآسيويين الذين منعوا من مغادرة المتاجر التي أضرمت فيها النار. استمرت المعارضة بالإصرار على ادعائها بأن المعتقلين يتعرضون للتعذيب وأن موت الشيخ علي ميرزا النحاس أثناء اعتقاله في حزيران كان بسبب تعرضه للتعذيب؛ وقد وجّهت ادعاءات مماثلة بعد سنةٍ من ذلك بشأن شيعي يبلغ 23 سنة من العمر.

بدا وكأن عدم الارتياح الدولي بشأن تلك الادعاءات، بما في ذلك إدانة البحرين من قبل لجنة فرعية في الأمم المتحدة، قد لعبا دوراً في تقاعد المدير العام لجهاز الأمن العام إيان هندرسون، والذي شغل ذلك المنصب لزمنٍ طويل، ليصير مستشاراً لدى وزارة الداخلية. في نيسان 1997، ونزولاً عند إصرار حكومة البحرين، اعتقلت الكويت من البحرينيين المقيمين فيها وأدانت خمسةً منهم بالتآمر ضد حكومتهم.

بدا أن أية فرصةٍ لمصالحةٍ يمكن أن تنهي الانتفاضة قد ضاعت بفعل قرار الحكومة بإخضاع ثمانية من الناشطين في المنفى للمحاكمة الغيابية في تشرين الثاني 1997.

أصدرت محكمة أمن الدولة أحكاماً بالسجن من 5 إلى 15 سنة بتهم التجسس لصالح بلد أجنبي غير مسمى والعمل للإطاحة بحكم آل خليفة. رأى كثيرون أن تلك المحاكمة هي من عمل رئيس الوزراء المتشدد وأخو الأمير الشيخ خليفة بن سلمان، وربما كان ذلك سعياً منه لإضعاف ولي العهد الشيخ حمد بن عيسى الذي يعتبر أكثر انفتاحاً للحوار مع المعارضة، نسبياً[11].

استمرت الاحتجاجات وأعمال الحرق خلال 1999 وبدا أن لا نهاية لها عندما توفي الشيخ عيسى بن سلمان فجأةً وبشكلٍ غير متوقع في السادس من آذار. وخلفه ابنه ولي العهد الشيخ حمد بن عيسى، وبعد ثلاثة أيام عيّن الشيخ حمد ابنه سلمان كولي عهد.

بدا أن تولي الشيخ حمد يعد بحقبةٍ جديدةٍ في السياسية البحرينية إذ أنه سرعان ما بدأ التحرك لنزع فتيل التوتر. تراجع العنف بعد عدة أشهر واضعاً بذلك نهايةً لعدم الاستقرار.


انتفاضة التسعينات تخطت عقد التاريخ ورسمت مستقبل البحرين

بقلم : د. منصور الجمري - فبراير 2000

1. مقدمة:

ان الإنتفاضة الشعبية في ديسمبر 1994 فاجأت الكثيرين بالزخم الكبير للتحرك الشعبي وبقوة الإرادة والتي تمثلت في الخروج إلى الشوارع وتحدي سياسة القمع الشديدة . ومع مرور الأيام والشهور والسنين بدأت تتوضح أجزاء من الصورة المعقدة لواقع السياسة في البحرين . التعقيد السياسي متعدد الجوانب ويشمل تاريخ البحرين ، جغرافيتها ، تركيبتها السكانية والمذهبية ، أهميتها بالنسبة لدول الجوار ، وأهميتها بالنسبة للولايات المتحدة وبريطانيا ، إداراتها وتركيبتها البيروقراطية ، إمكانياتها الإقتصادية المحدودة وارتباطاتها الإقليمية في مختلف النواحي . كل هذه التعقيدات كانت عوامل بارزة في تحرك الشارع وفي الرد الحكومي على ذلك التحرك . وعندما يحاول المرء التطرق للتعقيد السياسي فإنه أمام طريق شائك تشوبه الحساسيات المختلفة. اذ هناك من يطرح أن استخدام "التحرك الشعبي" لا يعتبر صحيحا ، لأن الذين تحركوا يمثلون جزءا من شعب البحرين (مهما كبر حجمه) ، كما أن غض الطرف عن استخدام التعبيرات المذهبية لم يساعد كثيرا في واقع التحرك على الأرض . فالحكومة اتبعت نهجا معينا لم تحيد عنه ، ركزت فيه القمع على فئات معينة من المجتمع بحيث ان حميع المعتقلين والشهداء من القرى والمناطق السكنية الشيعية، وهم المتحركون الأساسيون في الانتفاضة. من جانب آخر فإن الخضوع للعقلية الحكومية والإنخراط في نهج طائفي على مستوى الفكر والسياسة له عواقبه الوخيمة على المستوى البعيد ، وأهم تلك العواقب تأكيد السياسة الطائفية ومساعدة الحكومة في نهجها وخلق حالة من الغربة بين أبناء البلد الواحد .

لقد نجحت المجتمعات المماثلة لمجتمع للبحرين حينما قررت مواجهة التاريخ على حقيقته دون ألاخذ بسياسات متطرفة تؤدي إلى الفتنة الداخلية، كما حدث في البوسنة والهرسك . وفي الوقت الذي نواجه فيه تاريخ المجتمع يجب أن نحدد صورة أخرى للمستقبل، متكاملة تشمل جميع فئات المجتمع بمختلف مذاهبه الفقهية والفكرية والسياسية . فالمستقبل هو للمجتمعات المتعددة والمتداخلة والمتعاضدة فيما بينها. وهذا الشكل التعددي المجتمعي متوفر في البحرين، وسوف يكون من الخطأ عدم الاستفادة من هذا التعدد المجتمعي . ولذا فإن التطرق لأمور حرجة (مع الأخذ بعين الإعتبار الملاحظات المذكورة) سيكون من أجل الإصلاح وليس من اجل الاثارة السلبية، ولنلاحظ مايلي.

2. من هم الذين تحركوا وخرجوا إلى الشارع ؟

عندما نقرأ التحليلات التي تبنتها الحكومة ومانشر في الصحف المحلية وبعض الصحف الخليجية نلاحظ تركيزا واضحا ومحددا على فئة معينة، وهذه بعض العبارات التي استخدمتها الجهات الحكومية بصورة علنية أو ضمنية :

? إن هؤلاء "قرويون" "وريفيون" .
? إنهم "شيعة" .
? إنهم "متطرفون" .
? إنهم "يستلمون أوامر من جهات أجنبية" .
? إن كثرتهم العددية سببها "توالدهم بصورة كبيرة وعدم تحديدهم للنسل" .
? إنهم يرفعون شعارات ديمقراطية ولكنهم "طائفيون" يستبطنون هدفهم الحقيقي وهم يريدون نقل السلطة لهم ومن ثم "اضطهاد" أهل السنة .
? لو كانوا في بلد آخر "لمسحت قراهم" (راجع افتتاحيات أخبار الخليج والأيام في الأشهر الخمسة الأولى من 1996)

هذه بعض من ماورد في مقالات نشرت في صحف محلية وخليجية ، وفي رسائل خاصة بعثتها الحكومة لمؤسسات بحث سياسية في الغرب ، ووردت أثناء الحوارات الخاصة التي أجراها عدد من السياسيين الغربيين مع رموز الحكم ، وجميعها تعكس جوهر السياسة التي اتبعتها المؤسسة الحاكمة تجاه التحرك الذي برز على السطح في العام 1994 . فيما عدا حالات معدودة على الأصابع ، فإن الحكومة استخدمت تعريفها وتشخيصها للفئة "القروية" بأنها "عدوة" لتبرير سياسة قمعية شرسة لم يشهدها تاريخ البلاد ، اشتملت على حصار المناطق السكنية ، العقاب الجماعي ، تخريب ممتلكات المواطنين بصورة متعمدة وسرقة مجوهرات ومقتنيات ثمينة من المنازل المعتدى عليها ، القتل بالرصاص ، استخدام جميع أنواع الرصاص ، تكثير عدد السجون وفتح معسكرات في الحوض الجاف والقرين وسجون جو الجديدة ، التعذيب حتى الموت ، وجلبت محققين غير محدودي العدد من الخارج، إصدار قوانين استثنائية وتنفيذها على الأطفال والنساء والشباب والكهول ، مصادرة الحقوق الدينية ، الإعتداء على المساجد والمآتم وإغلاقها ، الطرد من الوطن ، جلب آلاف المرتزقة وتجنيسهم وتوظيفهم في أجهزة القمع ، تكبير الجهاز الأمني وتوسيع دوائره وصلاحياته وإعطاء صلاحيات غير محدودة لمراكز الشرطة لاعتقال وتعذيب المشتبه بهم ، تقسيم البلاد إلى مناطق أمنية وتسليط المرتزقة على المواطنين، عسكرة الجامعة وتسليط نظام قمعي على التعليم الجامعي لا يوجد له مثيل في المنطقة ، الخ …

وأثناء حملات الحكومة القمعية لم تتعرض قوات الأمن لغير "الفئة العدوة" بل أنها جهدت للإيحاء بأن الفئات الأخرى "غير عدوة" وتمنيها الإستفادة من الوضع لصالحها . كما أنها لم توفر جهدا لتسليط العملاء والمخبرين الذين جندتهم من "الفئة العدوة" لخلق الفتنة داخل تلك الفئة وإشغالها ببعضها الآخر . ووصلت سياسة الحكومة ذروتها في منتصف 1996 عندما ادعت أنها اكتشفت "مخططا" يتضمن أعدادا كبيرة ، وقالت في إحدى تقاريرها الأولى إن "الفئة العدوة" لديها خطة تجنيد "ثمانية آلاف" من "ألشيعة" لإحداث انقلاب واستلام الحكم من "السنة" . والأقلام الرخيصة التي كتبت في "الأيام" "وأخبار الخليج" ستبقى وثائق تؤكد نهج الحكومة المذكور أعلاه تجاه فئة من فئات المجتمع ، وهي شهادة دامغة على همجية الماسكين بالسلطة وهي إنذار للفئات الاجتماعية الأخرى بأنها ستتعرض لسياسة مماثلة فيما لو تم تشخيصها بأنها "الفئة العدوة" .

3. خلفية التشخيص الحكومي "للفئة العدوة" :

من أفضل التقارير التي أعدتها هيئة الإذاعة البريطانية كان التقرير الذي أعده "نيك بلهام" بعد أن زار البحرين إثر إعلان الحكومة في يونيو 1996 اكتشافها "محاولة انقلابية" كبرى . ذلك التقرير أشار إلى أن هناك حركة مطلبية يشترك فيها مختلف الفئات الاجتماعية، وهناك حركة أخرى موازية تختص بالشيعة فقط. وفي حديث لاحق أشار إلى أن المشكلة تكمن في طبيعة العلاقة بين آل خليفة والشيعة. فما هي الخلفية لهذا الطرح ؟

ربما أنه من الصحيح القول أن الأزمة السياسية في البحرين التي برزت على السطح في منتصف التسعينيات لها بعدان . بعد وطني يتعامل مع الحاضر والمستقبل ويرفع مطالب وطنية شاملة للجميع . أما البعد الآخر فهو بعد تاريخي يختص بشعور فئة من المجتمع (البحارنة/الشيعة) بمظلوميتها، وشعور العائلة الحاكمة بحقها المطلق القائم على أساس "الفتح" والقهر والنصر وتتعامل مع تلك الفئة على ذلك الأساس.

هذا البعد التاريخي للأزمة السياسية حساس جدا لأنه يثير المشاعر ويدفع الذين يستشعرونه من الطرفين للتطرف . ولذلك فلا بد أن أشير إلى أنني لا أتبنى التاريخ منطلقا للتحرك ولا أطالب بمطالب خاصة بفئة معينة ، بل أؤكد أن مجتمع البحرين المعاصر متعدد المذاهب والإثنيات واستطاع أن يتعايش سلميا بالرغم من السياسة الحكومية الطائفية ، ويستطيع أن يبني مستقبلا أفضل قائم على المساواة أمام القانون الدستوري العادل ، دون اضطهاد فئة لفئة أخرى . كما إنني أؤمن بأن الحكومة سوف تضطهد أي فئة أخرى بنفس الشراسة فيما لو تم تشخيصها مستقبلا أنها "الفئة العدوة" . وقد حصل مثل هذا الأمر في 1938 عندما اضطهدت الحكومة المتحركين السنة فقط ولم تلمس الشيعة الذين تحركوا مع إخوانهم السنة رافعين المطالب ذاتها . مع الأخذ بعين الإعتبار ما ذكر أعلاه ، فإن البعد التاريخي للأزمة السياسية يحتاج لمعالجة لمواجهة التشخيص الحكومي الخاطئ للمشكلة السياسية .

4. البعد التأريخي للمشكلة السياسية :

المقصود - مرة أخرى - بالبعد التاريخي هو ذلك البعد الذي ركزت عليه الحكومة أثناء مواجهتها للتحرك السياسي الجماهيري ، والذي أسسته الحكومة على أساس طرفين : الطرف الأول هو العائلة الحاكمة "المنتصرة" التي "افتتح" جدها (أحمد الفاتح) البحرين واستطاع التغلب على أهلها آنذاك ، وهم المعروفون باسم "البحارنة" . الطرف الثاني (في المعادلة الحكومية الخاطئة) هم البحارنة الذين هزمتهم عائلة آل خليفة في العام 1783م واستولت على أراضيهم وفرضت عليهم الضرائب القاسية وتم محاصرتهم في مناطقهم وعاملتهم على أساس "السخرة" "والرقابية" . والسخرة هي نظام استمر حتى العام 1923 يقوم على ان أفراد البحارنة يتوجب عليهم أن يخدموا في المزارع التي صادرها منهم شيوخ آل خليفة مقابل لا شئ. والرقابية أيضا استمرت حتى 1923 وهي ضريبة كانت عائلة آل خليفة تفرض على كل عائلة (من عوائل البحارنة فقط) دفعها لكل شخص يبلغ من العمر 15 سنة وما فوق . وكانت عائلة آل خليفة تستخدم حرسها الذي تطلق عليه "الفداوية" لمعاقبة البحارنة إذا رفضوا الإنصياع لما تريده منهم .

ينتمي أغلبية البحارنة ، وهو الاسم الذي يطلق على من كان يسكن البحرين قبل مجئ آل خليفة ، إلى قبائل عربية كعبد القيس وبكر بن وائل ، وكانوا يحكمون البحرين على المستوى الداخلي /المحلي لقرون عديدة حتى مجئ الإحتلال البرتغالي في 1521م . استمر ذلك الاحتلال حتى 1601م ، وبعدها استلمت الدولة الإيرانية الصفوية السيطرة على الجزر بعد انقطاع دام قرون. الحكم الإيراني الصفوي (المتقطع بين الفترة 1601 و 1783م) كان ذا صفة خاصة ، فالبحرين كانت إدارتها المحلية أيضا بيد البحارنة ، ما عدا الحاكم الذي كان في الغالب إيراني يعينه الشاه الصفوي . في العام 1700 ضعفت الدولة الإيرانية الصفوية وبدأت تنهار وتعرضت البحرين في ذلك العام لهجوم بقيادة قبائل العتوب (آل خليفة احد فروع العتوب) . إلا أن ذلك الهجوم فشل بعد أن استعان البحارنة بجيش من "الهولة" الذين قدمو إلى البحرين بطلب من شيخ الإسلام آنذاك الشيخ محمد بن عبد الله ابن ماجد (شيخ الإسلام لقب كان يحمله قاضي القضاة ، هو أعلى سلطة دينية آنذاك). إلا أن البحرين تعرضت بعد ذلك للحصار والدمار على أيدي العمانيين عدة مرات وهذا كله أدى "لخراب البحرين" وهروب الكثير من سكانها إلى المناطق المجاورة وسمي هذا العصر بعصر "خراب البحرين" . ومع وصول نادر شاه للحكم (1736 - 1747م) في إيران عاد الهدوء للبحرين بعد أن استعادت إيران سيطرتها. وأصبح حاكم البحرين في هذه الفترة نصر آل مذكور. إلا أن الوضع لم يستقر كثيرا وعادت الهجمات على البحرين التي كانت مستهدفة كونها من أغنى مناطق الخليج بسبب اللؤلؤ والزراعة والتجارة . وأدت تلك الهجمات لتزعزع الإدارة المحلية وانقسام أهل البحرين على أنفسهم والإقتتال فيما بينهم (خصوصا بين العاصمة آنذاك البلاد القديم والمدينة الثانية بعدها جدحفص). أدت الهجمات المتكررة وضعف الإدارة والإقتتال الداخلي لتمكين عائلة آل خليفة من الهجوم على البحرين والسيطرة عليها في العام 1783م . غير أن العمانيين عاودوا الهجوم على البحرين واستولوا عليها ما بين 1799-1801 ، مما أدى لأن يتحالف آل خليفة مع الوهابيين والهجوم على البحرين مرة أخرى . إلا أن الوهابيين استأثروا بالحكم حتى عام 1811 ، وعندها تحالف آل خليفة مع العمانيين ضد الوهابيين وعاودوا الهجوم مرة أخرى (وهذا هو الهجوم الرابع منذ 1700) والإستيلاء على البحرين . إلا أن البحرين لم تهنأ بالإستقرار مما حدا بحاكم البحرين آنذاك إلى التوقيع على المعاهدة البريطانية في 1820م ومنذ ذلك الوقت ضمن الوجود البريطاني حماية لآل خليفة من أي اعتداء خارجي ووفر لهم حرية التصرف بمن كان يستوطن ارض البحرين. بعد ذلك التاريخ انفجر الصراع بين أطراف آل خليفة مما أدى إلى نزوح الكثير من البحرين ، إلى الإحساء والقطيف والبصرة والمحمرة وبندر لنجة وغيرها. وفي 1869 تدخلت بريطانيا ونصبت الشيخ عيسى بن علي حاكما للبحرين ، استمر في حكمه حتى 1923 .

تميز حكم الشيخ عيسى بن علي بالظلم المركز على البحارنة الذين تم استحلال دمائهم وممتلكاتهم وأعراضهم حتى العام 1923 . وكان البحارنة محاصرون في مناطقهم السكنية (الريف حاليا) ولا يستطيعون الهروب من الضرائب المفروضة عليهم إلا بالتنازل عن أراضيهم والخروج من بلادهم البحرين (يتواجد البحارنة بكثرة في المحمرة والحدود العراقية-ايرانية الحالية وبندر لنجة والقطيف - وجميع هؤلاء اضطروا للهروب من الظلم في بلادهم). وهناك من البحارنة من استطاع الهروب من المناطق الريفية إلى المدينة الجديدة (المنامة) التي بدأت في الظهور بصورة رئيسية في القرن التاسع عشر . واخذ هؤلاء يعملون في صناعة اللؤلؤ أساسا ، في خرق اللؤلؤ (فريق المخارقة) ، في بناء السفن (النعيم) وغيرها . وبرزت أيضا المحرق كمدينة رئيسية ، واستطاع الإحسائيون الشيعة العاملون في الحدادة والحياكة والصياغة وغيرها في الإشتغال في كل من المنامة والمحرق . وهؤلاء جميعهم لم يكونوا جزءا من الفئة المحاصرة في مناطقها السكنية من أجل "السخرة" "والرقابية" والضرائب الأخرى .

الفرق بين الشيعة البحارنة وغيرهم من الشيعة الإحسائيين والعجم هو أن الكثير ممن عاش في البحرين قبل العام 1923 كان يفضل أن يعامل كأجنبي قدر استطاعته . فالإحسائيون كان باستطاعتهم اللجوء الى حماية ابن سعود ولذلك فإن آل خليفة لا يستطيعون التعامل معهم كما كانوا يتعاملون مع البحارنة الذين لم يكن أحد يحميهم . وكذلك الشيعة العجم كان باستطاعتهم اللجوء إلى حماية إيران آنذاك . وكان النجديون وكثير من الساكنين في البحرين يحفظون مصالحهم عبر الحصول على حماية خارجية للوقاية من ظلم شيوخ آل خليفة . وهذا يفسر كيف أن الشيعة الإحسائيين لم يعاملوا مثل البحارنة ، وكانت لهم مجالات واسعة في امتهان الحرف المختلفة (الحدادة ، الحياكة ، الصياغة ، الخ ) في كل من المنامة والمحرق . وهذا أيضا يفسر لنا لماذا أن أكثرية الإحسائيين الشيعة هم من الأغنياء أو الطبقة الوسطى . وكان شيوخ آل خليفة يستفيدون من تجارتهم وتجارة غيرهم من خلال رسوم الجمارك التي يدفعها التجار .

أما فئة البحارنة فكانوا "شبه عبيد" كما يصفهم الدكتور طلال فرح في رسالته للدكتوراه حول "البحرين ما بين 1869-1915" . فالشيعة البحارنة المحاصرون في قرى الريف يمثلون مصدر دخل رئيسي لال خليفة من خلال الضرائب المفروضة عليهم كالرقابية وغيرها ومن خلال "السخرة" ومن خلال مصادرة مزارعهم وممتلكاتهم . هذه الفئة المستضعفة "البحارنة" لم تستطع الخروج من قيود الذل إلا في العام 1923 بعد انتفاضة قاموا بها في 1922 وبعد أن تدخلت الحكومة البريطانية لإزاحة عيسى بن علي وتعيين ابنه حمد بن عيسى. حينها طلبت بريطانيا من البحارنة مساندة حمد بن عيسى مقابل إنهاء السخرة والرقابية والفداوية عنهم ومقابل الإعتراف بشهاداتهم في المحاكم وتسجيل الاراضي المتبقية لديهم في السجل العقاري الجديد (دائرة الطابو) لكي يتوقف النهب والسلب المسلط عليهم . وهكذا كان فقد ساند البحارنة حمد بن عيسى (مقابل اخيه عبدالله بن عيسى) وتبع ذلك مجئ المستشار تشارلز بلجريف في 1926 وهو الذي أسس الإدارة الجديدة للدولة ونظم شئونها. غير أن بليجريف وقف أمام المطالب السياسية الإصلاحية بشدة .

يمكن القول أن البعد التاريخي انتهى في العام 1923 مع انتهاء السخرة والرقابية وارهاب الفداوية ، وبدأ بعد ذلك العصر الحديث في البحرين مع بدء التعليم النظامي واكتشاف البترول ونشوء طبقة عاملة واندماج النخبة المتعلمة ضمن مشروع وطني واحد للمطالبة بالإصلاح السياسية . هكذا بدأت المطالبة الوطنية المشتركة (بين الشيعة والسنة) منذ العام 1938 .


5. مواجهة البعد التاريخي للازمة السياسية في البحرين:

ان التاريخ المعقد للبحرين وعدم مواجهته بالدراسة الدقيقة انتج ولايزال العراقيل أمام الحركة الوطنية الإصلاحية لعدة أسباب ، وسوف نتطرق لبعض تلك العقد بالايجاز:

1- إن الحديث عن "البحارنة" من شأنه استثارة فئات المجتمع الأخرى التي قد تتحسس من استعراض تاريخ البحرين المرتبط بجزء من الشعب يسمى "البحارنة" . وهذا المشكلة واجهت الإدارة الحديثة التي أنشأها شارلز بلجريف . فقبل 1923 كان أهل البحرين يطلق عليهم "بحارنة" أو "بحرانيون" . أما آل خليفة والقبائل المتحالفة معها فكانوا يسمون "عربا" ، وبعد ذلك تأتي التقسيمات الأخرى : النجدون ، العجم ، الهولة ، الهنود البانيان ، الحساوية ، الخ. وعندما شرعت الإدارة الجديدة في مطلع القرن في ترتيب شئون الدولة وتسجيل الأراضي واصدار أحكام وتشريعات ، فإنها تورطت في صيغة النسب التي ستطلقها على المواطنين . ولهذا فقد استحدثت مصطلح "بحريني" (في منتصف القرن) لوصف المواطن بغض النظر عن كونه من أية فئة إثنية معينة . ومصطلح "بحريني" ليس صحيحا من الناحية اللغوية ، لأن الذي ينتمي للبحرين يطلق عليه بحراني ، تماما مثل الذي ينتمي لليمن يسمى "يماني" . غير أنه مع وجود الحساسيات من مصطلح بحراني لارتباطه بالبحارنة فإنه يعتبر أحد الحلول لواحدة من العقد التاريخية .

2- حاولت الأوساط المقربة من العائلة الحاكمة الضرب باستمرار على وتر "بحريني " "وبحراني" خلال العقود المنصرمة. ونتج عن ذلك وصف الشيعي بالبحراني ، والسني بالبحريني. إلا أن هذه المشكلة خفت مع الأيام، خصوصا مع التفات الكثير من فئات المجتمع لخطورة هذا التفريق غير الملائم للعصر الحاضر.


3- شارلز بلجريف قسم المجتمع إثنيا وطائفيا ووزع المناصب والنفوذ والدوائر حسب انتماء الفرد أولا ثم حسب كفاءته، وبعد رحيل بليجريف ازدادت المشكلة سوءا لأن الطرف المسيطر من عائلة آل خليفة وجد أن هذا التقسيم الإثني - الطائفي يصب في صالحه مباشرة . ولهذا فإن البحرين تحكم نظريا حسب المواطنة، أما فعليا فإن كل شئ من الوظائف والتعليم ، إلى خدمات المناطق السكنية ، إلى أسماء الشوارع والمستشفيات والمدارس، إلى المحاكم الشرعية (المحكمة الجعفرية تعتبرها وزارة العدل تابعة وليست مساوية للمحكمة السنية) ، إلى الإعلام والتراث وإلى كل شئ في جميع مجالات الحياة ، كله يخضع لحساب دقيق من تفضيل فئة على فئة، حسب الإنتماء الإثني والمذهبي. وقد استفادت الحكومة كثيرا من اللعب بهذه الورقة من خلال فصل أجزاء المجتمع عن بعضه الآخر وتخويف فئة من فئة أخرى .

4- والحكومة لا تخيف السنة من الشيعة فقط وإنما أيضا تخيف الشيعة من السنة. والوقائع تثبت ذلك، فعندما تحرك رموز من الشيعة مع السنة في العام 1992 و1994 ، أرسل رئيس الوزراء أعوانه من التجار ورجال الدين الشيعة لعدد كبير من الرموز التي تحركت يقولون لهم "مالنا والتحالف مع السنة الذين سيجلبون السعودية للقضاء علينا" . رموز الحكومة نفسها ذهبت إلى المحرق (مركز ثقل السنة في البحرين) لتخويف أبناء السنة من الشيعة "الذين سيتحالفون مع إيران للقضاء على السنة" حسب تعبير رموز الحكم . وكانت الرسالة التي أرادت توجيهها الحكومة في يونيو 1996 عبر البث التلفزيوني لمجموعة من شباب الشيعة المعذبين واضحة عندما فرض جهاز المخابرات على أولئك الشباب التصريح على شاشة التلفزيون بأن "المسئولين الإيرانيين حرضوهم لاستلام الحكم لأن الشيعة أكثرية" . كانت تلك الرسالة الحكومية واضحة فهي تلعب على تخويف كل فئة من أخرى . وقد اقتنع عدد من العاملين في الحركة الإصلاحية (من السنة) بكلام الحكومة وتراجعوا عن المطالبة بالإصلاح السياسي .

5- ان العقدة لدى الطرف النافذ في العائلة الحاكمة يتركز على البحارنة الذين يعيشون في الريف أكثر من أي فئة أخرى منهم. وهذا الطرف لم يكن سينزعج لو أن رموز التحرك السياسي من البحارنة جاءوا من المنامة (كما كان في الخمسينيات) ولكن أن تأتي رموز التحرك من الريف البحراني يصبح بعضهم رموز وطنية تستقطب الساحة. وهم الذين كانوا شبه مستعبدين حتى 1923 ، فهذا أمر لم يقبله ذاك الطرف.

6- ان الحديث عن البحارنة واعتبار كل شيعي بحراني أمر خطير. فالشيعة في البحرين يتكونون من البحارنة والعجم والاحسائيين وغيرهم ممن وفدوا واستقروا في البلاد . وورد عن رئيس الوزراء استدعاءه لرموز العجم وتحذيرهم من "مشاركة البحارنة" أثناء التحرك السياسي في منتصف التسعينات. وعندما اكتشفت المخابرات أن شباب ورجال العجم في المحرق والمنامة والمناطق الأخرى ، شاركوا بصورة أساسية في التحرك الوطني جن جنونهم ومارسوا اضطهادا بشعا بحق عوائل بأكملها بصورة أشرس من الاضطهاد المسلط على البحارنة. ومن ذلك سحب حقهم في الحصول على جواز بحريني وطردهم من البحرين باسلوب خاص وبشع جدا.

7- الحديث عن البحارنة وكأنهم فئة واحدة عدوة لآل خليفة بأكملها غير صحيح . فالحكومة تود طرح هذا القول وتعزيزه . صحيح أن العذاب والتمييز موجه ضد الشيعة البحارنة بصورة عامة ، إلا أن الصحيح أيضا هو أن عددا مهم من رموز البحارنة (تجار ورجال دين ورؤساء مآتم) ارتبطت مصالحهم مع رموز العائلة الحاكمة ، وهذه الرموز - رغم قلتها - استخدمتها الحكومة بصورة شرسة لتفريق البحارنة فيما بينهم ، كما استخدمت غيرهم في تفريق فئات المجتمع الأخرى . وهذه القلة من رموز الشيعة لا يهمها أي شئ ولا تطالب بأي إصلاح وطني سوى الإستمرار في الحفاظ على مصالحها الشخصية حتى ولو كان ذلك على حساب المواطنين جميعهم سواء كانوا شيعة أو سنة .

8- رغم أن الطرف النافذ في العائلة الحاكمة يدعي للسنة بأنه يحميهم ضد "الخطر الشيعي" ، إلا أنه لا يثق بالسنة. ولعل اكبر دليل على ذلك انه عندما قررت الحكومة استخدام الأموال والمساعدات التي حصلت عليها من الإمارات والسعودية لمضاعفة الإمكانيات العسكرية والأمنية لم تعتمد على السنة ، استعانت بآلاف البدو السوريين والأردنيين وجنستهم، كما جنست البلوش وغيرهم من العاملين في الجهاز الأمني .

9- أخلصت الحكومة كثيرا لسياستها التفريقية القائمة على التمييز بين المواطنين على أساس إثني ومذهبي. فخلال التحرك السياسي الذي بدأ منذ العام 1992 وازداد حده بعد عام 1994 لم تعتقل أجهزة الأمن من المواطنين السنة الذين رفعوا المطالب ذاتها إلا عدد محدود. وقد فضلت أن تمارس إرهابا من نوع آخر ضدهم أدى لفصل رموز وطنية هامة من وظائفهم وتدهور صحة اخرين.

10- المعارضة التي تصدت للتحرك السياسي أيضا أخلصت لطرحها وجاهدت كثيرا لكي لا تنزلق في النهج الحكومي. ومع كل ما قد يقال فإن الخطاب السياسي استمر شاملا للجميع دون تفريق بين المواطنين واستمرت الأهداف المطروحة مرفوعة رغم السياسة الطائفية الرسمية. وقد أدى إخلاص المعارضة لأهدافها أن تتراجع الحكومة (ولو من الباب الخلفي) أمام تلك المطالب من خلال السماح لبعض النقاش حول الاصلاح السياسي المطلوب في بعض الندوات وفي بعض المقالات الصحافية وفي بعض التقريرات السياسية . وبعد أن كانت الحكومة تتحدث عن "مسح القرى" في العام 1996 ، بدأت الحديث عن "انتخابات بلدية" في العام 1999 .

11- إذا كان هناك من درس يستلهم من الأحداث السياسية في الأعوام الماضية فهو أن الإنتصارات التي حققتها المعارضة (اعتراف دولي بوجود حركة إصلاحية وشجب دولي لإنتهاكات حقوق الإنسان ، وتراجع حكومي عن فكرة "مسح القرى" ، وانتشار واسع وعميق لثقافة حقوقية مقبولة إسلاميا ودوليا وتعزيز التكافل الإجتماعي والمشاركة في الآلام والأفراح والشعور بالكرامة الإنسانية رغم الظلم والتعذيب ، وغيرها من الإنجازات بعيدة المدى) لم تكن ستتحقق لو انجرت المعارضة لسياسة التمييز العنصري والطائفي والقبلي التي انتهجها الطرف النافذ في العائلة الحاكمة. إن مستقبل البحرين حددته انتفاضة التسعينات وتضحيات الشعب وهو مستقبل سيجد الظالم نفسه معزولا ليس محليا فقط، وإنما إقليميا ودوليا ، ولا مجال له إلا الاعتراف بالحقوق السياسية لاهل البحرين (سنة وشيعة) وفتح الباب أمام الإصلاحات السياسية وضمان كرامة المواطن بغض النظر عن انتمائه الإثني والطائفي.


الاختراق الديموقراطي في البحرين

دايفيد هرست*
David HIRST

"هل تريد الديموقراطية؟ اتخذ لك ملكاً". هذا ما كتبته المجلة الفصلية الاميركية Middle East في اشارة ساخرة الى احدى الميزات البارزة للمشهد السياسي العربي المعاصر. ففي منطقة تمانع في مواكبة الاتجاه العالمي نحو "السلطة للشعب"، تقوم الانظمة الوراثية قبل الجمهوريات باتخاذ هذا المنحى خصوصاً في المنطقة الاقل قابلية ربما وهي منطقة الخليج. فبعد الاختراقات الدستورية في كل من عُمان وقطر، ها هي الانظمة الاكثر محافظة مثل السعودية او البحرين تحمل راية الاصلاح الزاهية.

لدى وفاة والده في آذار/مارس 1999 صار الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة اميراً على البحرين وهو سليل عائلة ترأست هذه الدولة الصغيرة منذ العام 1783. وبعد بدايات غير واعدة تجاوز الشيخ حمد افضل الآمال في التقدم الديموقراطي لصالح شعب الامارة. ويقول احد مناضلي حقوق الانسان: "انها اقرب الى الثورة. فبين يوم وآخر انتقلنا من التشاؤم الى التفاؤل بالمستقبل". وكانت نقطة الذروة في الاستفتاء الذي جرى في شهر شباط/فبراير وحصل على نسبة 98.4 في المئة من الاصوات المؤيدة للميثاق الوطني الجديد. ويؤكد احد المحامين المعارضين "انها نسبة حقيقية وليست ظاهرة مفبركة على غرار ما يصنعه الاسد وصدام ومبارك".

ان هذا الدستور التقليدي بلا مواربة بل الرجعي يخوّل من جهة الامير ان يصير ملكاً بالفعل. لكنه يدعو من جهة اخرى وفي توجه تقدمي الى قيام نظام برلماني بمجلسين أي اعادة العمل بالمجلس الوطني القديم المنتخب في موازاة مجلس الشورى الجديد. وقد ترافق الاستفتاء مع اطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح بعودة المنفيين السياسيين والغاء قوانين الطوارئ الصارمة واطلاق حرية التعبير بشكل يصعب تصديقه. وقد حظي الشيخ حمد ونجله سلمان خريج جامعة كمبردج بشعبية مباشرة وتحلقت حولهما جماهير متحمسة حتى في مناطق المعارضة حيث لم تكن شرطة مكافحة الشغب تتجرأ على الدخول.

صحيح ان هذه الديموقراطية حصلت بقرار لكنها تستجيب ايضاً للارادة الشعبية. ويقول عبد النبي العكري بعد عودته المظفرة من 27 سنة في المنفى: "انها ثمرة نضال وتصميم وتضحيات كبيرة". يضاف الى ذلك ايضاً تقليد من النضال الشعبي. فلاسباب عديدة كان البحرانيون دائماً في طليعة بلدان الخليج لجهة بناء وعي اجتماعي ـ سياسي حديث. ومنذ مطلع القرن العشرين وهم يدعمون باستمرار مطالب السيادة الشعبية والكيان الدستوري والحكومات التمثيلية مقابل السلطة الوراثية والبطريركية الممانعة في تلبية مطالبهم. لكن في العام 2000 وصل الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الى درجة من التردي يهدد استمراره بدكّ سلطة آل خليفة انفسهم.

سنة 1973 وبعد الاستقلال الذي انتزع من بريطانيا، اصدر آل خليفة دستوراً يرتكز على جمعية وطنية مكونة من 30 عضواً منتخباً ومن 14 وزيراً. لكن في 1975 اقدم الامير على حلّ الجمعية المنتخبة حديثاً بعدما اغتاظ من رؤيتها تطالب بمحاسبة العائلة الحاكمة حول مشاريعها المتعلقة بالمداخيل النفطية المتدنية وبالاراضي العامة وبعدما عبّرت عن معارضتها الصارمة لقانون الطوارئ الذي يجيز اعتقال أي مواطن من دون محاكمة لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وقد تلى ذلك 25 عاماً من الاستياء الشعبي المتصاعد ضد مساوئ هذا القانون غير الدستوري.

كان احد اجنحة المعارضة يتشكل من حركة تدين بالحداثة غير الطائفية المقربة عموماً من القوميين العرب والاشتراكيين الذين خاضوا في الستينات والسبعينات نضالاً في سبيل اقامة حكومة تمثيلية. وكان اعضاء هذا الاتجاه عموماً من المسلمين السنة على غرار آل خليفة انفسهم والذين يمثلون اقلية لا تبلغ نسبة الـ 40 في المئة ومع ذلك تسيطر تقليدياً على البلد. اما المعارضة الاخرى والتي برزت في مرحلة لاحقة فهي شيعية تقودها مجموعة جديدة من العلماء المتأثرين بالتيار السياسي ـ الديني المناضل في سياق الثورة الايرانية. والشيعة غالباً من اهل الريف اكثر فقراً واقل تعليماً من السنة. كما عانوا تمييزاً طائفياً رسمياً. رغم اهدافها المتعارضة في اغلب الاحيان فان جناحي الحركة توافقا على المطالبة معاً باستعادة الحياة البرلمانية. وفي المرحلة الاخيرة قدم الاسلاميون الشيعة بقاعدتهم العريضة والمناضلة مساهمة حاسمة في الحملة الاصلاحية التي كانت بدأتها القوى السنية غير الطائفية.

وقد عرفت الحملة انطلاقة جديدة مع بداية حرب الخليج (1990-1991) والضربة التي سددتها الى هيبة الانظمة الوراثية في المنطقة. وقد لجأ الاصلاحيون الى الوسيلة المعروفة وهي رفع العرائض الى الامير. فجمعوا على احداها عدداً مدهشاً من التواقيع بلغ 25 الفاً. لكن الامير رفضها باحتقار وانشأ مجلساً استشارياً دون سلطة فتوسعت المعارضة لتتحول انتفاضة(1). ومع انها لم تكن مسلحة وغير عنيفة في اساسها فان النظام تخلص منها بوسائل القمع والرقابة اللصيقة. وقد تم اعتقال 25 الف شخص في مختلف الاوقات من اصل عدد السكان البالغ 400 الف نسمة. وقد قضى حوالى 30 متظاهراً في مواجهات الشوارع. ومن بين ستة اشخاص توفوا تحت التعذيب اختطف احدهم وهو سعيد اسكافي، 16 عاماً، من منزله في قرية سنابيس الشيعية وارسلت جثته الى اهله بعد ايام. كذلك لجأ اكثر من 200 قيادي الى المنفى الاضطراري.

وقد صعّد النظام من طائفيته في صورة فاضحة. ورغم ان حركة العرائض كانت نابعة من السنة والشيعة فقد ركز قمعه على الشيعة وحدهم. وضاعف في الوقت نفسه من اجراءات التمييز في حقهم فابعدهم تماماً عن الجيش وقوى الامن وبقية المؤسسات "الحساسة". حتى الجامعة لم تتمكن من تعيين الشيعة او ترقيتهم بعد 1995 رغم مؤهلاتهم. وقد عززت هذه السياسة من الوعي والروح النضالية في صفوفهم. كما ساهمت في تسهيل مهمة النظام لتصوير التمرد على انه شيعي تحديداً واصولي متأثر بايران واعتباره تهديداً للامن الاقليمي ذي الطابع السني وللقوى الخارجية الداعمة له.

وقد جند النظام مرتزقة اجانب. وكان يمكن ان يكونوا عرباً او من غير العرب، قادمين من السودان او اليمن او الاردن او سوريا او باكستان لكنهم كانوا دائماً من السنة. وكان الهدف تأمين "التوازن الديموغرافي". وبصفتهم اجانب لم يتردد هؤلاء المرتزقة امام أي اعمال عنف حيال السكان المحليين فلجأوا الى السرقة والنهب في البيوت التي دخلوا اليها. وقد حصّلت مجموعة كبيرة منهم، من البدو القساة والاميين القادمين من شمال سوريا، صيتاً سيئاً ونسب اليهم السكان الاصليون من سنة وشيعة كل انواع التجاوزات. وقد وصل الامر بالحكومة الى اعطائهم الجنسية، هم وعائلاتهم، وقدمت لهم المساكن الرخيصة الثمن.

واضافت العائلة الحاكمة الفساد الى تجاوز السلطة هذا. فالبحرين كانت في ما مضى اكثر المجتمعات استقامة في الخليج. وكان جد الامير الجديد منع على افراد عائلته التدخل في الاعمال معتقداً ان ذلك من شأنه الحاق الاذى بوضعهم وامتيازاتهم القبلية. ويشير احد رجال الاعمال: "يقول اصدقائي الاجانب اليوم اننا بتنا متساوين مع نيجيريا". يعدّ آل خليفة 3 الاف شخصاً وهم يتجاوزون عائلة سعود الكبيرة نسبة الى عدد السكان. وهم يحصلون على مخصصات من المهد الى اللحد. اضافة الى استفادتهم عبر علاقاتهم من الصفقات التجارية المربحة. يدير خال الامير، رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان، مؤسسات تتداخل فيها الصفقات العامة بالارباح الخاصة. يمارس الشيخ الحكم منذ 1961 وقد ملأ الادارة باتباعه الخاصين حيث يوجد ثمانية من آل خليفة في الحكومة وغيرهم بعدد اكبر في ادارات اخرى. يختصر احد الخبراء الاقتصاديين المعارضين الوضع بالقول: "انه يدير الحكومة كأنها شركته الخاصة".

وتلعب الارض دوراً مهماً في هذا التعطش للربح. ويتنافس كبار اعضاء العائلة الحاكمة للسيطرة على اراض واسعة بدون اصحاب اذ يفترض ان تكون ملكاً للدولة في الاحوال الطبيعية. وقد حصل هؤلاء على عدد من الجزر الثلاث والثلاثين التي يتشكل منها الارخبيل. يردمون البحر ويبيعون الارض من المواطنين الذين يضطرون ايضاً لدفع الكلفة الى الدولة.

هناك من جهة اخرى مداخيل "تأشيرات الدخول الحرة"، اذ يرعى آل خليفة واصدقاؤهم استيراد العمال الاجانب. ويتقاضون من كل عامل رسماً سنوياً قد يصل الى 1500 دولار. ويبلغ عدد هؤلاء العمال 200 الف نصفهم من الهنود ويمثلون 70 في المئة من اليد العاملة الاجمالية. وهم في حال تنافس مباشر مع البحرانيين الذين يقومون بالاعمال اليدوية خلافاً لما هو رائج في بلدان الخليج الغنية. وتبلغ البطالة نسبة مرتفعة تصل الى 30 في المئة واكثر في اوساط الشيعة. يقول احد الخبراء الاقتصاديين ان قراهم "تشبه ما يمكن رؤيته في بنغلادش".

في هذه الاثناء بدأت الطبقة الوسطى بالاستدانة وهي عانت من التدهور العام، من هرب الشركات الاجنبية والاستثمارات وكذلك من سنوات الاضطراب التي اضرت بالاقتصاد القائم على الخدمات.

تلك هي اذاً تجاوزات السلطة التي يفترض بالجمعية الوطنية العائدة مواجهتها. لكن يبقى السؤال قائما حول نوع المؤسسات المطروح اذ يقوم كل شيء على حسن ارادة الامير، الشيخ حمد، الذي وصل بالاصلاح الى حد لم يتوقعه احد كما يجمع على ذلك المراقبون. ويعترف العكري: "لقد برهن عن شجاعة لكن عليه مواجهة مهمة انشاء دولة ديموقوراطية حقيقية". وسوف يجد نفسه على الارجح في حال تمزق بين ميوله القديمة، العشائرية والبطريركية، ونزعته الديموقراطية التي اكتشفها حديثاً، وبين الارتهان المستمر لاداة حكم موالية وضرورة اشراك المجتمع باكمله. والنزاع ليس فقط نزاعاً داخلياُ يعاني الملك بل يمكن ان يؤدي الى مواجهة بينه هو وولي العهد من جهة و "الحرس القديم" بقيادة رئيس الوزراء الذي يخوض معركة سرية وخفية ضد الاصلاحات من جهة اخرى.

في الصيغة الاساسية كان الميثاق الوطني يتمتع بسلطة اعلى من سلطة الدستور كما تعطى سلطات تشريعية ليس فقط للمجلس المنتخب بل ايضاً لمجلس الشورى الجديد. لكن خلال النقاشات الصاخبة ومن اجل الحصول على موافقة المعارضة قبل الامير باولوية الدستور وبحصر التشريع في المجلس المنتخب. كذلك وجد مسؤولو المعارضة في تسمية الموالين رئيس الوزراء في لجنة تعديل الدستور اشارة لا تدل على حسن نية. ويقول احد المعارضين: "انه يحاول بالتأكيد تحميلنا فشل الجمعية الوطنية التي سيكون لها سلطات اقل من 25 سنة مضت. كيف يمكننا الحصول على اصلاحات من دون التخلص من المسؤولين عما نريد اصلاحه؟".

حتى ولو ان الشيخ حمد في توجهه الشعبوي الجديد يدرك ضرورة تطهير كهذا فانه يشعر في طبيعة الحال بالقلق. ويبقى الحفاظ على كرامة العائلة الحاكمة وتماسكها احد الاهتمامات التي تثقل كاهل الامير الذي سيصير ملكاً. فهو اكتفى حتى الآن بحرب الانهاك وبمشاركة ولي العهد في اجتماعات الحكومة الى جانب رئيس الوزراء.

لكن حتى لو توقع المواجهة فهو يعتبر ان ميزان القوى الحالي لا يسمح له بالمخاطرة. فالمواجهة قد تثير ردة فعل الحرس القديم الذي لا يزال يسيطر على مؤسسات السلطة. ذلك ان هذا الحرس القديم خائف كما يوضح ذلك احد مناضلي حقوق الانسان: "عندما تفتح ملفات حقوق الانسان والفساد، لا احد يعرف الى اين يمكن ان تصل. فلدينا نحن ايضاً مسؤولون مثل ميلوسيفيتش وبينوشيه والبعض منا يطالب بتعويضات".

لكن بانتظار ذلك فان قوى الاعتدال تسيطر في صفوف المعارضة وسيزداد نفوذها كلما تبين ان ثقتها بالامير كانت في محلها وانه سيقوم بتنفيذ ما وعد به. وتقول المعارضة ان لا وجود لحل بديل في نهاية المطاف. بالطبع ان الامير هو الذي اقترح الاصلاحات لكن انتفاضة الشعب ارغمته على ذلك. واذا خاب ظن الشعب واعاد اطلاق التمرد؟ يقول احد الصحافيين المعارضين: "لن يكتفوا عند ذلك بالمطالبة ببرلمان ودستور بل باستبدال آل خليفة".

No comments: